المحتوى الرئيسى

ضداً على تجهم الأدب

10/16 01:08

يعتبر الموروث الادبي القديم عند العرب خزانا ثريا تجمعت فيه صور عديده عن الحركه الادبيه التي شهدتها مراحل ازدهار هذا الادب، وتنوع طرائقه ومشاربه. ويعد الشعر بحق ديوان العرب الذي جمع نمط حياتهم وابرز طبيعه ذهنياتهم. واذا كانت الصوره التي ترسخت في اذهاننا عن هذا الموروث انه موروث يلعب في منطقه الجد، وإعادة إنتاج قيم انحدرت منذ القديم، يمكن اختصارها في مفهوم المروءه بما ينطوي عليه من اخلاق معياريه؛ فان المتفحص والمتتبع لهذا الراسمال الرمزي يعثر علي الجانب الاخر الذي ظل مهمشاً ومنسياً من الصوره، وهو الادب الذي ازدهر في الهزل والسخف والفحش. وهو ادب من الغني والذكاء والظرف، يضاهي واحيانا قد يتجاوز ادب الجد من حيث الابتكار والابداعيه.

ومن المفارقات، ان هذا الادب قد ازدهر في فترات من زمن الحضاره العربيه، لا سيما في الزمن العباسي، ولم تمارس عليه الرقابه او المنع، بل كانت زبائنه من الطبقات الراقيه في المجتمع انذاك وحتي كبار السلطه كانوا يرحبون به ويستمتعون به، لكن المؤسسات الحديثه قد مارست علي هذا النوع من الادب رقابه وتهميشاً ووسمته بالدونيه واغفلت هذا البعد الهزلي والفضائحي، ولم تسمح له بان يلج المؤسسات التعليميه، كي يضمن نوعاً من التداول والبحث والدراسه. حتي المؤسسه النقديه اسهمت اسهاما كبيرا في طمس معالم هذا النمط من الادب الساخر والهازل والفاحش، فجل مؤرخي الادب كرّسوا فقط ابطال الادب المشهورين، ووجهوا البحث في اعاده انتاج هذه البطولات الادبيه، وبذلك ضيّعوا الكثير علي الناشئه وعلي المتعطشين لمعرفه كيف كان اسلافنا يضحكون ويهزلون ويتظرفون. لقد رسمت صوره متجهمه للادب العربي ومفرطه في الجديه. دفعت ببعض المستشرقين من امثال شارل بيلا الي ان يتهم الأدب العربي بالملل، مستثنياً من ذلك الجاحظ الذي يكتب ضد الملل، ولذلك تخصص فيه وكتب عنه ابحاثا.

ظل ادب الهزل والفحش غافيا في طيات كتب الادب القديمه والكتب التي ارّخت لطبقات الشعراء، مثل كتاب «يتيمه الدهر» للثعالبي، «والوافي بالوفيات» لابن ايبك الصفدي و «وفيات الاعيان» لابن خلّكان، و «نفح الطيب» للمقري، وكتب اخري، من هذه الكتب تعثر علي نصوص واشعار وحكايات فاحشه وفضائحيه. لكنها تبقي مدسوسه وسط ركام من الجد والصرامه.

في الاونه الاخيره بدات تظهر طبعات لبعض الكتب والدواوين الشعريه لشعراء تفننوا في ادب الهزل والسخف والفحش، من امثال ابي الشمقمق وابن الحجاج وابن ابي حكيمه الذي خصص ديوانا كاملا في رثاء عضوه.

لقد كان ادب الفحش والهزل يعكس في العمق التحولات التي طرات علي المجتمع، وتفاقم مستويات العيش، وظهور الطبقات الفقيره والمحرومه التي عاكسها الحظ في ادراك ماربها، لا سيما اذا كان من هذه الطبقات من كان ذا موهبه ولكنه لم يحسن استعمالها او كان مفلوكا دار عليه فلك النحس، كما هو الشان بالنسبه الي الشاعر ابن لنكك البصري الذي راي من هو دونه يصل الي مراكز مرموقه، فما كان منه الا ان صب جام غضبه علي زمانه وعصره، وهجا هؤلاء الاغبياء الذين وصلوا الي المقامات العاليه:

وان زمانا انتم رؤســاؤه ] لاهل لان يخري عليه ويضرطـا

اراكم تعينون اللئام وانـني ] اراكم بطرق اللؤم اهدي من القطا.

وكذلك الامر، بالنسبه الي الشاعر المخضرم مروان بن محمد، المعروف بابي الشمقمق، يبدو انه كان سيئ الحظ، لازمه الفقر طيله حياته، ما دفعه لسلوك طريق غريب، طريق التسلط علي ابناء جنسه من الشعراء، يفرض عليهم «الجزيه» فيدفعونها له عن يد وهم صاغرون، مداراه لسفاهته وفحشه وسلاطه لسانه. وله مع بشار صولات وجولات «كان بشار يعطي ابا الشمقمق في كل سنه مئتي درهم، فاتاه ابو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلم الجزيه يا ابا معاذ، فقال: ويحك، اجزيه هي؟ قال: هو ما تسمع، قال له بشار: هل انت اشعر مني؟ قال لا. قال، فلم اعطيك؟ قال لئلا اهجوك.

فقال له: ان هجوتني هجوتك: قال ابو الشمقمق هكذا هو؟ قال نعم. فقل ما بدا لك. فقال ابو الشمقمق:

اني اذا ما شاعر هجانيه ] ولج في القول له لسانيه

ادخلته في است امه علانيه ] بشار يا بشار ....

واراد ان يقول: يا ابن الزانيه، فوثب بشار فامسك فمه. وقال اراد والله ان يشتمني ثم دفع اليه مئتي درهم ثم قال له، لا يسمعن هذا منك الصبيان يا ابا الشمقمق» (الاغاني ج3 ص194).

كان الفحش عند ابي الشمقمق نوعا من الابتزاز والاغاره علي جوائز الشعراء ليقتسموها معه، فقد كان يشعر بالظلم فيغضب لانه لم يكن له نصيب عند الامراء والسلاطين. يصف حالته المزريه والماساويه التي تجعل القارئ يتعاطف معه ويتفهم غضبه وفحشه:

ولقد اهزلت حتـي ] محت الشمس خيالي

من راي شيئا محالا ] فانا عين المحـال

ليس لي شيء اذا قيـ ] ل لمن ذا قلت ذا لي

ولقد افلست حتــي ] حل اكلي لعيـالـي.

ومن الشعراء الذين اشتهروا بشعر الهزل والفحش يعتبر ابن الحجاج حامل لوائهم؛ لقد امتاز شعره بالخفه والهشاشه. هذه الخفه هي نتاج وعي جديد بالشعر يرتكز اساسا علي التعاطي المباشر مع الواقع المعيش والابتعاد عن النماذج المثاليه التي اغرق الشعراء فيها قصائدهم، فهو ملتصق بالواقع، يستقي معجمه من الاشياء المالوفه ومن حياته اليوميه، فحين اراد ان يصف شعره استقي معجمه من خبزه اليومي.

يا سيدي هذي القوافي التـي ] وجوهها مثل الدنانير

خفيفه من نضجها هشــه ] كانها خبز الابازيـر

وبما ان شعره يعتمد الخفه والجده في الالفاظ والمعاني التي لا قبل للمؤسسه النحويه بها، حيث هذه الاخيره تكتفي بالبحث عن الشاهد الشعري، فان هذه المؤسسه قد تجاهلت شعر هؤلاء بالسكوت عنه وعدم الاستشهاد به، وقد كان ابن الحجاج يعي ان هذه المؤسسه قد تعترض سبيله فبادرها بالهجوم وهجا احد اقطابها ساخرا منه وهو ثعلب صاحب الكتاب المشهور «الفصيح»:

ان عاب ثعلب شعــري او عاب خفه روحي

خريت فـي بــاب افعـلـــــت في كتاب الفصيح.

لقد هاجم ابن الحجاج المؤسسه النحويه وهاجم ايضا ابطال المشهد الشعري المكرسين ليفسح المجال لمغامرته في شعر الهزل والفحش، وقد نجحت خطته الي درجه انه صرح قائلا «لقد ادركت بشعر الهزل ما لم يدركه ابو تمام بشعر الجد».

ومن المظاهر البارزه في شعر ابن حجاج وتعتبر تجديدا في هذا النمط الشعري هو طبيعه معجمه الذي استقاه من الادب المتصل بالبراز والغائط والموضوعات الداعره، ويمكن بهذا ان نعتبره مؤسسا للادب الاسكاتولوجي وبذلك يكون سباقا لهذا الباب قبل فرانسوا رابلي في روايته «غارغانتورا» و «بنتاغرويل»، وجورج باطاي في روايته «مادام ادواردا».

لقد اهتدي ابن الحجاج الي ان الشعر طاحونه كبيره تقبل بكل ما يلقي فيها، فليس هناك معجم خاص بالشعر، فحتي الكلمات التي يمجها الذوق العام قابله لان تكون مفردات شعريه. لقد كان هذا المعجم البرازي من اولي الصدمات التي تلقاها الجمهور الذي الف شعرا يفوح بالكلمات العطريه، لكن ابن الحجاج راي ان قذاره عصره لا يمكن وصفها بالورود والرياحين، فهو لا يريد ان يسهم في النفاق الشعري والاجتماعي فقد جاء الي القرن الرابع الهجري عاريا والتقط المفردات المثيره للتقزز والغثيان المغرقه في عالم الفضلات والنتانه ليصف بها مجتمعا مهترئا وممزقا وفاسدا ايام البويهيين يقول:

وشعري سخفه لا بد منـه ] فقد طبنا وزال الاحتشـام

وهل دار تكون بلا كنيف ] فيمكن عاقلا فيها المقـام

يري ابن الحجاج ان القصيده ماواه ومنزله ومن الطبيعي ان تشتمل الدار علي كنيف لقضاء الحاجه، كذلك القصيده لا بد ان تشتمل علي شيء من السخف والفحش والقذاره. لقد اصبح الكنيف الشعري لدي ابن الحجاج ضروره واصبح ملهماً للشاعر، اذ كل ما له صله بالفضلات وما يخرج من الامعاء يصبح اداه شعريه تسعف في بناء الموضوع الشعري يقول:

شعري الذي اصبحت فيه ] فضيحه بين المــلا

لا يستجيب لخاطــري ] الا اذا دخل الخــلا

وقد عمد ابن الحجاج في شعره الفاحش الي المفارقه والسخريه وقلب الاغراض والمحاكاه الساخره، فنراه في موقف يقتضي المواساه يسخر سخريه لاذعه تثير الضحك الهستيري، فهو يكتب الي احد اصدقائه وهو قد شرب دواء مسهلا، فيفاجئه بهذه القصيده التي يشتم منها رائحه الشماته:

يا ابـا احمد بنفسـي افديــك ] واهلي من سائر الاسـواء

كيف كان انحطاط جعسك في طا عه شرب الدواء يوم الدواء

كيف امسي سبال مبعرك النــذ ] ل غريقا في المره الصفراء

وها هو يهجو احدهم كان من اوفيائه فجفاه:

ولقد عهدتك تشتهـي ] قربي وتستدعي حضوري

واري الجفا بعد الوفا ] مثل الفسا بعد البخـور

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل