المحتوى الرئيسى

مها محمد فجال تكتب: عالم الإصابات الدماغية : الحقيقة أغرب من الخيال | ساسة بوست

10/08 08:07

منذ 1 دقيقه، 8 اكتوبر,2015

لا نشعر بقيمه ما نمتلك حقاً حتي نفقده. تكاد العباره السابقه تنطبق علي كل شيء، فمنذ اللحظه التي نفتح بها عيوننا اول مره ، توجه ادمغتنا كل جزء صغير من تلك الاوركسترا الضخمه المسماه “نحن” بدقه واكتمال ينتج عنهما لحن يتجلي فيه ذاك النظام الكوني المبهر الذي  تسير علي نسقه  كل الاشياء.

لكن ماذا يحدث عندما يفقد الدماغ السيطره ؟ حينها، ينفتح امامنا عالم اقل ما يقال عليه انه اغرب من الخيال. في كتابه “الرجل الذي حسب زوجته قبعه”  يفتح اوليفر ساكس، طبيب الامراض العصبيه، الباب امامنا لدخول ذلك العالم.

ينظر جيمي ج. حوله ليجد كل تلك الاسره البيضاء التي يشغلها مرضي اكبر منه باعوام كثيره. يخمن انه بمستشفي، لكن، ماذا عساه يفعل بمستشفي؟ يشعر انه بصحه ممتازه، وكل شيء بحياته يسير علي ما يرام.

العام هو 1945م، سيتم  العشرين السنه القادمه ، ربحت الولايات المتحده الحرب لتوها،  وخطب اخوه فتاه جميله من ولايه اوريجن.

منذ عامين، انهي دراسته في المدرسه الثانويه و لحبه الشديد للهندسه والالكترونيات التحق بالبحريه الامريكيه كعامل لاسلكي في الغواصات. ما السبب من وراء وجوده في هذه المستشفي اذاً؟  ما لا يعرفه و لن يعرفه جيمي ابداً هو انه، ليس بمستشفي علي الاطلاق، بل في دار مسنين! جيمي في التاسعه والاربعين من عمره و العام هو 1975م.

حتي عام 1965 عاش جيمي حياه طبيعيه يعمل بالبحريه التي كانت كل حياته. عند تسريحه منها في ذاك العام، اصبح مدمنا علي المشروبات الكحوليه، الامر الذي ادي في نهايه المطاف الي اصابته بمتلازمه كورسكاوف. يعجزعن تكوين اي ذكريات جديده، اي شيء يحدث ينساه خلال ثوان قليله من حدوثه.

عند حديث دكتور ساكس معه ثم خروجه من الغرفه لياتي بعدها بقليل، حيا جيمي الدكتور كانما يراه للمره الاولي. عدا التسع عشر عاماً الاولي من حياته،انمحي كل شيء مهما انقضت الاعوام، سيظل دائماً  يظن انه في التاسعه عشر وان امريكا ربحت الحرب لتوها. عند تلك اللحظه، توقف الزمن.

كانت كريستينا نادراً ما تحلم، لكن في تلك الليله، رات نفسها في كابوس مرعب. لم تكن تستطيع الوقوف ثابته علي قدميها اللتين كانتا تترنحان بشده، ولا الاحساس بالارض من تحتهما، اما يداها، فقد فقدت السيطره عليهما، ولم تتمكنا من حمل اي شيء دون افلاته. رات كريستينا ذلك الحلم وهي نائمه في المستشفي قبل اجراء عمليه استئصال المراره، لذا، عندما روته للاطباء لم يروا فيه الا ترجمه لقلق زائد. لكن، عندما تحقق الحلم الي حقيقه في اليوم ذاته، عرفوا ان شيء ما ليس علي ما يرام.

فقدت كريستينا تماماً الاحساس بجسدها، شعرت و كانها بلا جسد من الاساس. الطريقه الوحيده التي تستطيع من خلالها التحكم في جسدها هي عن طريق ابصاره.

كان الوقوف مستحيل ما لم تنظر الي قدميها، و امساك اي شيء مستحيل ما لم تنظر الي يديها، اما الجلوس فكان شيء بالغ الصعوبه. فقد صوتها نغمته ووجهها تعابيره. ان اغلقت عيناها لحظه، تنهار علي الارض.  لسبب غير معروف، اصيبت كريستينا بالتهاب حاد في الاعصاب دمر بشكل نهائي ومزمن شعورها بجسدها.

احتاجت كريستينا لعام كامل قضته في مركز اعاده تاهيل؛ لتستطيع العوده لحياتها كام لطفلين، ومبرمجه كومبيوتر في السابعه والعشرين من عمرها  بشكل شبه طبيعي.

تمكنت من القيام بمعظم ما كانت تستطيع فعله قبل الاصابه، لكن حياتها لم تعد كما كانت ابداً:  فقدت حركاتها الانسيابيه المعتاده، و صارت كل حركه ولو بسيطه تحتاج لمجهود ذهني، وتركيز كبيرين. شيء واحد تبقي لها: ما زالت تشعر بالهواء عند مروره علي سطح جلدها، حينها فقط، تشعر ان جسدها علي قيد الحياه. هكذا، استحال ذاك الكابوس المرعب  الذي راته كريستينا في تلك الليله الي حقيقه لم تستفق منها ابداً.

في احدي ليالي يناير من عام 1979م عاشت العجوز او.سي. جزء من طفولتها في حلم من صنع الحنين. رات نفسها طفله مجدداً في بلدها الام ايرلندا ترقص علي وقع الاغاني.

عندما استيقظت، ظلت تسمع نفس الاغاني. في البدايه، ظنت ان احدهم ترك الراديو مفتوحاً، لكن عندما تاكدت ان كل اجهزه الراديو مغلقه، وان لا احد يسمع هذه الاغاني سواها، علمت السيده او.سي. ان الموسيقي تاتي من داخل راسها. وقد كان الامر هكذا بالفعل.

وجد دكتور ساكس صعوبه كبيره في فحصها، فبجانب كونها تعاني من صمم جزئي، كانت الاغاني في راسها تغرق صوته. اوضح رسم المخ ان الاغاني، لم تكن سوي عرض لسكتة دماغية و بشفائها، حل الهدوء مجدداً، لكن هل اسعد ذلك السيده او.سي. ؟

مات ابو السيده او.سي. قبل ان تولد، وامها قبل ان تبلغ الخامسه. يتيمه الابوين، سافرت من ايرلندا لامريكا، حيث عاشت ما تبقي من طفولتها  مع عمه قاسيه. ضاعت عنها كل ذكري عن سنواتها الخمس الاولي، حيث امها، وايرلندا، والغناء.

طوال ما تبقي من حياتها حاولت استعاده اي شيء من هذا، لكن جهودها باءت بالفشل. احتاج الامر لسكته دماغيه لتستيقظ ذكرياتها من سباتها العميق، وتشعر بنفسها مجدداً طفله صغيره بين ذراعي امها.

اعط التوامين جون ومايكل اي تاريخ في خلال اربعين الف عام، وسيجيبانك بدقه في اي يوم من الاسبوع سيقع هذا التاريخ، او اسالهما عن تاريخ عيد الفصح في اي سنه من الثمانين الف القادمه، ولن يجدا ايه مشكله في اجابتك فور سؤالك.

قد تظنهما توامين عبقريين باستطاعهما القيام بالعمليات الحسابيه بسرعه فائقه، لكن الحقيقه هي ان جون ومايكل يعانيان من التوحد والتاخر الذهني الشديد، لا يستطيعان القيام بعمليات جمع وطرح بسيطه ولا يفهمان ما يعنيه الضرب والقسمه من الاساس.

في احد الايام وقعت علبه كبريت في غرفتهم. صاح الاثنان 111 في وقت واحد ثم كررا الرقم 37 ثلاث مرات.

عندما قام الدكتور ساكس بعد الثقاب وجدهما بالفعل 111. سال التوام كيف امكنهما العد بهذه السرعه.  اجاباه بانهما لم يقوما بالعد اصلاَ، بل فقط “رايا” العدد. وعند سؤاله عن معني الـ37 ؟ اجابا بصوت واحد : “37،37،37،111”. لدهشه الدكتور الشديده، قام التوام بتحليل الرقم لمعملاته دون حتي ان يعرفوا ما هي القسمه.

في يوم اخر، وجد الاثنان منغمسين باستمتاع شديد في حوار غريب من نوعه، قامت فيه الارقام محل الكلمات. يقول احدهما عدد مكون من سته ارقام، ويرد عليه اخوه بعدد اخر مكون كذلك من نفس عدد الارقام.

لم يفهم الدكتور لذلك معني في البدايه. عند بحثه في كتب الرياضيات، اكتشف ان كل تلك الارقام هي اعداد اوليه. اي شخص يعلم القليل عن الخوارزميات او الرياضيات يعرف انك حتي تقوم بتتبع الاعداد الاوليه حتي الوصول لارقام مكونه من سته اعداد، فحتي الاله ستحتاج وقت ليس بالقليل.

لم يستطع احد التعرف علي السر وراء التوامين، حتي تم فصلهما بشكل قسري ظناً من المعالجين ان ذلك سيساعدهما علي الاعتماد علي النفس. بالفعل حدث هذا، لكن في المقابل، خسرا موهبتهما الرقميه المذهله، ومعها، بهجتهما الوحيده في الحياه.

لم يكن ما سبق سوي نبذات عن حياه اربع اشخاص حقيقيين، قصصهم توضح ما قد يحدث عندما يفقد الدماغ السيطره، تشكل عشرون قصه اخري كتاب الدكتور ساكس. لاوليفر ساكس اسلوب فريد، بعيد كل البعد عن تقريريه العلوم، في كتاباته تستشعر انه صديق قديم يحدثك عن اشخاص فريدين قابلهم في حياته،

كما ستحس ايضاً بغزاره معرفته التي تمتد الي كل ما يتعلق بالموسيقي والادب والفلسفه وبالطبع علم النفس والاعصاب. عاش 82 عاماً قضاها في دراسه العقل البشري و الكتابه عن حالاته الفريده.

تُرجمت اعماله للغات عديده، وقد تم نقل “الرجل الذي ظن زوجته قبعه” و”ميل الي الموسيقي” الي العربيه منذ بضعه اعوام. واظب دكتور ساكس ايضاُ علي الكتابه في صحيفه “ذا نيو يوركر”. في اغسطس الماضي، رحل في هدوء عن عالمنا اثر اصاباته بالسرطان.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل