المحتوى الرئيسى

سبع فوائد في محاضرة واحدة (2)

10/08 16:36

اقرا ايضا: سبع فوائد في محاضره واحده (1) بكَيتُ الشاوي مرتَين طريق البحيره "الي جنه الخلد" شمس الحريه تسطع علي تونس مقاصد الشريعة من"كفر الدوار" الي "بروكلين"

عرفنا في الجزء الاول من هذه المقاله درسين مهمين من الدروس التي تضمنتها محاضره الدكتور جورج صليبا؛ التي نشرها قبل ايام، مركز المخطوطات الاسلامية بمؤسسه الفرقان في لندن. واليوم نعرف بقيه الدروس وهي:

الدرس الثالث: انمن الخطا والخطر، معاً، علي الوعي الفردي والجمعي في امه من الامم: تعميم حكمٍ ما قبل الاستقصاء، واعتبار الاستنتاجات الجزئيه حتي لو كانت صحيحه دليلاً كافياً لاصدار احكام عامه وموثوقه. وهذا درس في صميم البناء المعرفي للعلم. وقد شن الدكتور جورج صليبا هجوماً نقدياً قاسياً علي الراي الذي يذهب الي ان ظهور نمط الشروح والتعليقات بحد ذاته كان دليلاً علي ركود الحياه العلميه وتوقف الابداع في تاريخ الحضاره الاسلاميه. ونعي علي اصحاب هذا الراي انهم: لم يقراوا تلك الشروح والحواشي والتعليقات ويستقصوا مضامينها قبل ان يصدروا حكمهم هذا. وعزي ذلك ـ بموضوعيه العالم المتمكن وتواضعه ـ الي اسباب كثيره منها: صعوبه قراءه الشروح والتعليقات لصغر حجم الخط الذي كتبت به، وكثره الاستطرادات، والاحالات الوارده في سياقاتها؛ مما يحتاج الي صبر طويل لادراك ما فيها من جديد واضافات؛ عاده ما تكون محدوده في البدايه، وغير ظاهره بما فيه الكفايه، وغير ذلك من الاسباب التي لا تبرر ابداً الذهاب الي تعميم حكم معين علي مجمل التراث العلمي لحضاره عظيمه مثل الحضاره الاسلاميه. والدكتور جورج اخذ علي عاتقه في هذا الكتاب(المحاضره) ان يكشف زيف التعميم القائل بان عصر ما بعد الامام الغزالي كان عصر تقليلد وتكرار وعقم في الابتكار. وقد ثابر علي البرهنه بالادله القطعيه علي خطا هذا التعميم واثبات مجانبته للحقائق العلميه والتاريخيه. وحذر كثيراً من الاثار السلبيه التي يتركها هذا التعميم علي وعي ووجدان ابناء الحضاره الاسلاميه من جهه زعزعه الثقه في ماضيهم العلمي، وفي قدرتهم علي النهوض من جديد في العصر الحاضر.

الدرس الرابع: ان التفكير الابداعي، والابتكار العملي، والنفع الحضاري؛ كل اولئك لا يتوقف علي استقرار الاحوال السياسيه، ورغد العيش وازدهار الاحوال الاقتصاديه، ولا يتوقف حتي علي "عموم الامن والطمانينه العامه" في المجتمع. وهذا هو مغزي انتصار جورج صليبا في تحديه للراي القائل بان الحضاره الاسلاميه دخلت عصر الخمول والركود العلمي بعد الامام الغزالي، وربما بسبب كتابيه ذائعي الصيت: احياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفه، كما يزعم البعض. وقد برهن جورج صليبا في كتابه هذا، وفي اعمال اخري له علي خطا هذا الراي. واثبتَ ان علماء الحضاره الاسلاميه استمروا في ابداعاتهم وابتكاراتهم، ولم توقفهم حاله الاضطراب السياسي، ولا تفكك مركز الخلافه في بغداد وتحوله الي سلطه شكليه، ولا حتي عندما سقطت علي يد المغول في سنه 656هـ، 1258م، كما لم يوقفهم تفشي الانقسامات ووقوع الهزائم في كثير من المواقع امام حملات الفرنجه قبل ذلك(كما سماهم المؤرخون المسلمون، اما الغربيون فسموها باسم: الحملات الصليبيه).

اراد جورج صليبا ان يقول لنا: ان العالم الحق في الحضاره الاسلاميه لم يكن علمه مرهوناً بالظروف السياسيه والامنيه والاقتصاديه. وانه استطاع ان يقدم للبشريه ابتكارات جديده؛ حتي وهو يكتب باسلوب الحواشي والشروح التعليقات التي لا يصبر علي قراءتها الا اصحاب النفس الطويل والعزائم القويه، وكان الخفري، ومن قبله كان الطوسي من هؤلاء الافذاذ. وقد استفاد من ابداعاتهم: كوبر نيكس وغيره من علماء عصر النهضه الاوربيه. وهنا سؤال نطرحه علي الدكتور صليبا: تري لماذا لم يشعر امثال الطوسي والخفري وابن الشاطر وغيرهم بالاحباط، ولماذا لم ينصرفوا عن البحث والاجتهاد رغم سوء الاحوال العامه وكثره الاضرابات والقلاقل من حولهم؟. هل الصله منفكه حقاً بين الابتكار والابداع ومجمل الاحوال والظروف التي يعيشها العلماء المجتهدون؟.

الدرس الخامس:ان طريقه الشرح والتعليق في التاليف العلمي لها فلسفتها الخاصه في التكوين المعرفي والتراكم العلمي؛ ولها دورها الذي يضاهي في اهميته العلميه، ان لم يتفوق، علي الدور الذي تؤديه الدوريات العلميه في العصر الحديث. ويلاحظ جورج صليبا ان "الدوريات العلميه" بدات تنتشر في اوربا في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، ثم انتقلت بعد ثلاثه قرون تقريباً الي العالم الاسلامي. ويقارن بين طريقه علماء الحضاره الاسلاميه وعلماء الحضاره الاوربيه المعاصره في كيفيه تسجيل نتائج اجتهاداتهم وابداعاتهم. فعلماء الحضاره الاسلاميه؛ فيما بعد القرن السادس الهجري/العاشر الميلادي؛ كانوا يدرجون اعمالهم الابداعيه ضمن "الشروح والتعليقات"، تماماً كما كان وما زال علماء الحضاره المعاصره ينشرون مقالاتهم اولاً في الدوريات العلميه المحكمه، ويعلقون في المقال الواحد علي ما ورد في المقالات السابقه في تخصصه، الي ان يصلوا الي اضافه جديده؛ كل ذلك توخياً لاستكمال صرح البناء العلمي الذي كان، وما يزال، يخضع للتمحيص والنقد والتدقيق. وينتهي جورج صليبا الي الحكم بتفوق طريقه "الشرح والتعليق" القديمه في تاريخ العلم والمعرفه الاسلاميه علي نظيرتها التي تعتمد النشر في الدوريات العلميه في الحضاره المعاصره. ويقرر بثقه: ان علماء الحضاره الاسلاميه استخدموا نمط الشروح والتعليقات (في العلوم الطبيعيه علي الاقل) بشكل منسق واستراتيجي لتمهيد الطريق الي طرح النتائج الابداعيه التي توصلوا اليها. والمهم في كل الاحوال ليس هو قالب الكتابه(شرح او تعليق او مقاله) وانما هو الاجتهاد والنقد والابداع العلمي الحر. 

الدرس السادس: ان علماء الحضاره الاسلاميه في العصر الذي يوصف خطاً بانه عصر الركود والتكرار؛ منهم من اسهم في تصويب نظريات علميه كانت قد استقرت لازمنه طويله سابقه؛ ليس فحسب وانما منهم من اسهم ايضاً في تصويب النظر الي مناهج الوصول الي الحقيقه العلميه. ومن هؤلاء شمس الدين الجفري الذي؛ تمكن اولاً من "حل ما لا ينحل" من معضلات علم الفلك التي عجز عن حلها السابقون من بطلميوس الي الشيرازي، وتمكن ايضاً من تصويب الادراك الانساني لعلم الرياضيات ووظيفته. فبعد ان كان النقاش يحتدم بين العلماء بشان صواب او خطا برهان رياضي ما، جاء الخفري ليكتشف ويقرر بالادله القطعيه: ان الرياضيات بحد ذاتها لا تنطوي علي ايه حقيقه مطلقه كامنه فيها؛ بل لا يمكن وصف الرياضيات الا بانها "لغه" يمكن استخدامها لوصف الظواهر كما يمكن وصفها بلغه اخري(فرنسيه، او المانيه) وهي منفصله تماماً عن اللغه الرياضيه. وفي هذا الاستنتاج فوائد معرفيه كثيره، وكان لها تاثير حاسم في مسار البحث العلمي والسعي للوصول الي ما يعتقده العلماء "حقيقه" في وقت ومكان معينين. فبالعكس من علماء الفلك السابقين للخفري، الذين كانوا يسعون دوماً للوصول الي الحل الصحيح بالاسلوب الرياضي، نري "الخفري" يؤكد علي ان الحلول الرياضيه كلها صحيحه، وان الحلول الصحيحه لا نهايه لها، لانها بنت الخيال، والخيال لا حد له!،  وان الاختيار من بين تلك الحلول يحسمه في النهايه: ايها اقرب منالاً، او احسن جمالاً، ولا يتوقف الامر علي التراكيب الرياضيه التي اوصلتنا الي تلك الحلول؛ فالرياضيات تقنن الظواهر الطبيعيه ولكنها لا تضفي عليها ايه مصداقيه خارجه عن جوهرها. وهذه نقله نوعيه في تاريخ المعرفه الانسانيه، بل هي عين الرؤيه الحداثيه التي لا تزال تهمين علي مجتمع العلماء الي عصرنا الراهن، وكان لما اتي به تاثير كبير في مسار التقدم العلمي للانسانيه من بعده.وقد اتي بها "الخفري" وهو احد كتاب الشروح والتعليقات، التي يريدوننا ان نعتبرها دليلاً علي الانحطاط في تاريخ العلم في الحضاره الاسلاميه.

الدرس السابع: ان سمو الاخلاق، والامانه العلميه، والايمان بالله؛ اصول لا ينفك عنها العلم النافع، ولا تنفك هي عنه؛ فاذا انفكت لم يعد علماً، ولا نافعاً. ويطالعك جورج صليبا من اول كتابه/محاضرته الي اخره، بما يرسخ هذا الدرس في اعماق وعي ووجدان جماعه الباحثين ومجتمع العلماء، والقراء عموماً. فهو يركز كثيراً علي عبارات التقدير والاحترام التي وصف بها العلماء المسلمون "بطلميوس" صاحب كتاب المجسطي؛ رغم نقدهم الشديد له، ورغم محاولاتهم الدؤوب لتصحيح الاغلاط التي وردت فيه؛ حتي عندما توصل ابن الهيثم لبراهين قطعيه علي خطا بطلميوس، فانه سمي كتابه "الشكوك علي بطلميوس". ويصف الخفري احد الذين انتقدهم وبين اغلاطهم في علم الفلك بانه "سيد المحققين، وسند المدققين"، وهكذا كان قانون الاخلاق العاليه الذي حكم لغه التخاطب بين العلماء الذين يصفهم البعض بانهم من عصر الانحطاط!. 

اما الامانه العلميه، التي بمقتضاها يعزو العالم الافكار الي اصحابها، فامر لا تهاون فيه، ولا مسامحه مع من يسمح بنسبه جهد غيره الي نفسه. وفي سياق ما اورده جورج صليبا في كتابه نجد اكثر من مثال علي صرامه الامانه العلميه التي تحلي بها علماء الحقبه التي توصف خطاً بانها حقبه الانحطاط العلمي. فالخفري؛ مثلاً، ينسب كل نظريه الي صاحبها، قبل ان يناقشها او ينقدها، ويميز اضافاته وتجديداته التي يوردها في سياق شرحه لهذا الكتاب او ذاك من كتب العلماء السابقين، ويصفها، متواضعاً، بانها "زوائد"، قبل ان يعود بعد سنين طوال لجمعها وتطويرها في كتاب مستقل، يحمل عنوانا مميزاً من قبيل "حل ما لا ينحل" في مسائل علم الفلك. وعندما يسرد الخفري بعض فوائد علم الهيئه/الفلك، فانه لا يتردد في نقل واحده من اهم فوائده عن بطلميوس، الذي سبق ان انتقده، وهي ان من فوائده " انه يعين علي الحكمه الخُلُقيه؛ فان ادراك ثبات الحال وحسن الترتيب والاعتدال والخلو عما لا حاجه اليه من تلك الاجرام الشريفه العاليه؛ يقتضي محبه هذه الامور". وهذه الفائده الجليله اخذت طريقها الي كتب كثيرين من علماء الفلك المسلمين، مع دوام نسبتها الي صاحبها الاول وهو بطلميوس الذي اوردها في مقدمه كتابه المجسطي.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل