المحتوى الرئيسى

هل يوجد الكون من دون الإنسان؟

10/02 17:24

انسان ايا انسان ما اجهلك/ ما اتفهك في الكون وما اضالك/ شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم/ وفاكرها يا موهوم مخلوقه لك/ عجبي! هكذا كتب شاعر العاميه المصري الاشهر صلاح جاهين ساخراً من تصور الانسان لاهميه دوره في الكون. ولكن يبدو ان جاهين علي روعه شعره لم يكن علي صواب تام في رؤيته للدور البشري في هذا الكون. فالعلم يتساءل عن دورنا في "صياغه" العالم من حولنا.

اكيد ان الكون عظيم الاتساع وان حجم كوكبنا بالنسبه اليه هو مثل حبه رمل في صحراء شاسعه ما يجعل الانسان كائناً ضئيلاً يعيش علي سطح كوكب "مجهري" بمقياس الكون العملاق. ولكن قبل ان يكتب صلاح جاهين السطور المذكوره اعلاه  بعشرات السنين، كان العلم قد بدا يتساءل عن دورنا في "صياغه" العالم من حولنا، وهل يساهم الوعي البشري في "وجود الكون"؟ ثم تطور السؤال ليصبح: هل يوجد هذا الكون ان لم نوجد نحن؟ ام انه مخلوق لنا. هذا السؤال ليس فلسفياً ولا دينياً. انه سؤال يطرحه علماء الفيزياء في كل العالم، ويبدو ان احدهم قد وجد الاجابه.

بدات القصه منذ ثلاثه قرون تقريباً، عندما اكتشف اسحق نيوتن (1642 – 1726) ان الضوء مكون من جسيمات متناهيه الصغر، واصبح هذا التصور المبني علي العلم التجريبي نظريه ثابته لا شك فيها لسنوات عديده الي ان جاء العالم الانجليزي توماس يونغ (Thomas Young (1773- 1829 وقال ان الضوء يسري في الطبيعه علي شكل موجات.  لكن نظريته قوبلت في ذلك الوقت برفض شديد لما كانت قد اكتسبته افكار نيوتن من تكريس علمي.

واضطر يونغ الي الانتظار حتي قبل وفاته باثني عشر عاماً ليري انتصار نظريته عندما اقرت اكاديميه العلوم الفرنسيه بالطبيعه الموجيه للضوء رغم معارضه اغلب اعضائها في البدايه، الا ان التجارب رجحت كفه يونغ في نهايه الامر. فتري من منهما كان علي حق؟ الحقيقه كما يخبرنا بها العلم الحديث ان كليهما كان محقاً.

ليس الضوء مجرد جسيمات ولا موجات، بل هو الاثنتان معاً! هو في لحظه ما موجات وفي لحظه اخري جسيمات. الي هنا ليس الامر شديد الغرابه، وربما يراه البعض عادياً. ولكن هل يظل الراي هكذا اذا عرفنا ان الضوء يغير من طبيعته الموجيه و"يتجلي" كجسيمات عندما نكون "نحن" هناك. فقط عندما يراقب احدهم الضوء او حين يتم قياسه او تصويره بواسطتنا، يتحول فوراً كل جزيء ضوء (فوتون) من موجه الي جُسيم. وكان موجات الضوء قد عرفت ان هناك من يراقبها فغيرت من طبيعتها الفيزيائيه.

يبدو الامر عصياً علي التصديق. اليس كذلك؟ بل ان الادهي والاكثر غموضاً هو ان ما ينطبق علي فوتونات الضوء ينطبق علي الالكترونات الموجوده في جميع المواد كما اثبت كلاوس يونسن Claus Jönsson في تجارب اجراها، عام 1961، في جامعه توبنجن Tübingen الالمانيه.

وربما اول سؤال قد يتبادر الي الذهن هو كيف استطاع العلماء رصد هذه الظاهره العجيبه ان كانت الماده تتصرف كموجات فقط في لحظه "الغياب" التام للعنصر البشري المراقب؟ الاجابه اتت عن طريق واحده من اشهر تجارب الفيزياء الحديثه هي تجربه الشَق المزدوج Double Slit Experiment.

في هذا الفيديو (باللغه الانكليزيه) شرح مفصّل وتبسيطي للتجربه.

هذه التجربه ترتكز في الحقيقه علي تجارب توماس يونغ الاوليه ولكنها طُوّرت بفضل التكنولوجيا، اذ جري استخدام مدفع صغير لارسال فوتونات ضوئيه عبر شقين في لوح صلب، وخلف اللوح تم وضع فيلم حساس علي الضوء (يشبه ما كان يستخدم في الكاميرا سابقاً) حتي يتمكن العلماء من معرفه موقع سقوط الفوتونات بدقه. والنتيجه: اذا جري وضع كاميرا او ايه وسيله اخري للرصد او القياس، كانت فوتونات الضوء تسقط علي الفيلم كجسيمات وتترك كل منها اثراً لنقطه علي اللوح. لكن في حاله غياب اي عمليه رصد، كانت الفوتونات تترك علي الفيلم اثراً يشبه الامواج تماماً.

ولحسم المساله علي نحو شبه تام، قرر العلماء ارسال فوتون واحد فقط بعد الاخر من المدفع لتلافي احتمال تداخل او تاثير متبادل بين الفوتونات. لكن النتيجه لم تتاثر: عند المراقبه تتصرف الماده مثل جسيمات وفي غيابها مثل موجات. ولكن ماذا يعني هذا؟

يعني ببساطه ان كل فوتون علي حده تصرف كموجه في لحظه مروره من الشقين، اي انه مر في اللحظه نفسها من الشقين معاً، وهذا مستحيل رياضياً وفيزيائياً، لكنه حدث عملياً في تجارب استمرت عشرات السنوات في مختلف مختبرات عدّه.

جون ويلر (John Wheeler (1911- 2008 احد اشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين يقول ان النتيجه العلميه لهذه التجارب تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان الانسان ليس مجرد مخلوق مهمل في هذا الكون، بل ان مجرد وجوده بدون ان يمارس اي فعل، يغير من طبيعه الكون كله. من هنا طرح السؤال الاخطر: ماذا لو لم نكن موجودين؟ هل كان الضوء سيتصرف كموجات فحسب؟ هل كانت الماده ستوجد في صورتها الموجيه فحسب؟ ام ان الكون كله ربما كان موجوداً فقط لاننا موجودون؟

قرر ويلر تطبيق التجارب المخبريه نفسها علي مقياس كوني عملاق، وصمم تجربه ذهنيه تهدف الي تحليل الضوء المقبل من نجم في اطراف الكون في رحله طويله جداً الي كوكبنا، لكنه يصطدم في طريقه بمجرتين كبيرتين (تعملان عمل الثقبين في اللوح الصلب الموضوع امام المدفع في المختبر). ووضعت الواح عملاقه لاستقبال الفوتونات المهاجره علي نحو يحاكي التجربه تماماً.

وهنا تاتي المحطه الاكثر غرابه، فرغم الاختلاف الكبير في ظروف التجربتين فان النتيجه واحده. وتم اثباتها تجريبياً كما تصورها ويلر تماماً عام 1984 فيما سمي بتجربه الاختيار المتاخر Wheeler's delayed choice experiment.

يقول ويلر ان ما حدث هنا امر خارج عن مفاهيم المنطق العادي، لاننا يجب ان نتذكر جيداً ان هذا الضوء الذي وصلنا من الطرف الاخر للكون لحظه التجربه، كان قد رحل عن نجمه ربما قبل ملايين السنوات ومر بالمجرتين كذلك منذ سنوات بعيده. ويعني هذا ان رصدنا لوصول الضوء الي الارض غيّر من مسار وطريقه ترحاله في الفضاء في الزمن الماضي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل