المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: دم المماليك (7).. الأشرف خليل بن قلاوون.. مهرجان الدم!

10/08 10:17

ديسمبر 1293م – مصر – نواحي البحيره شمال الدلتا – معسكر رحله صيد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون

ترجّل نائب السلطنه الامير بيدرا عن فرسه قائلًا لحسام الدين لاجين الذي كان واقفا في استقباله: “السلطان لن يرجع معنا للقلعه”

ابتسم لاجين وقد لمح عرقا نفر من الغضب اعلي صدغ بيدرا وقال: “اعطانا دستورا بالرجعه دونه؟” (دستور = اذن).

– “اجل! ورسم لي ارجع انا بالموكب والسنجق (العلم) والتشاريف والعسكر.. صرف العساكر كلها.. اخذ معه الامير شهاب الدين بن الاشل وذهبا للصيد.. وهو يستعجلني.. اذهب يا بيدرا.. ارحل للقاهره يا بيدرا.. افعل كذا وكذا يا بيدرا.. يحسب نفسه -هذا الصبي- كفؤا لي.. يتكبر علي امراء كبار تركت السيوف في اجسادهم علاماتها، بينما هو رضيع يترك علامات بوله علي فراشه او حتي ربما من قبل ان يركب ابوه علي امه! يرفض ان يُخاطب احد بلقب “الزعيمي” ويقول: “من زعيم الجيوش غيري انا؟”.. من فرط كبره انه لا يوقع اسمه كاملا وانما يكتب حرف الخاء اختصارا.. ما يكفيه الحَط عليّ منذ ايام بوشايه وزيره ابن السلعوس.. تصور هذا السوقي المابون يتهمني بابتلاع الاقطاعات وتخزين القمح لاتطاول علي السلطان.. وايش يكون هو وسلطانه لاتطاول علي اي منهما؟ هذا سلطان عِلق وهذا مرا عِلق وايش يكون ما بين العلوق لنتطاول عليهم!”

ضحك لاجين من تلميح بيدرا واجابه: “يا امير.. هذا العِلق عند العوام هو فاتح عكا ومسترد حصون المسلمين في الشام من الارمن والفرنجه.. واخيرا.. تحدي المغُل (المغول) وقال انه يسترد بغداد منهم! وتهتكه في تقريب ابن السلعوس لا يفيدك في طعنه عند الناس.. هو عندهم الملك المجاهد.. وتجريداته وخروجه علي راس العسكر هنا وهناك يشهدان له.. فدعنا من التشنيع عليه، فالناس ليسوا سذجا، وان سكتوا عن قتله باعتباره امر وكان لا يسكتون عن الخوض في عرضه”

اغتاظ بيدرا من ضحك لاجين، فقال بعصبيه مضاعفه: “الناس الناس.. اف للناس.. ما يبقي الا نخشي الزعران والغاغه والسوقه والشلاق.. ثم ايش قال بعض القدامي في الناس؟ شيء عن هي لمن غلب؟”

اقترب منهما الامير بهادر -راس نوبه الخدمه في بلاط السلطان- مصححا لبيدرا بهدوء: “نيلها عجب وترابها ذهب ونساؤها لعب ورجالها عبيد لمن غلب”.

– بيدرا: “اه! هذا ما اقصد! وعلي ايه حال لو تكلم الناس ولم تكفنا فتوي فقهاء الشرع الشريف، فما لا يحله القول يحله السيف!”

داعب لاجين خصله شعر شقراء نافره من سالفه الايمن ثم سال: “قلت لي انه وحده؟”

اشاح لاجين بيده مصححا: “اعني دون عسكر او حرس”

ركز لاجين نظره علي عيني بيدرا.. تحسس بحركه لا اراديه ندبه تركها الوتر الذي رفعه خليل عن عنقه.. اغمض عينيه وفتحهما بقوه ليخرج من شروده وقال: “هي فرصتنا اذن!”

عاصفه بشريه تمتطي فرسا! هكذا كان خليل بن قلاوون.. قامته العملاقه مع شاربه الكث ولحيته المشذبه وملامحه الجامعه بين الوسامه والقسوه وانتصابه علي صهوه جواد ضخم ينهب الارض مطيعا صيحات سيده المتحمسه، يرسمون لوحه لمارد اسطوري مرعب.

جاهد رفيقه الامير شهاب الدين بن الاشل ليلحق به.. ابطا خليل فرسه.. اوقفه والتفت له قائلا: “انا جيعان.. معك شيء تطعمني؟”

اخرج ابن الاشل من جرابه الجلدي رغيفا ممتلئا وقال: “ما معي الا رغيف به فروجه”

– “هاته”.. قالها وتناول الرغيف الذي استقر بعض قضمات قليله في جوف السلطان.. مسح يده ثم قال لصديقه: “امسك فرسي حتي انزل لاريق الماء” (يتبول)

– “ما فيها حيله.. انت راكب فرس وانا راكب حجره (انثي الفرس).. وما يتفقان”.. (راكب الفرس الذكر يمكنه الامساك بالفرس الانثي وليس العكس)

– “حسنا.. تعال خلفي، وانا انزل واركب الحجره، ثم انزل عنها فيتفقان”

تبادلا الاماكن ثم نزل خليل ليقضي حاجته.. انتهي من استنجائه، ثم التفت الي رفيقه ممسكا ذَكَره، وهو يقول: “اتري هذا؟ اتعبني معه.. لا يعطيني الا اناثا”

ابتسم شهاب الدين الذي اعتاد جراه مزاح سلطانه وصديقه الي حد الفُحش البيِّن… لمح غبارا يقترب.. التفت، فالتفت معه السلطان الذي اكمل احكام ثيابه وامره: “اذهب وانظر هذا”.. عاد كل منهما لفرسه وانطلق شهاب الدين نحو الركب المقترب ليجد كوكبه من الامراء علي راسهم لاجين وبيدرا وبهادر.

حاول اعتراض طريقهم صائحا: “ايش جاء بكم يا امراء؟”، فتجاهلوه.. خيّل له انه سمع بيدرا يهمهم من بين اسنانه: “لي شغل بالسلطان!” قبل ان يتجاوزوه.

ومن موقعه وقبل ان يفيق من ذهوله، راي شهاب الدين كل شيء يحدث بسرعه تفوق قدرته علي الاستيعاب!

عندما اقتربوا منه لم يميز منهم غير بيدرا، حيث كان اللثام يخفي باقي الوجوه، بينما ينم الزي انهم من امرائه.. حسبهم يتوقفون ويترجّلون عن خيولهم ليبوسوا الارض بين حافري فرسه.. شد قامته فوق فرسه كما يليق بالسلطان، وجهّز نفسه لتقريع بيدرا لتلكؤه عن الرجوع للقاهره.. اقترابهم تجاوز حد التحيه.. لمح قبضاتهم تلتف علي سيوفهم.. حياه الغدر من نظراتهم فتمتم: “غير معقول!”.

الضربه الاولي كانت من سيف بيدرا، مصوبه الي راسه، رفع يده تلقائيا ليتقيها، بينما يبحث بالاخري عن سلاحه، احس الما مريعا يمزق كفّه، وادرك متاخرا ان ما صفع وجهه كان بعض اصابعه.. سمع صوتا مالوفا: “يا نحس! من يريد السلطنه يضرب هكذا ضربه؟!”

واجهه لاجين، وهو يكمل حواره لبيدرا رافعا سيفه: “من يريد السلطنه يضرب هكذا”.

في اللحظه التاليه، كان خليل يرمق نجوم السماء تركض بجنون، وهو يشعر بالحجاره تمزق ظهره وجسده يُسحَل من ذراعه التي بقيت قبضتها متخشبه حول اللجام المتدلي من الفرس المندفع محاولا الهرب من هذا الجنون الدموي، بينما لم يعد يربط الذراع نفسها بجسمه الا بحبال واهيه من لحم وعضلات الكتف المحلوله عن الجذع والسائل اللزج نبيذي اللون يتفجر من الفجوه المرعبه بجسده ليرسم علي الارض خطًا طويلا بعثرته سنابك خيل الامراء وهم يلحقون بالفرس المرعوب ويوقفونه.. عاصفه من نار اجتاحت اعلي صدره حين اجتثته يد الامير بهادر من رقدته، فاصله جسده عن ذراعه شبه المقطوع.. بُطِح قسرا علي وجهه.. لمح من زاويه رؤيته الصعبه بهادر يقبض سيفه بقوه.. وكان اخر ما احس به هو ذلك النصل البارد الطويل الذي شق ما بين اليتيه وهو يتحول الي عامود ملتهب يخترق دُبره وامعاءه ممزقا كل ما في طريقه وصولا لحلقه!

لحسن حظه انهم تاكدوا من موته قبل ان يتركوه في العراء ويذهبوا للخيمه السلطانيه في المعسكر، ليحلفوا ايمان الولاء لبيدرا سلطانا للبلاد.. بلي.. فلو كانوا قد تركوه وفيه بعض الروح لاحس بضباع وذئاب الصحراء التي التهمت وجهه واطرافه حسب وصف والي البحيره الامير ايدمر عندما عثر علي بقايا الجثه بعد يومين ليحملها ويغسّلها ويقوم تجاه سلطانه بالواجب الاخير.

المحروسه تنتفض بحمي الجنون.. الناس في ذهول من مقتل سلطانهم المجاهد المحبوب.. الامراء يتطاحنون.. زين الدين كتبغا جمع الفا وخمسمائه من الفرسان وهاجم بيدرا ورجاله الذين تسحبوا من حوله وتركوه للاسر.. لاجين اختفي تماما رغم همسات تقول ان كتبغا يعرف مكانه ويراسله ليقنعه بالظهور مع منحه الامان مقابل تحالفات ما علي مصالح ما.. الامير الشجاعي الذي كان خليل قد كلفه بنيابته في غيبته مع رجاله، حشد قواته علي بر القاهره ومنع المراكبيه من اجازه اي انسان عبر النيل وصولا للعاصمه.. بيدرا يتهم كتبغا انه كان شريكا له في المخامره علي السلطان.. يقول انه اول من عرف ووافق.. كتبغا ينفي بهدوء.. الشجاعي يُصَعِد من غضبه.. اخيرا يتفق مع كتبغا علي تنصيف الأمير محمد -اخو السلطان القتيل- علي ان يتولي كتبغا الوصايه عليه فهو بعد ابن تسع سنوات.. الشجاعي يهدا.. يسحب قواته لثكناتها.. يحلفون جميعا للسلطان الطفل.. يحضرون بهادر وبيدرا.. بهادر يُذبَح لتوه.. اما بيدرا فجزاءً وفاقا.. تُقطَع كفه ثم ذراعه من الكتف -كما جري للسلطان-يفقد احد مماليك السلطان المغدور سيطرته علي اعصابه، فينقض علي نائب السلطنه الخائن ويشق بطنه بسيفه ولا يعنيه انه قد لحظ به بعض حياه وهو ينتزع كبده ليجتث منها قطعه باسنانه، يسيل الدم علي فمه وعنقه ملوثا زيه، وهو ينظر للسماء بنشوه انتقاميه رهيبه! يسارع باقي المماليك لنيل نصيبهم من الكبد الساخنه بينما يقيم بعضهم حفله عبث بسيوفهم في بطن الخائن الفاغره فاها.. يستمر الحفل الدامي حتي يصيب التعب مماليك خليل، فيتهاوي بعضهم جالسا حول الجثه الممزقه، بينما ينخرط البعض الاخر في بكاء هيستيري نذر كبته حتي ينال الثار.. هكذا تهدا القلعه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل