المحتوى الرئيسى

ذكريات مواطن عادى من زمن أكتوبر 73

10/06 22:36

كانت الساعه تقترب من الثانيه ظهر السبت السادس من اكتوبر 73 العاشر من رمضان، وكانت الخاله، رحمها الله، تنهي حياكه ملابس جديده للشاب الذي سيدخل الجامعه في غضون عده ايام بعد نجاحه في مسابقه الثانوية العامة وحصوله علي رخصه الالتحاق بكليه الاقتصاد والعلوم السياسية. كان الطقس لطيفاً انذاك، وماكينة الخياطة المنزليه القديمه تخرج ضجيجها بداب، ورغم ما فيها من ازعاج كانت بمثابه اصوات صداحه عذبه للشاب الذي ينتظر علي احر من الجمر الانتهاء من حياكه ثلاثه قمصان جديده سيذهب بها الي الجامعه، وبينما تقوم الام وتساعدها الاخت الكبري باعداد طعام الافطار الذي سيحل بعد ثلاث ساعات تقريباً، وصل الاب مبكراً من عمله علي غير العاده، وكانت كلماته تسبق حبات العرق التي كانت تتصبب بكثافه من كل قسمات وجهه قائلاً بصوت صارم: «لقد بدات الحرب.. افتحوا الراديو نعرف ما الذي يجري.. هناك بيان سيذاع الان».

كانت لحظه صادمه للجميع، اربكت كل شيء، اوقفت الخاله ماكينه الخياطه، وتركت الام المطبخ، ووقفت الاخت الكبري تسال اي حرب؟ هو احنا مستعدين؟ مرت علي الاذهان ذكريات اليمه عن هزيمه يونيو 67 وعن الهجمات الاسرائيليه العشوائيه علي المدنيين في الاسماعيليه، وعن البيوت التي تهدمت علي اصحابها وعلي الجد الذي توفي في احدي تلك الهجمات، وعن مشقه التهجير من الاسماعيليه الهادئه الي المنصوره والسنبلاوين وطنطا وبنها، ثم اخيراً الي الزقازيق. ثارت الاسئله والشكوك في اذهان الجميع ولم تكن هناك اجابه شافيه واحده. لكن الشاب كان يتساءل في نفسه هل سيذهب الي الجامعه ام لا؟ فهي الحلم الذي انتظره طويلاً. ولم يجد الاب سوي كلمه واحده انتظروا البيان وسنعرف كل شيء.

مرت خمس عشره دقيقه وكانها عمر بكامله حتي دقت الساعة تمام الثانيه والنصف ظهراً، الراديو مفتوح باعلي صوت، الاغاني الوطنيه تثير الحماسه، هناك شيء مهم بالفعل، والكل ينتظر سماع نشره الثانيه والنصف ظهراً. وجاءت الكلمات الثلاث الاولي: قواتنا المسلحه ترد عدواناً اسرائيلياً. كان الامر بمثابه شفره للتاريخ، فمصر لم تهاجم، ولكنها ردت العدوان الاكبر علي اراضيها منذ يونيو 67. في هذه اللحظه لم يكن مهما انذاك من بدا القتال، المهم هو ان قواتنا كبدت العدو خسائر جسيمه، حسب البيانات العسكريه التي صيغت بدقه شديده والتي توالت تباعاً واكدت ان قواتنا نجحت في تطوير العمليات العسكريه الي الناحيه الاخري من القناه. انها ارضنا ومن حقنا ان نتحرك فيها دون قيود.

لقد عبر الجيش المصري القناه وخط بارليف المرعب حسب الدعايه الصهيونيه، وصب كل ما استطاعه من صواريخ وقذائف وقنابل علي دُشم خط بارليف واسر من اسر وحطم ما امكن تحطيمه. في هذه الظروف بدات حياه الحرب تفرض نفسها علي المصريين جميعاً. الكل تسابق في دهان زجاج الشبابيك باللون الازرق، والبعض اقام بناء من الطوب الاحمر في مداخل العمارات بغيه امتصاص الصدمات المتوقعه من قنابل او متفجرات، وبدات تجمعات الجيران تتبادل الاخبار ومن سمع ماذا وفي اي اذاعه، وهل صحيح تقدمت قواتنا الي منتصف سيناء، وهل اسرنا قوات اسرائيليه بالفعل وكم عددها، وهل فيها رتب كبيره، ام انهم مجرد عدد محدود من الجنود الصغار.

اسئله معجونه بالقلق عكست شغف الناس في معرفه تفاصيل ما يجري، وهنا كانت بيانات القوات المسلحه بمثابه الغذاء الشافي، كانت واضحه وموجزه ودقيقه، وجاءت اللقطات المصوره ومقاطع الافلام التي عرضها التليفزيون المصري عن عبور قواتنا المتحمسه للثار وتحرير الارض وعن دشم خط بارليف المحطمه وعن الاسري الاسرائيليين وهم قابعون علي الارض في خطوط طويله واعينهم موجهه الي اسفل لتوفر الامان بان ما حدث في 67 لن يتكرر مره ثانيه.

في هذه الايام الاولي للحرب، رتب المصريون انفسهم علي قتال وحرب قد يمتدان طويلاً، خاصه ان الولايات المتحده الداعم الاكبر للهمجيه الاسرائيليه اكدت في بيانات وتصريحات مطوله انها لن تسمح بهزيمه اسرائيل، وسوف تزودها بالعتاد العسكري الضروري لمواجهه الهجومين المصري والسوري. تشكلت في الاحياء مجموعات المقاومه الشعبيه وظهر بعض قيادات الجيش في الشوارع يوجهون هذه المجموعات التي يبدا عملها مع قدوم الليل وحتي الصباح وهدفها منع حدوث اي تجاوز من اي نوع، والمساعده في تامين المؤسسات والمباني العامه. ظهرت قيمه واهميه هذه المجموعات حين بدات بعض الطائرات الاسرائيليه التي امكنها اختراق المجال الجوي المصري في القاء انواع من المتفجرات صغيره الحجم علي المناطق المدنيه والريفيه الماهوله في صوره لعب اطفال واشكال تشد الانتباه بغرض احداث اكبر عدد ممكن من الاصابات في المدنيين. كان دور مجموعات المقاومه الشعبيه يكمن في توعيه البسطاء بعدم اخذ اي شيء غريب بعد اي غاره اسرائيليه والاسراع بابلاغ المجموعه الشعبيه او قسم البوليس بوجود الجسم الغريب. والشيء بالشيء يذكر توعيه الكل من ظهور غرباء في المكان، او يسالون عن اشياء غير معتاده.

كان من المعتاد حين تصدر صافرات الانذار اصواتها المزعجه، ان يتباري شباب المقاومه الشعبيه في الصياح باعلي صوت «اطفئوا الانوار.. اغلقوا الشابيك»، وبعدها يحدث الصمت الشديد، ويتحرك البعض الي الملاجئ او الي الادوار السفليه من المباني بغيه الحمايه من قنبله طائشه او شظيه غبيه. وفي هذه الاثناء حدثت بالفعل واقعه لافته، اذ تمكنت الدفاعات الجويه الارضيه من اسقاط طائره اسرائيليه، وكانت الساعه انذاك في حدود الرابعه عصراً، وشاهد كثيرون الطيار الاسرائيلي يهبط بمظلته في ارض زراعيه قريبه من منزل الشاب. وحيث جري الجميع للقبض علي هذا المجرم، وتجمع اكثر من مائه فرد احاطوا بالطيار وَهْمّ البعض بضربه تعبيراً عن الغيظ، غير ان شباب المجموعه الشعبيه تمكنوا من الرجل، وابعدوا الراغبين في ضربه صائحين انه اسير سوف ينفعنا، حتي وصلت قوه عسكريه واخذت الطيار وذهبت به بعيداً.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل