المحتوى الرئيسى

د. محمد شوشان يكتب: “رفاهية الاكتئاب”.. الفرق بين الطبيب والسيكوسيكو

10/19 10:13

احمد صديقي طبيب الطوارئ.. شاب اقليمي، نشيط ومكافح او (كفحتجي) كما يقولون عنه، يخرج من بيته فجرا اول كل اسبوع الي القاهره حيث (اديلوا نبطشيات 24 ساعه) ثم يعود اخر الاسبوع في الليل لزوجته وابنه. الحزن دائما يملا وجدانه، ربما لان تفاصيل حياته الرتيبه تتكرر بلا جديد، وربما لانه كلما خرج للعمل تخفي من صغيره الذي طالما ان احس برحيل ابيه، تعلق ببنطاله والدموع تنسكب من عينيه البريئتين والشحتفه تحول دون التحكم في سيلان انفه الاحمر الصغير علي البنطلون، ثم يدور الحوار المتكرر: مش هتاخر يا حبيب بابا (لا انت كداب، انت مسافر) حبيبي علشان اجيبلك لعب من عمو اللي بيفرش قدام المترو (مش عاوز لعب.. انا عاوزك انت يا بابااااااااااا عاااااااااااا)، وبعدييين باه؟ هتاخر كده (يقول لنفسه): ثم ان الدخل لا يحتمل بنطالا جديدا كل اسبوع (يا ابن الجزم)، ثم يحمله ليقبل خده الذي بللته الدموع ويداعب شعره الناعم حتي يغلبه النعاس، وقبل ان يسكنه فراشه، يرفع الاب طرف “فنله” الصغير ليمسح بها انفه، (انا مش قولتلك ميه مره متعملش كده، خد منديل اهوه).. هكذا قالت الام التي استيقظت لتودع حبيبها.

احمد عاده لا يفطر، لكنها تصر كل مره علي ان تعد له الفطار قبل ان ينزل، وكفاتن حمامه في اخر مشاهد فيلم “ايامنا الحلوه”، وقفت الزوجه وراء الشباك تنظر لاحمد حتي يختفي في ظلمه الليل قبل اذان الفجر، ثم قالت بصوت يملاه الشجن: (امتي باه هنروح السخنه.. يوووووووووووووووووووووووووه).

الغريب.. رغم كركبه حياته.. احمد دائما في يديه كتاب طبي يذاكر فيه كلما سنحت الفرصه، والاغرب من ذلك ان قميصه دائما مكوي.

حكي لي في الليل اثناء النوبتجيه بالمستشفي الحكومي (بعد النجاح  بدون خسائر) في زحلقه المريض الذي يموت احتياجا لسرير رعايه مركزه، لعدم وجود سرير رعايه متاح بالمستشفي (كالعاده) انه بالامس حينما كان نوبتجيا في هذه المستشفي التي لا تنتمي للمستشفيات الحكوميه، ولا للمستشفيات الخاصه، تلك المستشفي (العسسسس#$^&*كري)، حيث المجهود الخفيف والاجر اللوز العنب.. حضر اليه في المساء رجل يبدو عليه هيبه الدوله، يطلب حجزه حالا (طوارئ) للشعور بالم او شيء ما كطنين في اذنه، بدت علي احمد الدهشه للحظات، ثم قال له بكلمات متوتره: حضرتك.. سيادتك تقدر تييجي بكره للاستشاري بالعياده، وسوف امر لمعاليك بحقنه مسكن قوي جدا جدا سيادتك، وسوف….. لم يدعه يستكمل حديثه، وراح يتفقد المكان، ثم اقسم لي انه بعد لحظات تلقي اتصالا علي هاتفه من خاصيه الـ (لا رقم) من شخص يقول له: دّخل الباشا يا ابني غرفه حالا، والدكتور “فلان الفلاني” استاذ الانف والاذن بالقصر العيني سوف ياتي حالا للكشف عليه بغرفته.

لقد جف ريقي من فرط التفكير فيما حدث.. استكمل حديثه بصوته الممزق حزنا وقال: لا اعلم لماذا تذكرت الان الدكتور ايمن اخصائي العظام، حينما قال لي في ليله حزينه من ليالي النوبتجيه البارده في السكن اثناء احتدام المشاجره بين بضع اطباء علي من سينام علي السرير المتبقي, قالها بصوت حزين وكله دفء: (هما اتنين بس في المجتمع ده اللي بيشيلوا شنطه فيها غيارتهم ويباتوا في مكان ويصحوا تاني يوم يحضروا الشنطه بسرعه عشان يباتوا يشتغلوا في مكان تاني.. (الدكتور والست السيكوسيكو).

قطعت كلامه الكئيب وقلت له: ما هذا الذي تقوله يا احمد؟ كيف تساوي ايها المخبول بين الطبيب والمراه اللعوب؟ دي بتكسب فلوس كتييير اوي يا ابني.

هون عليك يا صديقي، اعلم ان الوطن لم يعد يطيقنا مثل هذا المريض الذي سيموت علي كنبه السياره الخلفيه اثناء اللف في الشوارع علي مستشفي يمكنها علاجه، لكن يجب ان تنفض عنك تلك التفاصيل السوداء اولا باول.. علي الاقل حتي يمكنك ان تقبل ابنك حينما تراه

وبعد ان راي في عيني سؤالا: لماذا لا تتناول حبوب مضادات الاكتئاب؟ ابتسم وقال: صحيح ان اليوم في هذا البلد اصبح ممتلئا عن اخره باخبار تقرف، الا ان الحياه اصبحت سريعه جدا لدرجه اننا لم نعد ننتبه لاخفاقاتنا فيها، والعيون لم تعد تنام ويتداخل امامها الليل في النهار، وان غفت تعبا، سوف تشعر حتما بالذنب، ومثلي ليس لديه الوقت اساسا حتي يكتئب قليلا.. علي ما يبدو في هذا الزمن اصبح “الاكتئاب رفاهيه” يصاب به فقط الناس الرايقه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل