المحتوى الرئيسى

عمرو بقلي يكتب: في محاولات إمساك العصا من المنتصف، المعضلة التاريخية للقيادة الفلسطينية | ساسة بوست

10/20 17:06

منذ 3 دقائق، 20 اكتوبر,2015

يبدو ان ذاكره الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد اسقطت تلك التجربه المريره للسلطه الفلسطينيه بعد فشل عمليه السلام في اواخر القرن العشرين برعايه كلينتون في منتج كامب ديفيد، حيث فشل طرفا المفاوضات فيما وراء المحيط، في ايجاد صيغه توافق حول المسار النهائي لما سمي بقضيه الشرق الاوسط، عاد ياسر عرفات وايهود باراك، ليلقي كلاهما نتيجه الفشل علي ارضه وعلي حساب سلطته او سيطرته علي الوضع السياسي الداخلي، فائتلاف باراك الحاكم يتهاوي لصالح غريمه الداخلي التقليدي ليكود، وعلي الجانب الاخر تنحسر السطوه العرفاتيه علي الواقع الفلسطيني لصالح الغريم الصاعد حماس، ولم ينقص المنافسان، ليكود وحماس، سوي شراره التفجير الداخلي، فكان اقتحام شارون للاقصي، فكانت الإنتفاضة الفلسطينية الثانية.

سقط عرفات كعادته في فخ محاولات امساك العصا من المنتصف في ازمه الانتفاضه الثانيه، التي يمكن وصفها بانها الازمه الاخيره والقاصمه للقائد الفلسطيني التاريخي، تلك السياسه التي لم يكل ولم يمل عرفات في استعمالها وقت الحصار والازمات، في كل مره تفشل ويتحمل الفلسطينيون وعرفات نفسه تبعات وخيمه، لكنه يعود ويكررها رغم حنكه القائد الفلسطيني ومهارته، ويبدو انها صارت طابعًا راسخًا في العقل الباطن للقياده الفلسطينيه منذ بدايه الثوره الفلسطينيه في اواخر ستينيات القرن الماضي، حين استطاعت حركه فتح الهيمنه علي القرار الفلسطيني، واستطاع عرفات ان يكون علي راس منظمه التحرير الفلسطينيه حتي وفاته.

خلقت حركه فتح علي مدي تاريخها توازنـًا فلسطينيًا منذ صعودها بعد حرب الايام الست، وحتي نهايه عقد الثمانينات، نظرًا للطبيعه الايديولوجيه المتباينه بين مؤسسيها، فهم خليط من القوميين العرب والاخوان المسلمين، حفظ هذا التوازن للحركه، نوعًا من الاعتدال علي الساحه الفلسطينيه مما جعلها تحظي تقريبًا بالدعم الاعتي والعضويه الاكبر من قبل الفلسطنيين، كما ان التوازن الايديولوجي العربي الاسلامي، سهل لها ان تبقي في المنتصف من شطري الصراع العربي العربي البارد بين الانظمه الملكيه التقليديه والجمهوريات التقدميه، كما كان الوصف سائدًا انذاك.

كل هذه العوامل سهلت لحركه فتح ان تكون في صداره الفصائل الفلسطينيه وان تسيطر عمليًا علي منظمه التحرير، ويكون لها النفوذ الاوسع فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا دون باقي الفصائل حتي تلك المدعومه مباشره من الاتحاد السوفييتي، لكن هذا التباين في طبيعه الحركه جعلها ولعقود عاجزه عن حل ازمتها الايديولوجيه الداخليه، خاصه انها ظلت ازمه مكتومه طالما كان الموضوع الرئيسي هو الصراع المسلح مع اسرائيل، فهذا التباين عندما نصل الي مرحله السياسه يتحول عمليًا لموطن خلل، ومن ميزه في خلق التوازن، الي معضله في بناء رؤيه سياسيه مستقبليه، منذ ازمه ذلك الصراع العنيف في الاردن الذي انتهي بمجزره ايلول الاسود، ونهايه بكل الازمات التي واكبت فشل كل محاولات احياء المفاوضات خلال الاعوام العشر الاخيره، وما نتج عن قرار السلطه الفلسطينيه بالتوجه للجمعيه العامه للامم المتحده، شريط من الاحداث قد يبدو متباعدًا، لكن تلك السياسه “الوسطيه” نسجت منه شريطـًا مترابطـًا قد يفسر بعدًا من ابعاد المعضله الفلسطينيه.

حاول ياسر عرفات منذ هيمنته علي الوضع الفلسطيني، ان يجمع دائمًا النقائض، ولعل السياسه تقتضي ذلك احيانـًا اذا كنت بصدد تسيير العلاقات المحليه والدوليه المتشابكه، لكن عندما تتصرف كتنظيم ثوري يسعي للخلط ما بين الثوره والدوله، تظهر الازمه، بدات الازمه طاحنه في الاردن، حاول عرفات ان يهيمن علي الاردن لصالح قضيته، رفض شراكه السلطه التي عرضها الملك حسين، رفض ايضًا كبح جماح المنظمات التي غرقت في المراهقه الثوريه، فكانت النتيجه صراعًا دمويًا في الاردن، لم يجد فيه عرفات من الدعم الداخلي، ولا العربي ما يمكنه من ان يحسم لصالحه، فكانت المحصله دون الخوض في حكايه ايلول الاسود، هي الطرد من الاردن وضعضعه المنظمه عسكريًا.

انتقلت المنظمه بحكم الواقع الي لبنان الذي لم يبق غيره كمنصه انطلاق للثوره الفلسطينيه، ذاك البلد المتناقض اصلاً، نتج عن هذا التناقض مساحه واسعه شاغره بامكان منظمه التحرير ان تشغلها، اعلن عرفات منذ البدايه عدم انشغاله بالسياسه اللبنانيه، تمامًا كما قال في الاردن، وتمامًا كما فعل في الاردن.

الفارق ان النظام اللبناني اضعف من النظام الاردني، فضلاً عن الصيغه اللبنانيه الهشه بسبب التباين الطائفي، حاول عرفات في البدايه ان يحافظ علي دعم النخبه الحاكمه، واستطاع ان يظفر باتفاق القاهره، ولاسباب داخليه لبنانيه، نجح في الانفراد التام بالسيطره علي المخيمات، التي تحولت لاحقـًا الي دوله داخل الدوله، لا تملك السلطات اللبنانيه اي سلطان عليها، ولاحقـًا نصف بيروت والجنوب اللبناني، وهنا يمكن القول ان عرفات اسس عمليًا ولاكثر من عشر سنوات ما سمي اعلاميا بجمهوريه الفاكهاني، بات الطرف الاقوي علي الساحه اللبنانيه.

ومع انقسام لبنان وتفكك مؤسسات الجيش والامن، نشا التناقض مجددًا، الثوره ام الدوله، التوطين في لبنان ام الحل السياسي، اختار عرفات ايضًا ان يبقي في المنتصف، لا حل سياسي ولا تحرير، لا توطين ولا خضوع للدوله اللبنانيه، استمر الامر في حاله العبث نفسها الي ان جاء شارون نفسه الي بيروت!

حتي في مساله الحل السياسي حاول عرفات ايضًا ان يحافظ علي مصر والسادات، الداعم الرئيسي له من اجل مسار التسويه السياسيه، بينما حاول ايضًا الحفاظ علي سوريا المعاديه لمسار مصر السياسي نحو التسويه والمعاديه له هو شخصيًا، ليضمن بقاءً في لبنان وليضمن ايضًا قدره الحصول علي امدادات السلاح التي كانت عمليًا تتم عبر سوريا، فضلاً عن محاولته للحفاظ علي علاقاته الخليجيه ايضًا، ومحاوله ايجاد مساحه في المنتصف من ذلك الصراع البعثي البعثي بين دمشق وبغداد، كثير من التشابك الذي لا يملك له عرفات حلاً سوي مسك العصا من المنتصف، ليكون يوم الاجتياح الاسرائيلي للبنان في قطيعه مع مصر وخلاف واتهامات لسوريا بالتواطؤ ضد الثوره الفلسطينيه!

في اثناء ازمه الخليج الثانيه، بقي عرفات في دور المحايد السلبي مجددًا، فلا ايد العراق ولا ايد التحالف الدولي ولا ادان العراق ولا ادان التحالف الدولي، خاف من خساره داعمه الاساسي انذاك، صدام حسين غريم حافظ الاسد، الراغبين في الهيمنه علي القرار الفلسطيني، لكن فرص الاسد اعلي، خشي من الوضع الفلسطيني الداخلي المتعاطف مع صدام نظرًا لاستهدافه اسرائيل، فخرج خاسرًا للدعم الخليجي، وخاسرًا في لبنان الذي هيمنت عليه سوريا، وخاسرًا امام حماس التي بدات في جذب الدعم الخليجي، وخاسرًا مع العراق المهزوم عسكريًا، وضعيفـًا في مواجهه الاسرائيليين في المفاوضات التي كانت قد بدات في الظل برعايه الامريكيين، ليخسر لاحقـًا العراق ايضًا عندما اضطر للذهاب الي مدريد ومن بعدها اوسلو، وليتوجه الدعم العراقي للغريم الفلسطيني الجديد حماس، التي افشلت مرارًا وتكرارًا كل محاولات التسويه السياسيه مع اسرائيل.

اكتمل مسلسل جمع التناقضات بعد بناء السلطه الفلسطينيه، فبناء السلطه الفلسطينيه اقتضي تعديل ميثاق منظمه التحرير لتعلن التخلي عن الكفاح المسلح، والاعتراف باسرائيل، والاعتراف بحدود الرابع من يونيو كحدود نهائيه للدوله الفلسطينيه، مع تاجيل البت في المسائل الخلافيه الكبري كالمستوطنات واللاجئين والقدس، سار عرفات في مسار محاوله لملمه الوضع الفلسطيني وبناء مؤسسات السلطه وسط صراعات عنيفه خارجيه وداخليه، جعلت تلك الصراعات عرفات يلجا الي سياسه جمع النقيضين نفسه.

فعلي المستوي الداخلي والعربي، كان عرفات ثوريًا مؤمنـًا بالكفاح المسلح ومتغاضيًا عن افعال كثير من الفصائل الفلسطينيه التي تلجا للعنف واحيانـًا الارهاب ضد المدنيين بالمخالفه للميثاق الجديد لمنظمه التحرير، لدرجه اوصلت التناقض الي حد تاسيس حركه فتح لجناح عسكري جديد اسمته “شهداء الاقصي” بامر من ياسر عرفات نفسه مع اشتعال الانتفاضه الثانيه، بينما علي المستوي الدولي فعرفات يتحدث عن السلام ويدين العمليات العنفيه ضد المدنيين الاسرائيليين ويؤكد علي تعنت الجانب الاسرائيلي في مفاوضات السلام، فشل عرفات مجددًا في كبح التطرف علي الساحه الفلسطينيه، بل قرر مغازله التطرف الفلسطيني الرافض للتسويه السياسيه، نسي عرفات انه ومنذ بدا الحوار المباشر في تونس مع الاداره الامريكيه بات عليه ان يختار وفقـًا لمقولته التاريخيه، اما البندقيه واما غصن الزيتون.

كانت اللحظه السياسيه الاخيره لعرفات، عندما قررت الاداره الامريكيه، الراعي الاساسي للتسويه السياسيه، مقاطعته، ولم يلق القرار الامريكي رفضًا موضوعيًا من الجانب العربي، نظرًا لتناقص رصيد عرفات الي الحد الادني بعدما فشل عمليًا في اداره الوضع الفلسطيني في طور الدوله، سواء محليًا او عربيًا او دوليًا، فعلي البعد المحلي لم يكن لدي عرفات سوي الحل الامن، وعلي الجانب العربي، تهاوي العراق الداعم الاخير ماليًا، وعلي السلطه ان تفي بشروط الدول المانحه في اوربا وامريكا الشماليه، بقي عرفات عمليًا تحت الحصار سياسيًا منذ انحسار الانتفاضه الثانيه وحتي وفاته في فرنسا، توفي تاركـًا تركه ثقيله وفراغًا واسعًا نظرًا لاحتكاره القياده الفلسطينيه لعقود، مع كثير من الخسائر الداخليه لصالح حماس، التي باتت رقمًا اقليميًا.

تسلم محمود عباس تلك التركه الثقيله، ليواجه قرار شارون الاحادي بالانسحاب من قطاع غزه مع تفكيك كافه مستوطنات القطاع، استطاعت حماس ان تسوق الانسحاب سياسيًا لصالحها، حاول عباس لملمه الوضع الفلسطيني عبر اجراء انتخابات تشريعيه وفقـًا لاتفاق اوسلو، شاركت فيها حماس للمره الاولي واستطاعت ان تحصل علي اغلبيه مقاعد المجلس التشريعي وان يكون لها حق تشكيل الحكومه، وقع التناقض، فحماس لا تعترف باسرائيل، ولا تريد الاعتراف بكافه الاتفاقات الموقعه (الا تلك البنود التي سمحت لها بالمكسب السياسي علي حساب فتح)، مما يهدد التدفقات النقديه من المانحين.

اضطر عباس الي السياسه التقليديه نفسها بمسك العصا من المنتصف بدلاً من مواجهه حماس سياسيًا، فكلف مرشح حماس اسماعيل هنيه بتشكيل الحكومه العاشره التي كانت حمساويه في معظمها، فشلت الحكومه في حل ازمه المانحين، وطلت بوادر الانقسام الفلسطيني برفض الاجهزه الامنيه التعاون مع الحكومه، لجا عباس لمنتصف العصا مجددًا، كلف هنيه مجددًا بتشكيل حكومه وحده وطنيه بين حماس وفتح، لم تصمد لتسعين يومًا، ثم انهارت مع انقلاب حماس في قطاع غزه، ليصل الوضع الفلسطيني لاقصي مراحل الانقسام في تاريخ الصراع كله، انقسام فاق الانقسام الاكثر دمويه في منتصف الثمانينات متمثلاً في حرب المخيمات في لبنان.

صحيح ان مسار محمود عباس يبدو اكثر ميلاً تجاه الحلول السياسيه، الا ان الازمات تحرق كثيرًا من اوراقه السياسيه وتدفعه نحو المتلازمه التاريخيه للقياده الفلسطينيه، وفي اوقات بات لا يصلح فيها امساك العصا من المنتصف، فالواقع اليوم ان عباس لا يسيطر مطلقـًا علي غزه، مصدر الصداع الامني الرئيسي لاسرائيل والدافع دائمًا لصعود اليمين الاسرائيلي انتخابيًا، مما يخلق مبررًا لحكومات اليمين الاسرائيلي، بالتملص من تنفيذ الاستحقاقات المقره منذ عام 1996، وبالتالي التعثر في كل مسار التسويه، بل بدا الضعف يضرب سيطره عباس ايضًا علي الضفه الغربيه، فضلاً عن تجمد النظام السياسي الفلسطيني فلم تجر ايه انتخابات منذ ثمان سنوات، وتراجع الاهتمام الدولي بعد الانهيارات المتتابعه في سوريا واليمن وليبيا والعراق وصعود تنظيم الدوله الاسلاميه، الذي جعل قضيه الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، في ذيل سلم الاولويات الدوليه والاقليميه.

الاضطراب الحالي في الضفه الغربيه، لا يضع عباسًا وحده في المازق، بل يضع الفلسطنيين جميعًا امام خيارين طال التملص الفلسطيني من حسم اختيار احدهما، “البندقيه ام غصن الزيتون”، لم تعد الازمه بين فتح او حماس، بل باتت عمليًا انقسامًا فلسطينيًا موضوعيًا حول رؤيه المستقبل الفلسطيني، هل يقرر الفلسطينيون الانحياز للخيار الاول وهو البندقيه ومن ثم اسقاط المسار السلمي، فحل السلطه الفلسطينيه والغاء كل ما وقع من اتفاقات مع اسرائيل والمضي في مسار المواجهه المسلحه بكل ما فيه من كلفه ومغامره، الذي لا اعتقد بانه سيحقق شيئًا سوي المزيد من الانقسام والدماء الفلسطينيه، ام الخيار الثاني، غصن الزيتون، والقبول بواقع النضال السياسي الصعب من اجل اقامه الدوله المحرره بكل ما قد يترتب عليه من تنازلات.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل