المحتوى الرئيسى

فيلم "القداس الأسود": ما بين الواقع والخيال - BBC Arabic

10/07 16:25

هل يصوّر الفيلم المثير "القداس الاسود"، الذي يتناول عالم العصابات الاجراميه ويقوم ببطولته جوني ديب، هذا العالم علي نحو دقيق بحق؟ يكشف لنا جورج اناستازيا، وهو صحفي ذو سمعه اسطوريه في مجال تغطيه اخبار الجريمه، واستُهدِفَ شخصيا ذات مره من قبل احدي العصابات، حقيقه هذا الامر.

رغم انه من المؤكد انه سيجري مقارنه فيلم "بلاك ماس" (القداس الاسود) بافلام مثل "غَدْ فاذر" (الأب الروحي) او "غود فيلُز" (الأصدقاء الطيبون)، فان فيلم جوني ديب الجديد يمكن ان يشكل فئه قائمه بذاتها فيما يتعلق بالافلام التي تتناول عالم الجريمه.

فهو عمل درامي يتسم بالتركيز علي شخصيه محوريه شريره، وتخيم عليه اجواء الكابه والشر. وعلي الرغم من الحديث المستفيض في ثنايا العمل عن الولاء والشرف – كما حدث من قبل في فيلميّ (الاب الروحي) و(الاصدقاء الطيبون)؛ فان (القداس الاسود) لا يحفل بهذه الامور علي الاطلاق، اذ انه في الواقع يمثل قصه حافله بوقائع الاغواء والخيانه.

وبرغم ان ذلك لا يجعله افضل من هذين الفيلمين اللذين سيُقارن بهما، واللذين يعتبران من الاعمال الكلاسيكيه التي تناولت عالم الجريمه، فانه يكسوه بطابع اكثر واقعيه منهما.

وقد حرص المخرج سكوت كوبر علي ان تكون احداث فيلمه اقرب ما تكون الي ما ورد في الكتاب الذي استُوحي العمل منه.

ويحمل الكتاب عنوان "القداس الاسود: ويتي بولجر، /اف بي اي/ وصفقه الشيطان"، وكتبه الصحفيان العاملان في صحيفه "بوسطن غلوب" ديك لِر وغيرارد اونيل، ويُنظر اليه علي انه العمل الافضل بمراحل بين كل ما كتب عن حياه جيمس (ويتي) بولجر، وهي اعمال زاد عددها عن العشره.

وتناولت هذه المؤلفات حياه بولجر، عضو في عصابه بمدينه بوسطن الامريكيه، استغل عمله مخبرا لحساب مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي اي) للافلات - حرفيا - من جريمه قتل ارتكبها، وانغمس في تجاره المخدرات وتهريب السلاح والابتزاز والاقراض بفوائد باهظه للغايه.

وباعتباري صحفيا عكف علي تغطيه انشطه عصابات الجريمه المنظمه في فيلادلفيا ونيويورك ونيوجيرسي علي مدي اكثر من ثلاثه عقود، فقد تابعت من بعيد فصول قصه بولجر وهي تتوالي علي مسرح الحياه.

وما تعلمته علي مر السنين، وما ينقله الفيلم لمشاهديه علي اكمل وجه، هو انه ما من وجود لقيمٍ مثل الشرف او الولاء في عالم العصابات والجريمه. بدلا من ذلك، يسود الجشع والغدر. فقد كان بولجر استاذا في التلاعب والمناورات، ومريضا نفسيا ذا جاذبيه شخصيه، جسد جوني ديب دوره ببراعه كامله في الفيلم. حيث نجح ديب في تجسيد الصوره التي كان عليها عناصر العصابات الاجراميه في اواخر القرن العشرين.

الاكثر من ذلك، ان مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي كان شريكا لـ"بولجر" في جرائمه بكل رضا وقبول.

فقد وفر مكتب التحقيقات الفيدرالي الحمايه لـ"بولجر" من الاجهزه الامنيه الاخري التي كانت تجري تحريات وتحقيقات بشانه، وذلك لان المكتب كان يستعين بالمعلومات التي يحصل عليها من هذا الرجل ومن ابرز معاونيه ستيفن فلَمي المُلقب بـ"ريفل مان" (رجل البندقيه)، لاستخدامها في الملاحقه القضائيه لافراد عصابه مافيا كانت تحمل اسم (نيو انغلاند)، وكذلك التمكن من الحصول علي احكام قضائيه ضد افرادها مما ادي الي القضاء عليها في نهايه المطاف.

المفارقه ان العصابه التي كان يقودها بولجر، والتي كانت تحمل اسم "عصابه وينتر هيل" نسبه لحي في بوسطن، كانت جاهزه بل وتواقه لملء الفراغ الناجم عما اسفرت عنه الملاحقات والمحاكمات التي جرت لافراد العصابه الاخري.

وقد اتسم الفيلم بدقه شديده في تصوير العلاقه التي جمعت بين بولجر وعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الطموح جون كونولي (الذي جسد دوره الممثل جويل ادغِرتون). فـ"كونولي" القادم من حي "ساوث بوسطن"، الذي جاء منه بولجر ايضا والذي يتشكل اغلب سكانه من امريكيين من اصل ايرلندي ينتمون للطبقه العامله - يشعر بالرهبه من الرجل الذي يُفترض انه يتولي مهمه التحكم فيه وتشغيله.

بل انه سرعان ما بات صريع فتنه وسحر شخصيه بولجر، ليعاقر الشراب معه، ويتقاسمان مائده العشاء اكثر من مره، ويتبادلان الهدايا، وهي كلها تفاصيل متانقه شكلت دائما جزءا من ذاك الاغواء الذي يبرع فيه بولجر.

ولكن في الوقت الذي صوّر فيه الفيلم بدقه طبيعه شخصيه كونولي من حيث كونه عميلا مارقا فاسدا، فانه لم يُحمل (اف بي اي) نفسه المسؤوليه عن النهج الذي تبناه هذا الجهاز الامني في انفاذ القانون، والذي تمثل في ان الغايات تبرر الوسائل، ذلك النهج الذي سُمح له بالازدهار؛ كلما كان الهدف هو ملاحقه عصابات المافيا الامريكيه.

ويمكن ان نضرب هنا مثالا يتعلق بما جري في اواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما ابرم جهاز (اف بي اي) صفقه مع رالف ناتالي؛ الذي كان وقتذاك زعيما لاحدي العصابات.

فرغم ان مهمه ناتالي كشاهد اثبات لصالح الادعاء امام المحكمه مُنيت بفشل تام، فان مكتب التحقيقات الفيدرالي كان مغرما بفكره قدرته علي تجنيد زعيم عصابه للعمل لحسابه وجعله ينقلب علي زملائه القدامي، ولم يكبد المكتب نفسه كثيرا من العناء للتحقق من صحه المعلومات التي كان يحصل عليها من ذلك الرجل.

ومع ان "القداس الاسود" لم يبرئ (اف بي اي) تماما من المسؤوليه؛ فانه اكتفي بالاشاره الي المشكله المركزيه التي سعي لِر واونيل جاهديّن لشرحها وتوضيحها لقراء كتابهما، الا وهي ان "نكبه بولجر" ليست الا جزءا من مشكله منهجيه يعاني منها مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي.

وتتمثل تلك المشكله في لجوء عملائه الي اختصار الاجراءات واتباع طرق مختصره وتجاهل القواعد الواجب مراعاتها، اذا ما كان ذلك سيفضي لاحراز النصر في قضيه يواجه فيها المكتب المافيا الامريكيه مرهوبه الجانب.

وفي عام 1999، انتقد القاضي الفيدرالي في مدينه بوسطن مارك ال وولف، الذي نقب في خبايا وتفاصيل انشطه (اف بي اي) علي خلفيه النهج الذي اتبعه في التعامل مع قضيه بولجر، القرار الذي اتخذ من الاساس بابرام صفقه مع هذا الرجل ومساعده فلَمي.

ثم هاجم المكتب لمحاولته اخفاء ما بدر من عملائه من سوء تصرف. وفي حكمه في القضيه، استشهد وولف بما كتبه المؤرخ البريطاني اللورد اكتون في عام 1861 من ان " الانحطاط يَصِمُ كل ما يجري في الخفاء؛ حتي وان كان اقامه العدل". وقال القاضي في ذلك الوقت ان "هذه القضيه تظهر انه (اكتون) كان علي حق".

ولكن هذا الاتهام المرير لـ(اف بي اي) ككل ليس جزءا من الفيلم، رغم ان التصرفات الشائنه التي اقدم عليها كونولي وعميل اخر زميل له يدعي موريس، شكلت بوضوح القوي المحركه لاحداث العمل.

ولكن الفيلم اولي اهتماما اكبر بكثير لما حصل عليه مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي نتيجه للتعاون مع بولجر، وذلك علي غرار ما حدث في الكتاب الذي استُوحي منه العمل.

ففي اطار احداث الفيلم، يقول كونولي لموريس عندما بدا الاخير يشكك في جدوي وصحه التعاون مع بولجر: "لقد اخرجنا المافيا من الحلبه. لو لم يكن ذلك امرا جيدا فما الذي يمكن ان يكون كذلك اذاً".

ولكن من الممكن المحاججه بالقول ان المافيا الامريكيه كانت في ذلك الوقت قد باتت بالفعل علي طريق الاضمحلال والتلاشي، وان المعلومات التي قدمها بولجر لم يكن لها نفع يذكر.

وفي هذا السياق، يمكن لنا ذكر ان كونولي نسب لـ"بولجر" – في تقارير رفعها لرؤسائه عندما كان مسؤولا عن تشغيله – الفضل في توفير معلومات وافاه بها في الحقيقه مخبرون اخرون، وذلك لتعزيز قيمه هذا المخبر باعتباره احد "اصوله الماديه" الثمينه.

ومع ان تصوير الاحداث في الفيلم يتماشي بدقه مع المسار الذي رُسم لها ببراعه شديده في الكتاب؛ فان ذلك لم يحدث طيله الوقت. بجانب ذلك، هناك مشهد يُظهر بولجر وهو يكشف لمساعده فلَمي للمره الاولي انه اقام علاقه عمل مع (اف بي اي).

فرغم ان الفيلم يُظهر فلَمي وقد بدا مصدوما لذلك، فان الواقع يفيد بانه كان يعمل مخبرا لحساب مكتب التحقيقات الفيدرالي حتي قبل ان يقرر بولجر التعاون مع المكتب.

علاوه علي ذلك، ثمه مشهد يهرع فيه كونولي لتحذير بولجر من ان مخبرا اخر يُمِدُ السلطات بمعلومات عنه، وهو امر حدث في كثير من الاحيان بالمناسبه، وهو ما قاد كونولي لان يُزج به وراء القضبان حيث يقضي حاليا عقوبه بالسجن لمده 40 سنه، لادانته بتقديم معلومات لبولجر ادت لحدوث جريمه قتل واحده علي الاقل.

علي اي حال، في هذا المشهد يبادر كونولي ويتي بولجر بالحديث في وسط الطريق وفي خضم استعراض الاحتفال بيوم القديس باتريك امام مئات من النظاره وفي حضور اثنين من كبار معاوني بولجر في العصابه.

وهنا يتعين القول، انه ما من عميل يعمل لدي ايٍ من اجهزه الامن يمكن له ان يقترب من مخبر سري رفيع المستوي يتعامل معه في وضح النهار هكذا، وفي ظل ظروف مثل هذه.

ويمكن لنا هنا الاستشهاد بتجربه رون برافيتي، وهو احد رجال عصابات فيلادلفيا. وكان برافيتي يعمل مخبرا متعاونا مع (اف بي اي) لمده عامين تقريبا، ظل خلالهما يرتدي جهازا الكترونيا يحدد موقعه وينقل ما يجريه من محادثات الي مشغليه.

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل