المحتوى الرئيسى

الحكومة السودانية والجبهة الثورية.. جرد الخراب

10/19 06:48

قبل ان ينجلي غبار انهيار مباحثات السلام بين الحكومه السودانيه والحركه الشعبيه (قطاع الشمال) بالعاصمه الاثيوبيه اديس ابابا في 26 ابريل/نيسان 2013م، ارتفع غبار معركه اخري علي الارض في اليوم التالي الموافق 27 ابريل/ نيسان، بهجوم قوات الجبهه الثوريه علي منطقه شمال كردفان.

وتحولت علي اثر هذا الهجوم مناطق ام روابه الحيويه التي تبعد نحو اربعمائه كيلومتر غرب العاصمه الخرطوم، الي ساحه معركه جديده، وام كرشولا الي ارض محتله، والسميح الي بقعه معركه اخري، لتتجلي مظاهر الحرب الأهلية منتقله بحمولتها الماسويه من جنوب كردفان والنيل الأزرق. وحاكت المجزره التي ارتوت منها رمال شمال كردفان، مجزره هولاكو التي حوّلت نهر دجلة الي اللون الاحمر القاني.

بالعوده قليلاً الي الوراء فانّ "وثيقه كاودا" قامت باصدارها الحركه الشعبيه (قطاع الشمال) الفصيل الاكبر بقوات الجبهه الثوريه بقياده مالك عقار مع ثلاث حركات مسلحه اخري لاعلان تشكيل الجبهه الثوريه (تحالف كاودا) في جبال النوبه، وتم التوقيع عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011.

وتكونت الحركات المسلحه من حركه العدل والمساواه بقياده جبريل ابراهيم، وحركه جيش تحرير السودان قياده منّي اركو مناوي، وحركه جيش تحرير السودان قياده عبد الواحد محمد نور. ومن هذه الحركات كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان (قطاع الشمال) قد شاركت في الحكم بناء علي اتفاقيه السلام الشامل في نيفاشا عام 2005، كما دخل منّي اركو مناوي القصر الجمهوري مساعداً لرئيس الجمهوريه بعد توقيع اتفاقيه ابوجا عام 2006. وذلك قبل ان يخرج منه مغاضباً ويلتحق بالحركات المسلحه في دارفور.

جاء هدف هذه الحركات مُعلناً في اسقاط النظام الحاكم بالقوه العسكريه المسلحه وتاسيس دوله جديده علي انقاضه، وهو ما جعل خيار التغيير الذي انتهجته المعارضه السودانيه يتبعه من الاتجاه الاخر تصعيد عسكري مباشر، عمل علي تشتيت تركيز الحكومه وقواتها بتوسيع ساحات المعارك وفتح جبهات جديده في استعراض واضح للقوه العسكريه واجهته الحكومه باستعراض اخر غرضه هو تطويق قوات الجبهه الثوريه.

اخذت الاحداث في التواتر عندما دُعيت احزاب المعارضه الي وثيقه كمبالا (الفجر الجديد) التي تم التوقيع عليها في 5 يناير/ كانون الثاني من هذا العام 2013 من قبل الجبهه الثوريه لتحالف كاودا وتحالف قوي الاجماع الوطني الممثله لاحزاب المعارضه. وهو ما جعل الحكومه تحاول الوقوف كحائط صد في وجه اي حراك عسكري، غير ان ما قامت به ارتد اليها، بدلاً عن تحقيق هدف عزل الجبهه الثوريه وتطويق قدراتها.

توحدت الجبهه الثوريه من انقسامات الجماعات المسلحه، وكان بامكان الحكومه السودانيه التفاوض معها كتنظيم واحد للوصول الي حلٍّ شامل، ولكنها انتهزت فرصه اصرار بعض الحركات علي التفاوض معها منفرده فعملت علي ذلك. ورات انّ هذا بامكانه ان يحقق نتائج ووسيله ضغط علي الحركات ويضمن تنازلاتها، غير انّ التفاوض مع كل حركه علي حده اضرّ بعمليه السلام والوصول الي اتفاق وسلام شامل.

انّ نظريه استراتيجيه تجزئه التفاوض التي تم الاتفاق عليها عبر وسطاء وشركاء الايقاد بعقد اتفاقيات سلام منفرده ادت كنتيجه حتميه الي تجزئه الحلول والنتائج، خاصه وانّ هناك قضايا شائكه امام اطراف التفاوض لا يكفي الاعتماد فيها علي عوامل الشخصيه الكارزميه لاي من قيادتيهما.

وفي هذه الحاله فلن يعيد التاريخ نفسه مثلما فعل مع الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي هرب الي لندن فور سقوط العاصمه الفرنسيه في يد القوات النازيه عام 1940، من غير قوات او عتاد، ولكن بفضل شخصيته الكاريزميه وبراعته في التفاوض حصل علي نصيب الاسد في نتيجه حرب الحلفاء ضد النازيين وتمكن من استعاده الامبراطوريه الفرنسيه كلها.

لم يكن بالامكان احلال السلام في السودان الا بتوقف الاليه الافريقيه رفيعه المستوي والمجتمع الدولي، والقوي السياسيه السودانيه عن دعم الدخول في مفاوضات جزئيه لوقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق، ثم هذه الازمه المستحدثه في اقليم شمال كردفان.

وكان من الاجدي ان تتحول منابر المفاوضات المختلفه في الدوحه واديس ابابا والتي تقودها الوساطه القطريه والوساطه الافريقيه الي منابر للتفاوض حول قيام عمليه سلام شامل دون اقصاء لاي طرف علي حساب الاخر، ودون بذل ترضيات واستقطاب حركات علي حساب اخري مهما اختلفت الرؤي في الوصول الي حلول شامله.

انّ الاتجاه العام الذي استحوذ علي معظم التحليلات في هذا الشان يؤكد انّ تجزئه التفاوض هي التي تقود الي ارتفاع سقف المظالم والشكاوي من مشاكل التهميش، وهو ما يؤجج فتيل الصراع والحرب التي كلما اطفئت شعلتها استولدت الف شعله. وتستمر وفقاً لذلك دوامه المفاوضات اللانهائيه وتصدير حاله الصراع وعدم الاستقرار الي مناطق اخري لتتسع رقعه الاحتراب، ويعيش سكان هذه المناطق في دورات متصله بين الحرب واللاحرب.

انّ التصعيد الذي حدث هو نتيجه لزياده التوتر داخل النزاع الموجود اصلاً، فالنزاع نتج عن رغبات متضاربه في تحقيق كل طرف لما يريده، ولكن هذه الرغبات تجاوزت الوسائل السلميه المتمثله في التفاوض لتتطور الي تدمير الخصم.

ومهما كانت الرغبه في التصعيد فانّها لا تبرر زحف قوات الجبهه الثوريه لاداره معركه علي ارض شمال كردفان، بينما الحركه الشعبيه لتحرير السودان (قطاع الشمال) لم تخط اخر خطواتها من مقر المفاوضات مع الحكومه في اديس ابابا.

ويعدُّ هذا احد نماذج التصعيد الذي حصره فريدريش جلاسل الباحث في شؤون النزاعات، والذي قال قولته الشهيره "ان الطريق الي التصعيد مرصوفه بفشل محاولات اصلاح ذات البين" في تسع مستويات.

وهذه المستويات هي: التصلب في المواقف، النقاش والجدل العنيف، الافعال بدلاً عن الكلمات، التحالفات، الاهانه والحاق الخزي، استراتيجيه التهديدات، الضربات التخريبيه المحدوده، تشتيت الخصم، ثم اخيراً مستوي "معاً نحو الهاويه". وهذا المستوي الاخير تصل فيه الاطراف الي مرحله المواجهه الشامله حيث لا امل في العوده نحو الخلف، بحيث يصبح تدمير الذات مقبولاً اذا كان ثمنه تدمير الخصم.

واليوم بعد عامين من انفصال الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011، يسوقنا ازدياد العنف الي مزيد من الخراب والسير نحو الهاويه والتدهور الذي عطّل عجله الاقتصاد وزاد سوء الوضع السياسي علي سوئه.

ومن سوء حظ وتدبير انّه حتي بعد ذهاب الجنوب للانفصال او الاستقلال ورّث اسمه ومشاكله الي الجنوب الجديد الذي ما زال ينزف منذ بتر ذلك الجزء من الوطن منه، وما زال يستقبل الكثير من السهام القاتله المرتده اليه من ابنائه.

ويوماً بعد يوم تزداد الماسي الانسانيه فقد نزح من ابو كرشولا وحدها حوالي عشرين الف نازح الي مدينه الرهد بولايه شمال كردفان، ليتم اضافتهم الي جموع المتاثرين والنازحين منذ اندلاع الاحداث في جنوب كردفان والذي بلغ 284 الفاً وثمانين الفاً في النيل الازرق.

واهالي المنطقه بين النزوح وتجديد دوره العنف وتفاقم الوضع الانساني هم ابعد من عوده الاطراف المتنازعه للتفاوض والحلول السلميه، واقرب الي تفاقم الازمه الانسانيه وتقويض جهود المساعدات الانمائيه والانسانيه.

وهذا كله نسف تطلعات مواطني مناطق الهجوم واشواقهم الي الحمايه والامان التي من المفترض ان توفرها اجهزه الدوله، مما دعا بعض ابناء هذه المناطق الي التهديد بالانضمام للجبهه الثوريه في حاله لم تملكهم الحكومه المعلومه كامله تجاه ما يجري في مناطقهم ومعرفه حقيقه الاوضاع الامنيه وحمايه اراضيهم وتحرير ابو كرشولا.

ولكن الادانه الداخليه لفشل الحكومه في حمايه المدنيين كان كانه كلام الليل يمحوه النهار. وذلك لانّه حينما طالب نواب البرلمان بمساءله وزير الدفاع السوداني عبد الرحيم محمد حسين، ودعا بعضم الوزير الي تقديم استقالته علي خلفيه وجود معلومات مسبقه عن الهجوم قبل عده ايام من حدوثه، برزت اصوات مدافعه عن الوزير ورفضت حتي مبدا مساءلته.

لا تزال دماء الابرياء تنزف هنا وهناك حتي زحف حمام الدم وشمل منطقه اخري هي (ام برمبيطه) بولاية جنوب كردفان مما ينذر بفواجع اكبر في الطريق من تلك التي اصابت السودان وساهمت في اشتعال الفتنه.

لا يمكن القاء المسؤوليه علي طرف دون الاخر، فالدماءُ المسكوبه تقع مسؤوليتها علي الاجهزه الحكوميه، وجزءٌ من المسؤوليه يقع علي عاتق الاحزاب السياسيه التي لا تملك حق المحاوله في ارجاع البلد من حافه الهاويه.

كما انّ نواب البرلمان علي مختلف انتماءاتهم والذين طالبوا بمساءله وزاره الدفاع بصفه قانونيه ودستوريه، هم ايضاً علي نفس الدرجه من المسؤوليه بصفتهم السياسيه باعتبارهم ممثلين للشعب في البرلمان. وهي مساءله لكل هؤلاء عن الفشل والتقصير عن دعم اي اتجاهات لتحقيق السلام.

وتجيء مساءله وزير الدفاع بحسب النواب بموجب التزام وزارته الدستوري الوارد في الدستور القومي الانتقالي لسنه 2005 والذي ينص علي حمايه سياده البلد وتامين سلامه اراضيه، وتحمل مسؤوليه الدفاع عن البلاد في مواجهه التهديدات الخارجيه والداخليه والذي يجعل من صميم اختصاصاتها الدفاع الوطني وحمايه الحدود الوطنيه، بالاضافه الي الاختصاصات المضمنه بقوانين القوات المسلحه والامن الوطني.

وكرد فعل قوي ومتكرر في مثل هذه الحالات، فعندما اتهمت المعارضه الحكومه السودانيه بالتقصير في حمايه البلاد والمواطنين، واجهتها الحكومه بانّها ليست سوي طابور خامس، ذلك المصطلح المستهلك الذي اصبح المشجب الذي تعلق عليه الحكومه اخطاءها وتقصيرها وتلتقطه عند الازمات والمنعطفات التي تجد فيها نفسها وجهاً لوجه امام المساءله.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل