المحتوى الرئيسى

جمال الغيطاني .. أوراق شاب عاش ألف عام

10/18 15:19

 امنيتي المستحيله..ان امنح فرصه اخري للعيش، ان اولد من جديد لكن في ظروف مغايره. اجيء مزوداً بتلك المعارف التي اكتسبها من وجودي الاول الموشك علي النفاذ.. اولد وانا اعلم ان تلك النار تلسع.. وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم.. وتلك النظره تعني الود.. وتلك التحذير، وتلك تنبئ عن ضغينه.. كم من اوقات انفقتها لادرك البديهيات وما زلت اتهجي بعض مفردات الابجديه”!.

رحل جمال الغيطانى بعد ان اودعنا بعد اسرار رحلته في الحياه، رحله تعمق فيها بالتراث العربي وتدثر بعمائر القاهره في الزمن الجميل، عاش الف عام ويزيد، وروي ونسج بفنيه وتجريد محلق بالمعاني الصوفيه. رحل المراسل الحربي وشاهد تفاصيل الهزيمه والنصر، قائد فريق الحرافيش الذي صادق محفوظ وائتمنه علي اسراره الادبيه ، فكان خير حافظ، وكان اليد التي تمتد بالعون لكل المبدعين الشباب عبر صفحات “اخبار الادب”

كانت زوجته ماجده الجندي تستنهضه من ازمته المرضيه الطاحنه، فتناجيه بجريده “الاهرام” : “انهض يا مليكي .. ازح قحط الدنيا وجلافه الحضور .. انهض ولا تدع ما تبقي من اعمارنا يهرب”.

جمال أحمد الغيطاني علي، ولد في التاسع من مايو عام 1945، في قريه جهينه محافظه جرجا (سوهاج حاليا)، نشا في القاهره القديمه، حيث عاشت الاسره في منطقه الجماليه، وامضي فيها ثلاثين عاما، تلقي تعليمه في مدرسه عبدالرحمن كتخدا الابتدائيه، ومدرسه الجماليه الابتدائيه.

تلقي تعليمه الاعدادي في مدرسه محمد علي الاعداديه، بعد الشهاده الاعداديه التي حصل عليها عام 1959، التحق بمدرسه العباسيه الثانويه الفنيه التي درس بها ثلاث سنوات فن تصميم السجاد الشرقي وصباغه الالوان.

تخرج عام 1962، وعمل في المؤسسه العامه للتعاون الانتاجي رساما للسجاد الشرقي، ومفتشا علي مصانع السجاد الصغيره في قري مصر، اتاح له ذلك زياره معظم انحاء ومقاطعات مصر في الوجهين القبلي والبحري، اعتقل عام 1966 بتهمه الانتماء الي تنظيم ماركسي سري.

وامضي سته شهور في المعتقل تعرض خلالها للتعذيب والحبس الانفرادي. وخرج من المعتقل في مارس 1967. عمل مديرا للجمعيه التعاونيه لخان الخليلي، واتاح له ذلك معايشه العمال والحرفيين الذين يعملون في الفنون التطبيقيه الدقيقه.

بعد صدور كتابه الاول عرض عليه محمود امين العالم المفكر الماركسي المعروف، والذي كان رئيسا لمؤسسه اخبار اليوم الصحفيه ان يعمل معه فانتقل للعمل بالصحافه، بدا يتردد علي جبهه القتال بين مصر واسرائيل بعد احتلال اسرائيل لسيناء، وكتب عده تحقيقات صحفيه تقرر بعدها تفرغه للعمل كمحرر عسكري لجريده الاخبار اليوميه واسعه الانتشار، وشغل هذا التخصص حتي عام 1976 شهد خلالها حرب الاستنزاف 1969 – 1970 علي الجبهه المصريه، وحرب اكتوبر 1973 علي الجبهتين المصريه والسوريه. ثم زار فيما بعد بعض مناطق الصحراء في الشرق الاوسط، مثل شمال العراق عام 1975، ولبنان 1980، والجبهه العراقيه خلال الحرب مع ايران (عام 1980- 1988).

منذ عام 1985 اصبح محررا ادبيا لجريده الاخبار، وكاتبا بها، ثم رئيسا لتحرير (كتاب اليوم) السلسله الشهريه الشعبيه ثم رئيسا لتحرير اخبار الادب مع صدورها عام 1993.

تزوج عام 1975، وهو اب لمحمد وماجده، كتب اول قصه قصيره عام 1959.

نشر اول قصه يوليو 1963. وعنوانها “زياره” في مجله الاديب اللبنانيه. وفي نفس الشهر نشر مقالا في مجله الادب التي كان يحررها الشيخ امين الخولي، وكان المقال حول كتاب مترجم عن القصه السيكولوجيه.

منذ يوليو 1963 وحتي فبراير 1969 نشر عشرات القصص القصيره نشرت في الصحف والمجلات المصريه والعربيه، كما نشر قصتين طويلتين، الاولي بعنوان “حكايات موظف كبير جدا” نشرت في جريده المحرر اللبنانيه عام 1964، والثانيه “حكايات موظف صغير جدا”، نشرت في مجله “الجمهور الجديد” عام 1965.

كتب ثلاث روايات في الفتره من 1963 و1968، “رحيل الخريف الدامي” لم تنشر، “محكمه الايام” لكنه فقد المخطوط اثناء اعتقاله عام 1966، وكذلك “اعتقال المغيب” الذي فقده ايضاً  اثناء اعتقاله عام 1966.

 صدر اول كتاب له عام 1969، “اوراق شاب عاش منذ الف عام” صدر متضمنا لخمس قصص قصيره كتبت كلها بعد هزيمه الجيش المصري في سيناء عام 1967. لاقي الكتاب ترحيبا واسعا من القراء والنقاد.

وتتابعت اعماله منذ ذلك الحين واهمها: “الزيني بركات” قصه طويله، “وقائع حاره الزعفراني” قصه طويله،  ”حكايات الغريب” ( مجموعه قصصيه)، “الرفـاعي” ( روايه)، “خطط الغيطاني” ( روايه)، “كتاب التجليات” “رساله في الصبابه والوجد” ( روايه)، “رساله البصائر في المصائر” ( روايه)، “المصريون والحرب من صدمه يونيو الي يقظه اكتوبر” ( دراسات ومشاهدات)، “نجيب محفوظ يتذكر”،  ”ملامح القاهره في الف عام”، دفاتر التدوين، و”يومياتي المعلنه” .

حاز جائزه النيل في الادب، وهي ارفع جائزه ادبيه مصريه تمنحها الدوله، ونال جائزه سلطان العويس، جائزه لورا باتليون الفرنسيه لكتاب “التجليات”،  وسام العلوم والفنون من الطبقه الاولي، وسام الاستحقاق للاداب والفنون من طبقه فارس، جائزه الصداقه العربيه – الفرنسيه، جائزه جرينزانا كافور للادب الاجنبي – ايطاليا.

يتذكر جمال الغيطاني ان اول كتاب قراه كان “البؤساء” لفيكتور هوجو، وكان رصيف الازهر ملاذه لاقتناء الكتب القديمه ومنها تعرف علي ارسين لوبين ومحفوظ وغيرهما، كان مهتما بالتاريخ وبالاخص الفرعوني وقرا “سنوحي المصري” لميكا والتاري، ثم عرفت قدماه دار الكتب بباب الخلق، وقد قرا الترجمات الكامله التي طبعتها  دار اليقظه العربيه بدمشق، خاصه للكتاب الروس العظام، تولستوي ، مكسيم جوركي، وقصص تشيكوف،  وغيرهم.

انتمي الغيطاني للفكر الاشتراكي في هذا الوقت، ولكنه في الوقت ذاته ظل وفيا في تنقيبه عن روائع التراث العربي وخاصه التاريخ المصري في العصر الاسلامي، وقد افاده في ذلك انه تعرف في سن مبكره بالمرحوم الاستاذ امين الخولي في ندوته الاسبوعيه “الامناء” التي كانت تعقد كل يوم احد، وكان لتوجيهاته اثر كبير في تعميق قراءاته التراثيه.

ربطته صله وثيقه بنجيب محفوظ، وعاش معه اجواء خان الخليلي، بين القصرين، السكريه، قصر الشوق، كان يعتبر انه اول من اكتشف الحاره المصريه.

اهتم الغيطاني بقراءه علم النفس وهو لا ينسي تاثره بكتاب تفسير الاحلام لفرويد، كما اهتم بالفلسفه في عمر مبكر، وقرا العديد من الكتابات التاسيسيه العالميه.

اما في التاريخ، فلقد اعجب بموسوعه سليم حسن الفرعونيه، وظل ماسورا بالعصر المملوكي الذي يسكن شوارع القاهره، وبعد هزيمه يونيو1967 اعاد اكتشاف ابن اياس الذي عاش حقبه تاريخيه مماثله عندما كسر العثمانيون جيش مصر في مرج دابق، وكانت تلك انطلاقته نحو الادب الفارسي بخصوصيته الاسطوريه و تراث المتصوفين المسلمين، كذلك التراث الروحي للاديان المختلفه، مثل الهندوس، والصابئه، والبوذيه والعقائد البدائيه.

 وعن تكنيك السرد ،اوضح الغيطاني بحوارات اجريت معه انه كان دائم البحث عن قالب روائي مستلهم من التراث العربي وليس الغربي، ويعني ليس التراث المكتوب ولكن الشفهي ايضا الذي استقاه من نشاته الصعيديه. وقد اعتبر ان اميل حبيبي اهم روائي عربي لانه فعل هذا الشيء باقتدار حينما ابتدع قالبا خاصا في روايته “الوقائع الغريبه لاختفاء سعيد ابي النحس المتشائل” .

كان دائم الاسقاط من واقع رواياته التراثيه علي حاضرنا المعاش، فهو يقصد البوليس السري حينما يكتب عن البصاصين والعسس وعالمهم، وهذا ما قدمه بكتابه الممتع “خطط الغيطاني” وفي “حاره الزعفراني” جمع ملفات وتقارير حقيقيه عن ذلك العصر، ثم انتقل للابحار الصوفي بمجموعه التجليات ليسائل الموت والنسيان .

كان الغيطاني يكرس وقته المسائي للقراءه والكتابه الادبيه، ويترك النهار للصحافه، وكان اسلوبه مختلف في كل حاله، وهو يتذكر كيف كان ينقل بتان كتابات المتصوفه الكبار كالتوحيدي والجيلاني، لا لشيء الا لتشرب سر كتابتهم بهذا الاسلوب، وقد ترك دراسه الفرنسيه للتفرغ للغه الصوفيه التي نحت من خلالها لغته الخاصه .

 اما الزمن “الجبار القاهر” في صيرورته الرهيبه، فقد ظل احد هواجس الغيطاني طيله حياته، فهو يفكر في حركه الافلاك، توالي الليل والنهار، الي انقضاء السنوات، الي الميلاد والموت، التاريخ عنده هو الزمن المنقضي، المنتهي، لا فرق بين لحظه مضت منذ ثوان، ولحظه مرت علي انقضائها الاف او ملايين السنين، كلاهما لا يمكن استعادته، وربما لهذا لم يعد يهتم بمن يتهمه بانه محصور في الكتابه التاريخيه . ظل ينظر للفن كذروه المحاولات البشريه لمقاومه العدم، هذا العدم شاهده بكل شيء بعد تبدل قيم كثيره، وزياره السادات لاسرائيل بعد نصر اكتوبر والتي اعتبرها زياره مزلزله لكيان جيل باكمله، عاش النكسه وشاهد ويلات السياسه، ولقد انجرف مع ابن عربي والمتصوفه بعد وفاه والده ونكسه يونيو ، كما اكتشف ابن اياس بعد نصر اكتوبر .

ومرتبط بالزمن فكره السفر من نفس لنفس ومن دقه قلب لاخري، فالكون في حاله سفر، سفر المكان والذات، وهذا ما اتضح برائعته «هاتف المغيب».

كان يعتمد علي نظريه “التخييل الذاتي” او الانطلاق من الذات كمركز للعالم كما كان يقول المتصوف الكبير جلال الدين الرومي، ومن هنا جاءت فكره “التجليات” والذي بداه بكتاب “خلسات الكري” وقال بفاتحته “ماذا يمكن ان يكون لو ان ما لم يكن كان” وهي مقوله صوفيه، وهي انطلاق للخيال ولمزج العجائبي بالواقعي، ثم جاء دفتر “دنا فتدلي” ويكتب فيه عن القطارات التي تعلق بها في حياته وكمدخل لفهم الحياه وللعوده للاصول، وفي دفتر “رشحات الحمراء” يكتشف علاقته الخاصه بحبيبته ، ثم تاتي “نوافد النوافذ” ليكتب عن الحياه ، بين الواقع والمتخيل، واخير «نثار المحو» يعتمد علي اصطياد اللحظات المتناثره التي افلتت من المحو.

 في “الزيني بركات” و”اوراق شاب عاش قبل الف عام” كان الغيطاني يعمد لتضفير التراث بالادب، والاستفاده من العالمين، وكان يستوحي افكارا من نوادر الجاحظ، والبحث عن الزمن الضائع والجريمه والعقاب والف ليله وليله وغيرها من الملاحم العالميه التي اثرت بوجدانه.  وكلاهما بها مغامره بالزمن، في الاولي قفز من 5 يونيو (حزيران) 1967 الي 5 يونيو 2967 ، وكذلك في «الزيني بركات» رجع 500 سنه الي الخلف لمعايشه لحظه مماثله، انا دائما في حوار مع اللحظه التي تفني في محاوله لاقتناصها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل