المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: دم المماليك (9).. المظفر بيبرس الجاشكنير.. السلطان المطرود بزفّة من الشعب

10/22 10:29

ما كان يمر به السلطان المظفر بيبرس الجاشنكير هو اكثر ما يستحق ان يوصف بان العالم يتهاوي من حوله!

تابع بنظراته الزائغه جنده وهم يقومون -عمليا- بنهب خزائن القلعه تنفيذًا لاوامره ليصطحبها معه الي منفاه، ثم بعد بلوغه مامنه يُعلِن الامراء للعامه رسميا نزوله عن الحكم للناصر محمد بن قلاوون المعسكر بجيشه وانصاره عند حدود مصر والشام مستعدا لدهم البلاد واسترداد عرشه وعرش ابيه.

مجهود سنوات من الرقص علي احبال السياسه والسلطه يُسحَق كعود خوص هش دعسته قدم فيل.

استوقف بعض رجاله وساله عن نائبه “سلار”.. اين اختفي، فاجابته نظرات الخيبه الصامته.

عاد بافكاره للناصر محمد.. بحق الله! لقد اهمل امر هذا الفتي، غرّه تكرار وضعه علي العرش وخلعه عنه.. المره الاولي كانت تنصيبه وهو ابن تسع سنين بعد مقتل اخيه الاكبر خليل، ثم خلعه كتبغا وحبسه في الحرملك لينفيه بعدها للكرك، ثم خلع لاجين كتبغا وارسل للناصر يخبره انه وان تلقب بالسلطان، فانه في حقيقه الامر ينوب عنه حتي يرشد، فيرد له عرشه مقابل ان يصبح هو -لاجين- نائبا علي الشام كما كان سابقا، وبغض النظر عن مدي اتفاق نوايا لاجين مع وعده فان الناصر قد عاد لكرسي السلطنه وهو ابن اربعه عشر عاما باتفاق الامراء عليه بعد مقتل لاجين، وتربع السلطان المراهق علي العرش، وحلف له الامراء ايمان الولاء وصار سلار نائب السلطنه وبيبرس الجاشنكير “الاستادار” (القائم باداره البيت السلطاني ونفقاته واحتياجاته).

بيبرس وسلار متنافسان وحليفان في ان واحد، لم يمنع اختلاف الجنس -بيبرس جركسي وسلار مغولي- اتفاقهما ولم يمنع توافق المصالح توجيه كل منهما بعضا من نغزات المهاميز في جنب الاخر.. يعين بيبرس احد رجاله وزيرا فيضع سلار احد اتباعه كاتبا للسر، يدعم احدهما بعض الامراء فيؤيد الاخر خصومهم، لكنهما يدا واحده علي مبدا واحد: التضييق علي الناصر في تصرفاته ومحاصرته بحيث لا يكون نصيبه من السلطنه سوي الاسم دون الفعل.. ابتلعا البلد عمليا وانشغلا ومعهما باقي الامراء في تبادُل المعموليات والمعموليات المضاده، حتي انهار الامن الداخلي واستقوت عصابات عربان الصعيد فصار المنسَر (اللصوص المسلحون) يهاجمون القري ويعبثون بها. ولان اهل مصر ابناء نكته فقد غيّر اكبر شيخان للمنسر اسميهما، فحمل احدهما اسم بيبرس والاخر اسم سلار كانما يقولان ضمنيا “نحن لصوص وانتم لصوص، فقط نحن نسرق بعض المواشي والغلال وانتما تسرقان الدوله كلها”، ولان السلطه لا تملك روح الدعابه فقد خرجت تجريده من القاهره لتدهم الصعيد وتوقع بالعربان مقتله مريعه.. هل تعرف التوسيط؟ هو ببساطه وسيله اعدام بضرب اسفل السره بسيف حاد لينفصل النصف السفلي للجسد عن ذلك العلوي وتتهدل الامعاء الي الارض.. حسنا.. بعض المؤرخون تحدثوا عن قيام جنود سلار وبيبرس بتنفيذ هذا العقاب بحق نحو عشره الاف من عربان الصعيد!

ثم يحصل الاميران الحليفان/الخصمان علي هدنه بسيطه من التامر الداخلي عندما هدد المغول الشام، ثم بعد الانتهاء -مؤقتا- من الخطر المغولي عادا للمعموليات والمهاميز والـ.. احم.. استغفر الله العظيم.

عشر سنوات علي هذا الحال، الناصر له لقب السلطنه والدعاء علي المنابر، وبيبرس وسلار لهما الفعل والحل والعقد.. كيف غفلا عن ان تلك السنوات كانت كافيه ليختفي ذلك الطفل المذعور المرتبك -محمد بن قلاوون- ويحل محله شاب شديد الدهاء يجيد التخطيط لاسترداد ما يراه حقا له؟

لم يحسا بخطره الا عندما عرفا من عيونهما المبثوثه حوله انه اتفق مع الامير بكتمر الجوكندار علي اعتقالهما فور صعودهما للقلعه للاجتماع بالسلطان، فسارعا بالتدخُل والاطاحه ببكتمر لبعض ولايات الشام وزادا من التضييق علي الشاب.. حتي استدعاهما يوما وابلغهما رغبته التوجه للحج مع حريمه وعياله فرحبا بالفكره علي سبيل الاستراحه من شكواه الدائمه من الحجر عليه.. ويخرج الناصر وقد احس المقربون منه من الامراء والمتعاطفون معه من العامه انه خروج المفارق لكرسي السلطنه، فيبكي الناس وهم يلوحون لموكبه الذي ما ان بلغ حدود مصر والشام حتي انحرف عن طريق الحج وتوجه الي الكرك بالاردن ليرسل من هناك رساله الي كل من بيبرس وسلار انه قد اختار اعتزال الحكم واعبائه وصراعاته، وترك لهم العرش يولونه من يشاءون.

يجز بيبرس علي اسنانه وهو يتذكر هذه النقطه.. فاعتزال الحكم كان اول حركه بالغه الدهاء للفتي الذي يدرك ان وجوده كسلطان صوري له شرعيه وراثيه هو الحائط المانع للصدام بين القطبين القويين بيبرس وسلار اللذان سارع كلا منهما للاجتماع برجاله واتباعه الذين اخذوا يزينون له الوثوب علي الكرسي، ولان سلار كان الاكثر دهاء والاكثر ادراكا ان السلطان القادم سيكون علي كف عفريت، فانه لم يخضع لالحاح انصاره، فكان اول ما نطق به في الاجتماع العام للامراء هو: “انا ما اصلح للسلطنه ولا يصلح لها الا اخي هذا” مشيرا لبيبرس الذي التقم رجاله الطعم فهتفوا له وجعلوا الجاويشيه (الجند) يهتفون باسمه من فوق اسوار القلعه.. وزاد سلار فطلب ان يسمح له السلطان بيبرس -باعتبار ما سيكون- ان يعتزل السياسه ويعيش ايامه الاخيره في دعه وسلام، فحاول هذا الاخير رد التوريطه له وقال: “ان ما كنت انت تعمل نائب لي انا ما اعمل سلطان!”.. وهكذا كان.. فصار بيبرس هو السلطان المظفر ركن بيبرس الجاشنكير، والامير سلار نائب السلطنه وكافل الممالك، ودعما ذلك باعلان مباركه الخليفه العباسي -الالعوبه- وقضاه الشرع الشريف لذلك.

وكانما كانت تلك فاتحه العواصف.. فكبار نواب الشام صاروا بين رافض للاعتراف بحكم بيبرس او منتفض عليه بعد اعتراف سابق بسبب الوعد والوعيد.

وفي نفس الوقت بلغت السلطان انباء ان الناصر يكثر من الركوب للصيد في انحاء الكرك، فخشي ان يكون انتقاله اليها مجرد مناوره للاستقواء ثم العوده لمصر وانتزاع العرش.. وفي حركه هوجاء سارع بيبرس بارسال بعض امرائه للناصر يطالبه بجفاء ان يعيد ما حمل معه من اموال وخيول وان يكتفي في الكرك بعشره مماليك يخدمونه، ويرد الناصر مستعطفا السلطان ومخاطبا اياه بان “وانا لم اعرف ابا لي غيرك فانت الذي رباني”، فيعيد السلطان طلبه بالحاح.. وهنا تصبح للناصر ذريعه لاستعداء المتمردين من امراء الشام علي بيبرس، فيراسلهم مخاطبا فيهم الولاء لابيه الراحل قلاوون بحكم ان اغلبهم من مماليكه، ويشكو لهم مما يلقي من مضايقه السلطان له، فينضمون واحدا تلو الاخر له، وحتي جمال الدين الافرم -نائب الشام- الممانع للتمرد علي بيبرس يغير موقفه فينضم لجبهه الناصر، ويهتف له الناس في مسجد دمشق.. ويتسرب الجند والامراء من القاهره عند بيبرس لينضموا للناصر ويعلنون له الولاء، والناصر يتقدم بكل هؤلاء حتي يصل الي غزه ويستعد ليدهم غريمه في عقر داره.

اما في القاهره فقد تكالبت المصائب علي السلطان.. فالنيل لم يوف الارتفاع المطلوب، والناس يتحدثون بان بيبرس هذا قدمه شؤم علي البلاد، فيسخرون منه ومن نائبه ويغنون “سلطاننا ركين.. ونايبه دقين.. يجيء الماء من اين.. هاتوا لنا الاعرج ياتي الماء يدحرج” (ركين تحريف لركن الدين، ودقين لان النائب سلار كانت لحيته خفيفه والاعرج كنايه عن الناصر لان كان به عرجا من اصابه سابقه).. ويقولون: “الله يخون من يخون ابن قلاوون”، ولان السلطان الجديد ارعن واهوج، فانه لا يمتص غضب العامه بل يعتقل جمعا منهم تظاهروا عند القلعه فيرسم بضرب بعضهم بالمقارع وتجريسه في القاهره، وقطع السنه البعض الاخر.. فلا يردعهم هذا..  فعندما اقتربت قوات الناصر من مصر، وطلب بيبرس من الخليفه ان يجدد العهد له كسلطان للمسلمين وان يقراه القضاه في المسجد الكبير، هتف العامه ضد السلطان بـ “لا.. لا نرضاه” وعندما بلغ القاضي في قراءه الكتاب مقطعا يتهم فيه الخليفه الناصر انه “خارجي” وان قتاله واجب، هب العوام وهتفوا بحياه الناصر وسلطنته، وانطلقت المظاهرات المؤيده له تجوب القاهره وتحاصر قلعه الجبل.

وسلار كل هذا في اختفاء ومراوغه.. واتباع بيبرس يشيرون له كل حين باصبع اتهام ان لابد ان له يدا فيما يجري.. وبيبرس لا يتخذ موقفا من ذلك.. واخيرا ينطق سلار وينصح السلطان بالنزول عن العرش ومراسله الناصر لطلب الامان لنفسه.. وبالفعل نفذ بيبرس النصيحه وخلع نفسه بحضور قضاه المذاهب الاربعه، وارسل للناصر الذي كان يستعد للمعركه يبلغه قراره ويطلب منه السماح له بالاقامه في بعض مدن الشام.. ما لم يعرفه بيبرس ان الساعه التي نزل فيها عن العرش كانت نفس ساعه وصول الناصر لمصر، وان هذا الاخير حين بلغه خبر استسلام خصمه، صاح “الحمد لله الذي حقن دماء المسلمين”

اقترب احد رجاله منه.. اخرجه من شروده مخبرا اياه ان الجند قد حمّلوا الخزائن علي ظهور الدواب، فاشار له بالانطلاق وانه سيلحق به.. بقي يتامل الكرسي شاردا، ثم غادر القاعه لينطلق بالقافله قبل ان يشعر العوام بما يحدث في القلعه.

لا يعرف من اين جاء اول حجر، لكن سرعان ما انهالت علي الرَكب امطار من الاحجار والاوساخ من كل اتجاه، ثم تبعتها جحافل من العوام المسلح رجالهم بالهراوات والسكاكين والاحجار، ونساؤهم بالسباب النسواني المسجوع والزغاريد المحرضه.. القافله المستتره في الظلام تحولت الي زفه داميه احياها اهل المحروسه.. حاول الجند ان يستلوا سيوفهم، لكن سيدهم المخلوع ادرك انهم ان اسقطوا واحدا برز عوضا عنه عشر، فامرهم بالقاء حفنات من الذهب علي الناس لينشغلوا بها، لكن الناس تجاهلوا الذهب وداسوه وهم يتقدمون من موكب الفرار.. يلمح بيبرس مشاهد متقطعه..هذا رجل اربعيني يحاول اسقاط بعض الجند عن خيلهم وذاك صبي يصوّب الي الرؤوس احجارا صغيره حاده الاطراف، وهذه امراه تزغرد مشلشله بطرحتها وهي تؤدي باصابعها رقصه بذيئه علي شرف السلطان الهارب.. لا يجدي نثر الذهب نفعا، فيعود الجند لاستلال سيوفهم وهم يسرعون بالفرار. ورغم ضاله عدد الجنود مقارنه بالناس، الا ان المهاجِمين قد التزموا اماكنهم واوقفوا الهجوم وتراصوا في وضع الفُرجه بين متكيء علي هراوته وداس لسكينه في حزامه ولم يتقدم منهم سوي غلام حافٍ متسخ الوجه والملبس سلت سرواله وصوب بوله بحماس باتجاه الرَكب الهارب وهو يرقص خصره بسخريه.. يستغرب المخلوع امتناع العامه عن استكمال هجومهم، ثم يدرك انهم قد فضَلوا تركه يحيا بتلك الذكري المخزيه عن احتمال ان ينال في قتاله معهم قتله تغسل بعض عار فراره.. اهل مصر ابناء نكته.. وهم يجيدون توجيه النكات القاسيه!

من القاهره توجه الي قريه اطفيح بالجيزه.. راسل السلطان طالبا الامان لنفسه، شجّعه ان سلار حصل علي امان مماثل وسُمِحَ له بالاعتزال والسفر الي الشوبك بالاردن.. ارسل له السلطان منديل الامان.. رغم شعوره بالاطمئنان نسبيا، الا انه حاول الفرار الي الشام، فاتخذها الناصر ذريعه وامر باعتقاله واحضاره اليه.

جحظت عيناه حتي اختلطت الالوان في بصره ثم اسودت الرؤيه.. احتقنت عروقه وبرزت فكانها ستمزق جلد وجهه المحمر.. شعر بالدم السائل من جلده الممزق من اثر ضغط الوتر علي عنقه يلوث اعلي جسده، وبوله الذي فقد السيطره عليه يلوث اسفله.. سلخ الوتر جلد عنقه بعد ان انهار ارتكازه علي قدميه، فصار معلقا بكل ثقل جسده من الوتر القابض علي طرفيه المشاعلي (الجلاد) الذي خفف ضغطه باشاره من يد السلطان الناصر محمد بن قلاوون.. تقدم هذا الاخير من بيبرس الجاشنكير، فجذب الجلاد ضحيته مجبرا اياه علي الاعتدال في حضره السلطان، الذي قال له بهدوء لا يشي بالاعصار المعربد بداخله: “لا لا.. لا تمت الان.. اعط نفسك فرصه بينما انت تُعذب ان تتذكر كل مره ضيقت فيها عليّ وحجرت فيها علي حقي.. تذكر كم شفاعه لي في انسان رددتها.. كم امر لي اسقطته”.. تامل بتمعُن متشفي سلخه جلد متدليه من تحت الوتر نصف المضغوط علي العنق واردف: “بل انك حتي ضيقت عليّ في طعامي.. تذكر ذلك اليوم الذي اشتهيت فيه اوزه مشويه؟ اتذكر ردك جيدا: ماذا يفعل بالاوز.. اهو الاكل عشرين مره في اليوم؟”.. داعب سلخه الجلد الداميه بطرف سبابته، ثم باشمئزاز الدم العالق بالسبابه بثوب بيبرس، ثم استطرد وهو يشير للمشاعلي ان يكمل عمله: “لعلك اذن تكفّر عن حرمانك اياي متعي البريئه بمنحي متعه مشاهدتك وانت تُحرَم حتي انفاسك الاخيره!”

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل