المحتوى الرئيسى

القاهرة.. مدينتى وثورتنا (٣٥)

10/15 10:18

في ٢٨ يناير ٢٠١٢ كانت مباراه النادي الاهلي ونادي المقاولين العرب في ستاد القاهره. وكما نعرف، فقد كان مشجعو فريق الاهلي، التراس اهلاوي، في طليعه مظاهرات الثوره في ايامها الاولي، هم ومشجعو فريق الزمالك، التراس ووايت نايتس ــ بل كان الالتراس لهم دور كبير في كسر صفوف الداخليه المواجهه للمظاهرات يوم ٢٨ يناير ٢٠١١.

تكَوَن التراس اهلاوي عام ٢٠٠٧ ومن البدايه واجه مشاكل مع الداخليه التي استهدفته ــ كما تستهدف اي تنظيم شعبي يحاول التشكل ــ بهدف تدجينه، وتيسير استعماله في اعمال الارشاد والبلطجه. فحين قامت مظاهرات الايام الاولي من الثوره، وكانت بالاساس ضد عنف الداخليه، هب الالتراس اليها، وفي اعتصامات الميدان كانوا يطوفون بارجائه بطبولهم واناشيدهم فيشعلون الحماسه والفرحه، وصار هتافهم المميز للحريه ــ اربع صفقات قصيره متتاليه ثم «حريه!» ــ علامه ترقيم لهتافاتنا في المسيرات والاعتصامات.

محمد مصطفي (كاريكا)، الذي قتلوه في احداث شارع مصطفي محمود، وعبودي، الذي اقاموا عليه حفله ضرب خلف اسوار البرلمان في ارهاصات احداث مجلس رئاسه الوزراء، كانا احدث ضحايا النظام من الالتراس. وفي مباراتهم مع المقاولين العرب، رفع التراس اهلاوي صور شهدائهم وغنوا وهتفوا ضد الشرطه طوال المباراه:

الاربعاء اول فبراير ٢٠١٢ كانت الدعوه لاجتماع في ساقيه الصاوي لمناقشه الاداء الغير مطَمْئِن للبرلمان، ولمحاوله التوصل الي استراتيجيه للتاثير علي تشكيل الجمعيه التاسيسيه للدستور. كنت اجلس بين علاء عبدالفتاح والمهندس ابراهيم المعلم، ولم يكد يبدا الاجتماع حتي جاءت رساله علي محمول المهندس ابراهيم تقول ان هناك قلقا في بورسعيد، وان احد مشجعي الاهلي اصيب. في هذه الليله كان الاهلي يلعب مباراه مع نادي بورسعيد وذهب التراس اهلاوي الي بورسعيد ليشجعوا فريقهم، ولم يكن احد يشك في ان الاهلي سيفوز بالمباراه لكنه خسرها ٢/صفر. عرض المهندس ابراهيم الرساله علي وهو يتساءل «طيب ليه؟ مش غريبه دي؟ ما بورسعيد كسب..» وقبل ان يكمل الجمله بادرتنا رساله جديده: «مات ثلاثه مشجعين»، ووراءها رساله «يقدر عدد المصابين الان بثمانيه عشر».. كنا قد تركنا الاجتماع وخرجنا مسرعين من القاعه وهو يردد :ايه اللي بيحصل؟ ايه اللي بيحصل؟ وقفنا ثلاثتنا خارج باب القاعه، تحت كوبري ١٥ مايو، والرسائل تتوالي علي الهاتف وانا ارقب ابراهيم وارقب علاء كل علي هاتفه: سبعه وعشرين مشجعا ماتوا ــ لا، عفوا، خمسه وثلاثين مشجعا ــ لا.. الارقام تعلو ونحن نسارع الي مقر جريده الشروق في المهندسين حيث الشاشات موقده والهواتف ترصد الارقام تعلو وتعلو.

وفي منتصف الليل نترك ــ علاء وانا ــ الشروق ونتجه الي محطه رمسيس لننتظر قطار الالتراس القادم من بورسعيد. المئات حضرهم نفس الهاجس فوجدنا انفسنا جزءا من مجموعات وافراد اتيه ــ من وسط البلد، من غمره، من علي كوبري اكتوبر ــ تدخل مسرعه الي المحطه. في الصاله الكبيره حشود الشباب والهتافات والاعلام المُلَوِحه.

قبل الثوره بفتره قصيره، تفوق النظام علي نفسه مره جديده، فاعاد اخراج المبني ــ الذي كان مهيبا في عزوفه وصرامته ــ فزينوه بديكور باذخ الحجم والابتذال فصارت الصاله الكبيره تواجهك بالنخيل الاصطناعي والعواميد الضخمه المذهبه. الان، في الثالثه صباحا، الصاله الشاسعه المبهرجه ثائره تدوي بالهتاف، هتاف هادر يعود صداه فيضاعفه مرات ومرات. الصاله شامخه راسخه، تتيح لك ان تلمح، وراء العناصر المبتذله الدخيله، التكوينات القديمه الاساسيه للسقف والحوائط. ومئات بل والاف البشر موجودون هنا، الاعلام تُلَوِح وتتماوج لا تسكن لحظه، الشباب يتكدس علي ابراج السقالات الموجوده بعد في الصاله، علي الشرفه العاليه التي تطل عليها، علي السلالم، وصولا للسقف. هتافٌ هتافٌ هتاف، هتاف بحقوق الشهداء، هتاف يطالب بالقصاص. الغضب يملا المكان ويتجسد. الالتراس، الامهات، شباب الثوار، المتعاطفون، الكل ينتظر القطار الاتي من بورسعيد. وياتي القطار، بطيئا، يئن، ويهب المئات للقائه فيدخل الي الرصيف تكاد لا تراه من الرابضين فوقه، المتعلقين به، السائرين الي جواره. قطار درجه ثالثه، استغرق خمس ساعات لياتي من بورسعيد، خمس ساعات في البرد القارص، في الظلام، للشباب الذي نجا من الغدر، للشباب الذي استشهد اخوانه بين يديه، للشباب الذي يدخل الان الي القاعه يتكئ بعضه علي بعض، شباب يلف راسه او اطرافه بالضمادات، شباب بالملابس الممزقه، شباب شاحب، شباب مدمم. خبا الهتاف؛ الطاقه كلها تحولت الي الاحضان، الي العناق، الي البحث عن وجه معين، الي السؤال والاجابه عن السؤال.

باصات مجهوله الهويه وصلت الي الاستاد، نزل منها رجال دخلوا الي الملعب دون حاجه الي تذاكر‪.‬ المحافظ ومدير الامن، اللذان لا يتغيبان عن حضور اي مباراه لنادي بورسعيد، تغيبا اليوم. ومع صفاره النهايه اطفئت الانوار وانغمس الملعب في الظلام وانشقت صفوف الامن لوهله سمحت بمرور مجموعات من الرجال ركضت عبر الملعب تهاجم «تالته شمال». حاول مشجعو الاهلي الهروب فوجدوا البوابات قد تم لحامها فلا تفتح. تدافع، تدافع، دهس وقتل. قالوا ان القاتل قتل البعض بكسر سريع مهني للرقبه، وقتل البعض بان القي بهم من اسوار المدرج ــ

في بورسعيد ضحايا شافوا الغدر قبل الممات

شافوا نظام خَيَر ما بين حُكمُه والفوضي في البلاد

كان من الصعب ان نصدق ما حدث، ان نستوعبه. في المدن والقري تحرك الالاف لتوديع اصدقائهم، لدفنهم وتشييعهم. الالتراس لا يعرفون التقسيمات الجغرافيه، المهنيه، الطبقيه.

ارسل المشير حسين طنطاوي طائره عسكريه لتعود بلاعبي الاهلي الي القاهره، وفي ظهور قصير في التلفزيون المصري قال «بس احنا عايزين الشعب كله يشترك في حاجات زي دي.. الشعب ما يقعدش.. ماهو مين اللي عمل كده؟ ما هو افراد من الشعب المصري. الشعب المصري ساكت عليهم ليه؟ كله يشترك. لازم»!، ظل الاعلام لايام طويله يهاجم بورسعيد ويصورها كمكان للشر، ويحاول تلطيخ السُمعه البطوليه التي اكتسبتها «المدينه الباسله» حين تحملت النصيب الاكبر من عدوان بريطانيا وفرنسا واسرائيل علي مصر في عام ١٩٥٦. خرج اهالي بورسعيد يتظاهرون في الشوارع، وصفوا كيف حاولوا الوصول الي الالتراس الزائرين فمنعهم الامن. اعلنت السلطات عن بدء تحقيق في المذبحه.

بانرات واعلام الالتراس تطير في كل شارع. اقام شباب الالتراس علي باب كل بيت رقد فيه التراس مصاب. انضم التراس وايت نايتس الي التراس اهلاوي فتظاهر الفريقان معا ورفرفرت اعلامهم من ساريه واحده. تجمع الشباب امام بيوت شهداء الالتراس المغدورين لينشدوا لهم بينما الفنانون يرسمون صورهم علي الجدران. ووسط كل الحزن والجزع والغضب بدا شباب الالتراس يتجلون في هيئه ملائكيه علي جدران شارع محمد محمود. انَس، اصغر الالتراس، الذي ذهب الي الماتش دون اذن اهله:

كريم خزام، الذي لم يتحمل ابوه الحياه بعده، فراح ضحيه سكته قلبيه:

اوو وو وه، في الجنه يا شهيد

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل