المحتوى الرئيسى

أحمد عوف يكتب: “اقتصاد الاحتيال البريء” (2) | ساسة بوست

10/16 13:41

منذ 1 دقيقه، 16 اكتوبر,2015

1. الاحتيال الثاني “سياده المنتِج”

لقد خدمت اعاده تسميه الاقتصاد من “النظام الرأسمالي” الي “نظام السوق” تاكيد الجزم بسياده المستهلك، ففي التعاليم الاقتصاديه التقليديه في الماضي كان السوق يخضع لسياده المستهلك اي اقرار بالسلطه النهائيه الاقتصاديه الحاكمه للمستهلك، وذلك في تحديد ما يتعين انتاجه وشراؤه وبيعه، اي ان اختيارات وتوجهات المستهلكين ذوي القوه الشرائيه هي التي ستقوم بتخصيص الموارد المتاحه في المجتمع، وتحديد ماذا يُنتَج، واختيار المستهلك هو الذي يحدد شكل منحني الطلب (الذي يتقاطع مع منحني العرض لتحديد السعر والكميه)، وبالتالي كان يجب علي المنشاه المنتِجه الراسماليه الخضوع لهذه السلطه والسياده برحابه صدر.

اما في العالم الواقعي فقد تم خرق مبدا سياده المستهلك تماماً:

1 – في العالم الواقعي تقوم المنشاه المنتجه والصانعه بتصميم المنتَج وابتكاره، سواء لسد حاجه موجوده بالفعل او بخلق حاجه جديده لدي المستهلكين، وتقوم ايضاً بتحديد سعر المنتَج وترسيخ الطلب عليه وتنميته، وليس ثمه منتِج (مالك لوسائل الانتاج) يُدخِل منتجاً جديداً الي السوق دون ان يقوم بتنميه الطلب عليه او يقوم بالتاثير علي الطلب في حاله وجود منتج قائم، هنا يدخل عالم الدعايه وفن البيع والاعلام والترويج والتليفزيون وتصميم المنتج والتنوع فيه وغيرها من مناورات للتاثير علي المستهلك لرفع المبيعات.

والاشاره الي نظام السوق كبديل لطيف للراسماليه هو قناع مهدئ زائف للحقيقه، لقوه المنتج التي تمتد للتاثير علي طلب المستهلك، بل حتي التحكم فيه، غير ان هذا لا يُقال ولا يُركَز عليه في المناقشات والتعليم الاقتصادي المعاصر، فما يُعلّم للنشء هو نظام السوق، وعن نظام السوق يتكلم الزعماء السياسيون والاكاديميون والصحفيون، يتحدثون عن السوق ومدي عفويته، السوق الذي يتفاعل فيه بنقاء وعفويه منحني الطلب مع منحني العرض لتحديد السعر والكميه التي سيتم شراؤها وبيعها، وذلك دون الحديث او الذكر لاي شكل من اشكال التحكم او الهيمنه علي جانب الطلب من طرف جانب العرض (اي جانب المنتجين او الملّاك).

تماماً كما يحدث من احتيال في الانتخابات السياسه، التي يكون فيها حق الانتخاب في يد المواطن، حيث توجد اداره رهيبه وجيده التمويل هدفها اقناع جماهير الناخبين بمرشح او بحزب معين بغض النظر عن مدي صدق ورغبه المرشح او الحزب في تحقيق اهداف الناخبين،

وفي سبيل هذا الاقناع تنفق مبالغ هائله من النقود، وثمه اقناع اكثر تكلفه بكثير واكثر قدره بكثير، موجه ليس الي الناخبين، بل الي المستهلكين ـ تُحمّل تكلفه الاعلان والترويج والتسويق كلها علي سعر المنتَج اي ان المستهلكين هم الذين يتحملون تكاليف اقناعهم لشراء المنتَج ـ هذا الاقناع ياتي من توظيف اعظم المواهب في مجال الموسيقي والمسرح واعلاها اجراً لكسب تاييد المشتري.

كل هذه المواهب والشخصيات والبرامج التليفزيونيه اصبحت ادوات في يد المنتجين مكرسه لتشكيل السوق من خلق وتنميه للطلب، وقد صارت هذه التكلفه المستخدمه في اقناع المشترين تكلفه عاديه وملمحاً من ملامح الاعمال.

2 – وفي العالم الواقعي ايضاً يوجد “الاحتكار” لسلعه او لخدمه اساسيه او كماليه، وبالتالي لا يكون ثمه اختيار للمستهلك، فالمحتكر له كل السلطه علي عملائه في تحديد كم ينتَج وكم السعر، بل امتدت هذه السلطه الي العمال الذين اصبحوا ليس امامهم وظيفه بديله (في نفس النشاط) في منشاه اخري وبالتالي اصبح للمحتكر السلطه في تحديد سعر عنصر العمل اي الاجر.

ان مفهوم “سياده المستهلك” لازال يُجهَر به في التعليم الاقتصادي وفي الدفاع عن النظام الاقتصادي (النظام الراسمالي او نظام السوق)، ومصطلح “راسماليه الاحتكار ” الذي كان شائعاً استخدامه زمناً قد سقط من القاموس الاكاديمي والسياسي.

ان الاعتقاد في اقتصاد السوق الذي يكون فيه المستهلك سيداً هو احد اهم اشكال الاحتيال.

3. الاحتيال الثالث “قياس التطور والتقدم الاجتماعي”

من المتعارف عليه اننا عندما نريد ان نقيس او نوصف مدي تقدم دوله او مقارنه تقدمها بتقدم دوله اخري، سواء كنا في مناقشه اكاديميه او في حوار عام، فاننا نلجا الي مقياس قيمه الناتج المحلي الاجمالي GDP (وهو القيمه المضافه من سلع وخدمات والتي خلقها مجتمع ما في فتره زمنيه معينه عاده سنه Gross Domestic Production )، ومن هذا المعيار ياتي واحد من اعظم اشكال الاحتيال شيوعاً علي المستوي الاجتماعي!

فكما تم تسويق توجهات المنتجين علي انها توجهات واختيارات المستهلكين النقيه، فقد تم تسويق “قيمه الناتج المحلي الاجمالي” علي انها هي المعيار الاوحد والاهم لقياس مدي تطور وتقدم المجتمع داخل كل دوله، وهي معيار المقارنه بين كل دوله واخري من حيث مدي التقدم الاقتصادي والاجتماعي، واصبح معدل النمو السنوي في قيمه هذا الناتج هو معيار الاداء الاجتماعي السنوي الافضل.

وبالتالي اصبح انتاج السيارات بما في ذلك سيارات المتعه الضخمه الباهظه الثمن هو المقياس الحديث للانجاز والتقدم والنمو الاقتصادي الاجتماعي، في حين لا يتم اعطاء اي وزن ولا مكان لكيفيه توزيع هذا الناتج داخل المجتمع وما من الممكن ان يشمله من استغلال وظلم وافقار، فلا مكان لمستويات الاجور او معدلات الفقر او لمدي اتساع فجوه توزيع هذا الناتج داخل المجتمع، ولا مكان لمعدلات البطاله، ولا مكان لمعدلات الاميه ومعدلات مستويات التعليم في الشرائح العمريه المختلفه، ولا مكان لمؤشرات الرعايه الصحيه وجوده واتاحه الخدمه لكل المواطنين، ولا مكان للادب او الفنون او الثقافه او لحقوق الانسان، فلا مكان لحريه الفكر والتعبير ولا الحريات السياسيه وحريه التنظيم، ولا مكان لمقياس مدي تمكين المواطنين من المشاركه في القرارات السياسيه.

وبالتامل في الماضي، سنجد ان احسن ما في الماضي الانساني يكمن في المنجزات الفنيه والادبيه والعلميه مثل عمالقه الابداع المعماري في البندقيه ووليم شكسبير وتشارلز داروين في انجلترا، كل هؤلاء جاءوا من مجتمعات كانت ذات ناتج محلي اجمالي منخفض جداً، وكان حظهم الطيب انهم كانوا احراراً من قيود فن البيع من تحويل كل شيء الي سلعه واداره سلوك الجمهور، واليوم في عصر العلم والمعرفه والتعليم والثقافه والفن اصبحت معايير الانجاز الانساني هي الناتج فقط من السلع والخدمات.

4. الاحتيال الرابع “عالم العمل الخادع”

يمثل العمل تجربه مختلفه، بل تجربه متناقضه تماماً بالنسبه للناس المختلفين، فكثير من الناس يُجبرون علي العمل بفعل الضغوط الاساسيه للحياه وسوء الظروف الاقتصاديه حولهم، وهؤلاء كثيراً ما يكون عملهم شاقاً ومؤلماً ومضنياً ورتيباً يقوم علي الجهد البدني دونما تحد ذهني، ولكنهم يتحملون ذلك في سبيل الحصول علي ضروريات الحياه (لهم ولاسرهم) وبعض مباهجها وذلك عندما تنتهي ساعات العمل او اسبوعه ويتحررون من ارهاق الاله ومن مكان العمل ومن السلطه الاداريه.

وفي مقابل هذا الكدح المؤلم المهلك يحصلون علي اجور منخفضه مجحفه، في حين يمثل العمل للبعض الاخر من الناس ابتهاجا واستمتاعا وشعورا بالاهميه الشخصيه وتفوق وامتلاك سلطه علي الاخرين، هؤلاء يظفرون باعظم الاجور كلهم بلا استثناء.

وهنا يكمن التناقض، فكلمه “عمل” تعني بالتساوي معنيين متناقضين تماماً، تعني اولئك الذين يكون العمل بالنسبه لهم استمتاعاً وابتهاجاً جلياً دون الاحساس باي اجبار، وفي المقابل يحصلون علي اعلي الاجور والمكافات والمزايا العينيه، وتعني اولئك الذين يكدحون ويُرهقون ويسامون ويضجرون وياخذون اجوراً مجحفه.

وكثيراً ما يتم الخلط بين هذين المعنيين المتناقضين فيما يسمي “متعه الكدح”، هذه الفكره التي انتقدها وشكك فيها الاقتصادي البريطاني “جون مينارد كينز”، عندما اورد في احد كتاباته – ملقياً بالشكوك علي فكره “متعه الكدح” – كلمات لخادمه عجوز تحررت لتوها من ساعات عمل الحياه، كلمات حُفظَت بشاهد علي قبرها:

لا تحزنوا من اجلي يا اصدقاء

لاني ذاهبه لكي لا اعمل شيئاً

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل