المحتوى الرئيسى

د. أحمد خالد توفيق يكتب عن الـ MMR والنصب وأشياء أخرى

10/19 10:33

لا كرامه لنبي في وطنه.. هي مقوله شائعه وصادقه بالتاكيد.

لا كرامه لنبي في وطنه.. موافق تماما. المشكله الحقيقيه هي ان النصابين يعرفون هذه المقوله جيدا ويلعبون عليها بحكمه لاعتصار عواطف الناس. وهكذا يمكننا – دون خطا كبير – ان نقول ان النبي الكذاب ينال اعظم المجد في وطنه، ولا يستطيع احد مناقشته.

بما انني امارس مهنه الطب فقد عرفت عددا هائلا من هؤلاء العلماء النصابين، الذين يمارسون كافه طقوس العلم الزائف بنجاح تام، ومن علامات العلم الزائف الشهيره ان الطبيب النصاب لا يلجا في عرض نتائجه العلميه الي زملاء المهنه، بل يلجا الي الصحافه، وبما ان الصحافه غير متخصصه، فهي تقبل ما يقوله وتنفعل.. يمضي الرجل وعلي وجهه علامات المراره مرددا في كل مكان:

ـ “للاسف لدينا العلم كله، لكن لا كرامه لنبي في وطنه.. نحن نقبل ما يقوله الاجنبي، بينما نعامل علماء وطننا العباقره اسوا معامله”

هكذا تسيل الدموع وينفعل الجميع.. ويبصقون في وجوهنا – نحن الذين جرؤنا علي التدقيق العلمي في اكتشاف هذا العالم -باعتبارنا مجموعه من الفاشلين الذين لا يهمهم سوي تدمير الناجحين. قال لنا مدير شركه دواء شهيره ان شعار المصريين هو PHD ومعناها في مصر ليس (الدكتوراه في الفلسفه)، بل (ادفعوه لاسفل Push him down) ربما كان هذا صحيحا، لكن النتيجه هي ان اي اكتشاف وهمي يمر في مصر ويجد من يدافع عنه في شراسه.

اذكر ان الاستاذ احمد رجب الساخر الجميل كتب سلسله مقالات يهاجم فيها الجهل المخيم علي العقل العربي.. لقد زاره طبيب يؤكد انه صاحب نظريه المناعه العربيه -يعلم الله ما هي- واقنعه انه لا يوجد شيء اسمه الالتهاب الكبدي ج.. هذه خرافه اخترعتها الشركات المنتجه للانترفيرون لتجمع المليارات.. انفعل الاديب الكبير وكتب عده مقالات يؤيد فيها هذا الطبيب. بالطبع لا يملك احمد رجب ادوات القياس لخبر كهذا، فهو غير متخصص طبيا.. انا مثلاً لو قرات خبرا عن (اختراع ياباني لتحويل الضوء المستقطب الي فلزات ايونيه متناظره يمكنها تشغيل السايكلوترونات بكفاءه) لصدقت الامر بسهوله تامه.

في الثمانينيات كان هناك استاذ جراحه شهير مولع بالشهره، قال هذا الاستاذ انه ذهب للكونغو وتوصل خلال شهرين الي علاج الايدز واطلق عليه MM1. سبب هذا الاسم الغريب هو تملق طاغيتين هما مبارك وموبوتو حاكم الكونغو.. ما شاء الله! اكتشاف علاج الايدز في ستين يوما! من قال اننا لا نملك عباقره؟ بعدها اعلن انه اكتشف علاج الروماتويد عن طريق حقن يعطيها في عيادته.. جميل جدا.. نريد معرفه تركيب هذه الحقن او علاج الايدز، لكنه رفض بشده، لانه يخشي مافيا الدواء ويخشي سرقه افكاره.. هكذا ثار المجتمع من اجل هذا العالم الجليل الذي سيرفع اسم مصر في المحافل الدوليه، ولما حاولت جامعه القاهره ان توقفه حفاظا علي مكانتها العلميه، خرجت كتيبه من الصحفيين في كل مكان تلعن ابا الجهل، وتلعن معاملتنا القاسيه للعلماء بسبب الحقد، وترددت العباره الكريهه (حزب اعداء النجاح).. وكان هناك اكثر من كاريكاتور رسمه مصطفي حسين في جريده الاخبار للطبيب وقد حبسه رئيس الجامعه في غرفه الفئران.

كان هذا الكلام في الثمانينيات، وعندما عقد الرجل مؤتمرا صحفيا، فقد خاطب الصحفيين ولم يخاطب الاطباء كما هي عاده العلم الزائف، وتجرا العظيم يوسف ادريس علي فضحه في مقال قوي جدا، لكن الطبيب الشهير فضل الصمت لانه يعرف ان حيله (لا كرامه لنبي في وطنه) لا تفشل ابدا.. فضل الصمت وترك القراء يردون ويتهمون يوسف ادريس بانه عدو النجاح!

واليوم مر ثلاثون عاما علي هذه القصه.. السؤال هو: اين هذا العلاج العبقري لداء الايدز؟.. العلاج الذي اقنع الناس بوجوده لدرجه ان فتي يعتقد انه جيمس بوند هاجم الفيلا، وقيد الطبيب وزوجته والخادمه وهددهم بالقتل ان لم يسلموه اوراق بحوث الايدز!

علي كل حال وصل الطبيب للعالميه فعلا، فقد خصصت مجله فرنسيه عددا خاصا عن النصابين ادعياء العلم، فكان هو اول اسم في القائمه!

كتب الاستاذ ابراهيم سعده مقالا كاملا عن هذا، وهكذا دخل اسم مصر المحافل الدوليه بسهوله!

تاريخ الطب في مصر مزدحم بامثال هذا الرجل، ونحن نعرف هوجه العلاج بالانزيمات وهوجه الاعشاب الطبيه التي تشفي الالتهاب الكبدي ج، وهوجه الحجامه من غير اساس علمي.. وهناك حشد من الادويه التي لا قيمه لها، لكن مبتكريها يعرفون كيف يفوزون برضا الصحافه، والصحافه تكتب عن العبقري المظلوم الذي ضاع حقه في بلد الجهل هذا! فاذا رفضت وزاره الصحه ابحاثه، فلانهم بالتاكيد قد تقاضوا مبالغ طائله من شركات الادويه.. الخ..

ننتقل الان الي العالم الخارجي لنري واحده من اشهر حالات اضطراب الرؤيه في تاريخ الطب.. السبب هو طبيب اخر عرف العالم مؤخرا انه نصاب، وهو بريطاني وسيم انيق يدعي (اندرو ويكفيلد).

انت تعرف ان الاطفال ياخذون لقاحا ثلاثيا مهما للوقايه من التهاب الغده النكفيه ومن الحصبه ومن الحصبه الالمانيه.. يطلقون عليه MMR.. في العام 1998 ظهرت دراسه في مجله بريطانيه محترمه هي (لانسيت). تزعم هذه الدراسه ان هذا اللقاح يسبب داء التوحد Autism الرهيب.  زعم ويكفيلد انه لاحظ الاطفال الذين تلقوا لقاح MMR وكيف ظهرت عندهم اعراض داء التوحد بعد 14 شهرا، مع مرض غريب وصفه لاول مره واطلق عليه التهاب القولون المتوحد، وقد اقترح ان السبب هو اللقاح الثلاثي، وراي انه ربما كان من الانسب ان يتم اعطاء كل لقاح علي حده.

مجله لانسيت مجله محترمه لها قوانين صارمه للنشر، وانا شخصيا ممن يعتبرون كل حرف ينشر فيها حقيقه لا تقبل الجدل.. لاحظ ان هذا الرجل جريء ولا يتصرف كالنصابين.. لم ينشر في جريده شعبيه اولا، وانما دخل معقل الاسد: مجله (لانسيت) شخصيا حيث يربض العلماء المستعدون لالتهامه.

من وقت لاخر تثار اسئله كثيره حول اللقاحات، خاصه تلك الماده التي تضاف للقاح لزياده مساحه سطح الماده المستضده وفعاليه اللقاح. الماده تدعي Adjuvant . مثلا في فوضي انفلونزا الخنازير، صار من المعتاد ان تفتح صندوق بريدك لتجد تحذيرا من وزيره الصحه الفنلنديه – وهي ليست وزيره صحه فنلنديه –  او من امراه تدعي ساره ستون.. كان الخوف يتركز علي ماده السكوالين التي اتهموها بكل شيء تقريبا، والاهم انهم قالوا ان ضررها لن يظهر قبل عشره اعوام (هكذا تظل قلقا للابد). عامه.. هناك دوما حمله من الرفض المجنون للقاحات الاجباريه عند الاجانب غير الاطباء، باعتبارها تقحم اشياء صناعيه علي الجهاز المناعي، وتعتدي علي حريتك في الاختيار.. يقولون ان الامراض التي يتلقي الطفل اللقاح ضدها صارت نادره اصلا، وهو تفكير شديد الغباء.. لقد صارت نادره بسبب اللقاح طبعا يا حمقي، ويكفي ان يتوقف الناس عن استعمال لقاح شلل الاطفال لبضعه اعوام ويروا النتيجه!

نعود لبحث الاخ ويكفيلد.. في العام 2001 بدا يزداد حماسا، فزعم انه وجد اجزاء من فيروس الحصبه في انسجه الاطفال المصابين بالتوحد.. نشر اوراقا علميه اخري واتهم ماده الثمروزال الموجوده في اللقاح بانها المتهمه، وهكذا بدات الصحافه تكتب بحماس عن اللقاح، وقلت ثقه المريض الانجليزي به.

كانت النتيجه هي ان كل اولياء الامور اصيبوا بالذعر.. اولا كل الاباء الذين لديهم اطفال مصابون بالتوحد طالبوا بتعويضات من الشركات المنتجه للقاح.. ثانيا احجم اباء كثيرون عن اعطاء لقاح لاطفالهم، والنتيجه هي انك تترك طفلك بلا حمايه امام ثلاثه اوبئه مرعبه؛ هي ابو كعب (التهاب الغده النكفيه) والحصبه والحصبه الالمانيه، والحقيقه ان معدلات الاصابه بهذه الاوبئه ارتفع جدا في انجلترا وايرلندا.

الصحافه ووسائل الاعلام تلعب دورها المشئوم الدائم، وهو انها اعطت ابحاث ويكفيلد اهميه اكثر مما تستحق، هكذا قل عدد من يعطون اللقاح لاطفالهم.. لاحظ الاطباء فيما بعد ان الحصبه زادت، لكن التوحد لم يقل بتاتا.. برغم انخفاض استعمال اللقاح.

هنا نضع خطا مهما.. اللقاح قد يسبب التهابا في المخ.. هذا صحيح.. لكن نسبه الالتهاب واحد في المليون. اما الحصبه فتسبب التهابا بنسبه واحد في الالف! حسبه بسيطه جدا.

في العام 2006 انخفض استعمال اللقاح في انجلترا الي 60% وهو رقم مخيف لا يكفي لمنع الاوبئه.. تامل ما يعمله العلم الزائف.. قبل صدور المقال كانت حالات الحصبه في انجلترا 56 حاله.. بعد المقال صارت حالات الحصبه 450 حاله! وللمره الاولي منذ عام 1992 يموت طفل بالحصبه.. اما عن داء ابي كعب، فقد اكتشفت بريطانيا انها تواجه وباء حقيقيا منه عام 2005.. وللمره الاولي كذلك يعلن ان الحصبه صارت مرضا متوطنا في بريطانيا بعد عشره اعوام من عدم اعطاء اللقاح.   يخيل لي انهم لو اعدموا هذا الويكفيلد لكان هذا عادلا.

لقد اثبتت التحقيقات التي اجراها طبيب اسمه برايان دير، مولته جريده صنداي تايمز، ان البحث ملفق وان الرجل نصاب.. تلاعب بالارقام والتواريخ وكلام الاباء ليناسب غرضه. ثم تبين انه عرض اطفالا يعانون تخلفا عقليا الي اجراءات بحثيه عنيفه لم يوافقوا عليها؛ مثل منظار القولون وعينات النخاع، هذا ما اكتشفه المجلس الطبي البريطاني.

تم شطب ويكفيلد من سجل الممارسه الطبيه عام 2010.. تمت اعاده اختبار اللقاح في عده مراكز، وكانت النتيجه واضحه هي انه لا توجد علاقه بينه وبين داء التوحد. هكذا وصفت الجريده البريطانيه الطبيه الامر بانه “اسوا خدعه طبيه في تاريخ العلم”.

اما مجله لانسيت فقد سحبت المقال من سجلاتها. برغم هذا كله ما زالت الصحف وبرامج التلفزيون والانترنت مستمره في تاكيد تخاريف ويكفيلد. انها مجال خصب ممتاز لهواه نظريه المؤامره الذين يفضلون التعامل مع العواطف بدلا من الحقائق.

لاحظ ان لقاح MMR ليس اجباريا في مصر ولا انجلترا.. اي ان اعطاءه قرار خاص بالابوين، وتحاول انجلترا حفز الاباء علي اعاده استعماله حاليا عن طريق زياده تكاليف التامين الصحي علي الابوين اللذين يرفضان تطعيم ابنهما.. بمعني (انتما تعرضانه للخطر.. ليكن.. ادفعا اذن وانتما تبتسمان).

يقيم ويكفيلد حاليا في الولايات المتحده وهو ممنوع من ممارسه الطب في انجلترا وفي الولايات.. انتخبوه كاسوا طبيب في العالم لعام 2011.. كما اختاروه ليراس قائمه الاطباء النصابين.

لكن امثال ويكفيلد لا يقنطون ابدا.. لديه حيله (لا كرامه لنبي في وطنه) الشهيره.. ولديه حب الناس للشك والمؤامرات.. ولديه صيغه (لقد عم الجهلاء.. فليسكت الحكماء)، لهذا يحظي بشعبيه لا باس بها ويعتبره الكثيرون بطلا، وهو يعلن دوما ان هناك مؤامره ضده من السلطات الصحيه وشركات الادويه.. ويؤكد ان كل التقارير عن انتشار داء الحصبه ملفقه للنيل من سمعته العلميه.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل