المحتوى الرئيسى

أسرار فوز «سفيتلانا ألكسييفيتش» بنوبل للآداب 2015

10/10 10:46

اعلنت السكرتيره الدائمه الجديده للاكاديميه السويديه، ساره دانيوس، انه "جنس ادبيّ جديد"، واصفه بذلك الكتب الـ6، ومئات المقالات والمقابلات للصحفيه البلاروسيه، سفيتلانا الكسييفيتش، التي حصلت علي جائزة نوبل في الآداب لعام 2015.

"الجنس الادبي الجديد" في المقالات الصحفيه، والمقابلات الميدانيه، وفي الكتب الـ6: "ليس للحرب وجه نسوي، اطفإل ألزنك، الاستجداء، تشيرنوبيل، حوليات العالم بعد القيامه، مسحورون بالموت، شهادات اخيره، نهايه الرجل الاحمر او زمن الوهم"، يتلخص كما يروق للصحافه السياسيه والثقافيه في الغرب فيما وصفوه بـ"تعدد الاصوات".

ولا احد يعرف بالضبط اصوات الابطال في الروايات والقصص، او اصوات الذين يستضيفهم الصحفي او يتحاور معهم، ويكتب علي لسانهم، ويحكي معهم حكاياتهم، تلك الحكايات التي تميز ما اطلقوا عليه الادب "الوثائقي".

وبالمناسبه، فالكاتب الروسي السوفيتي، الكسندر سولجينيتسين "نوبل 1970" كتب "ارخبيل الجولاج"، كادب وثائقي عن معتقلات "سولافكي"، واتخذ زيارات مكسيم جوركي لهذا المعتقل الستاليني، ليصب غضبه علي جوركي نفسه، علي الرغم من ان سولجينيتسين اعترف انه لم يطَّلِع علي كل الوثائق. وظهر بعد ذلك انه لم يزر ابدا هذا المعتقل، ولكن الروايه كانت قد كُتِبَت، وانتشرت، ونجحت وسائل الاعلام الغربيه، والباحثون في الغرب ان يستخدموا المعلومات، والارقام المغلوطه في "الروايه الوثائقيه"، ليروِّجوا لما ارادوا ان يروِّجوا له.

لقد جرَّبت الصحافه الثقافيه والسياسيه الغربيه كل الطرق والاساليب في التعامل مع "السرد الركيك" للصحفيه البلاروسيه، سفيتلانا الكسييفيتش، لدرجه انها تفننت في ترجمه اسماء الكتب، فتاره نجد كتاب "نهايه الانسان الاحمر..." قد تحول الي "نهايه الانسان الروسي..."، وتاره اخري نجد "اطفال الزنك" قد تحول الي "نعوش الزنك"، و"توابيت الرصاص".

الصحافه الثقافيه والسياسيه في الغرب، احتفت بـ"الجنس الادبي الجديد"، لسفيتلانا الكسييفيتش، وبمقالاتها، وكتبها "الوثائقيه" ومقابلاتها، واعتبرت كل ذلك فتحا ادبيا جديدا، بصرف النظر عن النقد ومدارسه المتنوعه، والنظره النقديه، والقيمه الادبيه والفنيه، واتضح ببساطه ان الكتابه السياسيه، والمعارضه الفكريه لا تمنحك فقط جائزه نوبل للسلام، بل وتجعلك علي راس قائمه، الذين يستحقون تلك الجائزه في الادب ايضا، كونك معارضا سياسيا تكتب المقالات، وتجري المقابلات حول احداث بعينها، ويجرون معك ايضا مقابلات، لتفسر ما كتبته، وتشرح وجهه نظرك في الخير والشر، امور مهمه كجزء من النشاط الاجتماعي والسياسي العام، ولكنها لا تدخل في باب الابداع الادبي او الفني، الا اذا كان ذلك يروق لاصحاب الجائزه، والقائمين عليها، بنظرتهم النقديه الادبيه العميقه والواسعه، والملمه بما لم تستطع المدارس والنزعات النقديه ان تلم به.

ان ما يلفت النظر، سواء في الصياغات، التي تستخدمها الصحفيه البلاروسيه، خلال المقابلات التي اجرتها، وما زالت تجريها معها الصحافه الغربيه، حول رؤيتها للشر، او في لغتها "الركيكه"، التي تكتب بها كتبها "الوثائقيه"، ان هذا الشر سوفيتيا مطلقا، وروسيا مطلقا، وبلاروسيا مطلقا، حتي الشر السوفيتي كان مطلقا، خلال مقابلاتها مع شهود العيان، الذين عاصروا الحرب العالميه الثانيه، وفي افغانستان، كان السوفييت هم الشر المطلق، وفي اوكرانيا الان، يتحول الروس الي شر مطلق، ان فكره الاطلاق هنا لا تمنح الصحفيه "صاحبه نوبل في الاداب" حتي فرصه ان تدرك ان للشر اطرافا اخري، فهل فعلا هناك شر مطلق؟ وهل الشر المطلق في الحرب العالميه الثانيه، كان سوفيتيا خالصا؟ وماذا عن هتلر وموسوليني والنازيه والفاشيه؟ هل الشر المطلق في افغانستان كان سوفيتيا خالصا؟ وماذا عن الولايات المتحده، وحلف الناتو، وطالبان، وتجار المخدرات والرقيق؟ هل الشر المطلق الان في اوكرانيا، روسيا خالصا؟ اين "القطاع الايمن" القومي المتطرف، واين الفساد السياسي الاوكراني، واين الليبراليون الجدد، الذين تربوا في كنف الولايات المتحده، واين الرئيس بيترو بوروشينكو، تاجر الشيكولاته، واين يوليا تيموشينكو، تاجره النفط؟

اننا عندما نذكر هنا اسماء الشخصيات والدول وبعض الاحداث، لا نخرج اطلاقا عن الموضوع او نحاول الحط من قدر "الابداعات الصحفيه لصاحبه نوبل الجديده"، لاننا ببساطه نتحدث في اطار "الجنس الادبي الجديد" نفسه، الذي اخترعته الأكاديميه السويديه، و"محفل جائزه نوبل"، ليمنحا بموجبه للصحفيه المعارضه جائزه نوبل في "الاداب".

ان بيان لجنه او "محفل" نوبل، اكثر اثاره للدهشه والتساؤلات من كتابات الصحفيه البلاروسيه نفسها، فهو يقول ان "اعمالها بمثابه صرح للحريه والكرامه الانسانيه، قد تختلف الاراء في القيمه الفنيه الابداعيه لرواياتها، التي يغلب عليها الطابع السياسي، والايديولوجي المباشر، ولكن ذلك لا يمنع من تقدير كفاحها من اجل الحريه"، اذا، لماذا جائزه نوبل في "الاداب"، وليس جائزه نوبل "للسلام"، التي حصل عليها، علي سبيل المثال لا الحصر، الرئيس الامريكي الحالي، باراك اوباما، عن تصريحات حول تقليص الاسلحه الاستراتيجيه الهجوميه، وهي التصريحات التي لم يتم تنفيذها فقط، بل وتم تنفيذ عكسها تماما؟!

الصحفيه البلاروسيه، سفيتلانا الكسييفيتش، التي ولدت لاب بلاروسي، وام اوكرانيه، تكره ستالين، و"الارهابي بيريا"، وفلاديمير بوتين، لانهم اوصلوا روسيا للحضيض، ويجسدون كل قيم ومعاني وسمات الشر المطلق، علي عكس هتلر، وموسوليني، وجورج بوش الابن، وباراك اوباما، الذين يجسدون في المقابل كل قيم الحق والخير والجمال، هكذا تروق لغه الاطلاق للغرب، الذي يؤرقه ضميره لاسباب كثيره، لا تحاول الصحفيه "الاستقصائيه – الوثائقيه" ان تعرفها، فيمنح جوائزه لاخرين يشبهونه، او يحاولون ان يتشبهوا به، ولكنهم في الوقت نفسه يتفادون تماما معرفته او يهربون من التعرف عليه.

للادب الوثائقي قوانينه، والوثيقه لا تكذب ابدا، لكن الانتقائيه في التحليل والتفسير، ولغه الاطلاق والقصر، هما اللذان يعكسان مدي هشاشه الانسان، الذي يقع في مصيده العمي، او التعامي، علي الرغم من ان "محفل نوبل" اكد ان كتاباتها متعدده الاصوات، التي تمثل معلما للمعاناه والشجاعه في زماننا.

الصحفيه البلاروسيه، صاحبه نوبل في "الاداب"، تشرح رواياتها ذات "الجنس الادبي الجديد" في احاديث صحفيه مع زملائها، فتقول عن الشر ومغرياته: "تتكرر في بلادنا مقوله، ان ستالين هو السبب، ولكن وراء قتل الملايين يقف بالتاكيد ملايين الجواسيس، الذين خانوا الضحايا ايضا، هؤلاء الجواسيس كانوا اناسا عاديين، جيرانا واصدقاء ومعارف، في المقوله التي ذكرتها، دار الحديث عن خيانه عمه لابن اخيها، وهذا ابن الاخ يتذكر العمه في طفولته، ويتذكر صوتها العذب، وشعرها الطويل، وفجاه عرف انها خانت اخاها، هذا يعني ان الموت لا يتحمل مسؤوليته الجلاد وحده، بل ايضا اخرون كثيرون، لا اعتقد ان هذه المشكله هي مشكله حقبه ما بعد الاتحاد السوفيتي، بل مشكله انسانيه، عن هذا كتبتْ ايضا هانّا ارنت، التي تحدثت عن سهوله الانحراف الي الشر في الازمنه المظلمه، كما تحدثتْ ايضا في بلدان لا تعد ولا تُحصي في تاريخ البشريه، في روايتي يدور الحديث عن شيء قاله نيتشه ايضا، وهو: ان "الانسانيه في الانسان رقيقه للغايه، كقشره تفاحه".

هذا المونولوج غير موجود في الروايات "الاستقصائيه – الوثائقيه"، ذات الجنس الادبي الجديد للصحفيه صاحبه نوبل، بل هو تصورها لما تكتب، الامر الذي يعكس دلالات خطيره، سواء عما تكتبه، او عن القيمه الادبيه – الفنيه لما اعتبرته لجنه نوبل "ابداعا ادبيا، وجنسا فنيا جديدا، قد نختلف علي قيمته، ولكنه بمثابه صرح للحريه، والكرامه الانسانيه، ولكنه يتسم بالطابع السياسي والايديولوجي المباشر"، ما يعني شئنا ام ابينا، اننا لا نتحدث هنا عن ادب او فن، وانما عن شيء اخر تماما من الصعب ان نتعامل معه، وفق تقاليد او قوانين ادبيه او فنيه او حتي نقديه، الحديث يدور هنا عن امور اخري تماما، تخص اشباه الغرب الذين يساعدونه علي "اخلاء طرفه" من المشاركه في الشر "المطلق"، ويساعدونه ايضا علي "تنظيف ضميره" بخلق كائنات تشبهه، ولكنها ليست ابدا مثله، ولن تكون.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل