المحتوى الرئيسى

يوسف ناصف يكتب: مثلث الاستعمار | ساسة بوست

10/02 16:06

منذ 4 دقائق، 2 اكتوبر,2015

“عقيده الاستعمار الحديث بنيت علي ثلاث ركائز: داروين، فرويد، وميلتون. فاذا ما نشدتَ التحرر عليك كسر الاضلع الثلاثه من قبل حتي بدايه التخطيط “

الجزء الاول :عقيده الصدمه واقتصاد الكوارث

“ميلتون فريدمان”، قراءه في كتاب ناعومي كلاين

عقيده الصدمه، مصطلح نشا في خمسينيات القرن العشرين علي يد الطبيب الكندي البارز دونالد ايوين كاميرون، الطبيب النفسي بمشفي “الان ميموريال”، حيث تعاون مع وكالة الإستخبارات الأمريكية التي مولت ابحاثه لاستحداث وسيله جديده لاستخلاص المعلومات وزرع الافكار في ادمغه المعتقلين.

كان كاميرون يعتقد ان ثمه عاملين مهمين يتيحان لنا الحفاظ علي ادراكنا للعالم من حولنا؛ البيانات الحسيه التي ترد لنا باستمرارعن طريق الحواس المختلفه، والذاكره. لذلك عمد الي الغاء الذاكره عن طريق الصدمات الكهربائيه المتكرره الموجهه بدقه والمهلوسات، والغاء البيانات الحسيه بواسطه العزل التام عن الضوء والاصوات،

كل ذلك مع الحرمان من النوم، فيصبح عقل  المريض صفحه بيضاء يكتب عليها من المعلومات والافكار كيفما يشاء، ويوجه مريضه حيثما يريد.

تحكي جانين هوارد – مريضه بالان ميموريال واحدي ضحايا تجارب كاميرون -: “كنت استيقظ في غرفه اخري وانا اشعر بالحزن والاكتئاب الشديدين من دون سبب، كنت ابدو تمامًا كجثه تتحرك وهي في غيبوبه”.

حققت هذه التقنيه نجاحًا باهرًا حتي صارت البروتوكول المعتمد في التعامل مع المغضوب عليهم من المعارضين والارهابيين في السجون السريه للاستخبارات الامريكيه – كما يوضح كتيب “كوبارك” –  والموساد الاسرائيلي وغيرهم.

ظل مصطلح عقيده الصدمه سجين نظريات علم النفس وزنازين التعذيب حتي جاء الباحث فريدمان فنقله الي ساحه النظريه الاقتصاديه، حتي صار يدعي “طبيب الصدم الاقتصادي”.

ميلتون فريدمان، من مواليد عام 1912 ببروكلين، نيويورك. عمل استاذًا للنظريه الاقتصاديه بجامعه شيكاغو، ويعتبر مؤسس ما عرف بعد ذلك بمدرسه شيكاغو في الاقتصاد. ينظر الان الي ميلتون علي انه عراب  “السوق الحر”  حيث امن بضروره تقييد دور الحكومه في الاقتصاد  لصالح الشركات الخاصه  “الشركات متعدده الجنسيات”، ما اصبح يعرف لدي غير المتخصصين بالـ”خصخصه”.

ذهب ميلتون الي انه اذا ما توقفت الحكومه عن تقديم الخدمات وتوفير الدعم وضبط الاسواق فان الاقتصاد سيضبط نفسه بنفسه، ولكن في سبيل ذلك يجب النظر الي كل شيء حولنا علي انه سلعه لها ثمن وسوق حر تماما عن رقابه الدوله او دعمها،

حتي الماء والطعام والدواء والعلاج، كلها سلع تقدمها شركات متخصصه، من لا يملك ثمنها لا تلزمه، حتي انه  -في خضم حوار متلفز-  صرح مازحًا: “بالطبع انا لا انوي خصخصه كل شيء، فانا لا انوي خصخصه قواتكم المسلحه ولا جهازكم القضائي ولا بعض طرقكم، اما الباقي فهو لي”.

يظهر تطرف ميلتون منذ الوهله الاولي لكل متعقل، ولكن نظرياته وكتاباته لاقت استحسانًا شديدًا في الاوساط الاكاديميه والعالميه، حيث تقابلت مع مصالح الشركات العملاقه العابره للقارات، فقد اتيح لها التغلغل داخل كل تفاصيل الحياه، وتحويلها الي سوق كبير لا يحكمه اي شيء سوي منطق العرض والطلب،

فقامت الشركات بدعم ميلتون وجامعه شيكاجو، وتمويل المنح الدراسيه للاقتصاديين الشباب من جميع بقاع العالم، حتي اشتد عود  “مدرسه شيكاغو” وتخرج جيل يافع من الاقتصاديين من جميع بقاع العالم سمي بـ”فتيان شيكاغو” (ناصف ساويرس في مصر علي سبيل المثال) حملوا علي عاتقهم اعاده صياغه الخطط الاقتصاديه في بلادهم لتتواءم وافكار ميلتون،

ولكن ظهرت عقبه امام هذه النظريه الجديده، كيف ستتقبل الشعوب  – وبالذات شعوب العالم الثالث المستهدفه اساسًا – هذا البلاء المنتظر؟ البلاء المتمثل في رفع الدعم عن كل مناحي الحياه، مما سيؤدي ولا شك الي افلاس الملايين وموت الالاف المؤلفه جوعا ممن هم دون خط الفقر! وهنا تتجلي عقيده الصدمه في ابشع صورها.

امن ميلتون ان العلاج بالصدمه الاقتصاديه يشجع المجتمع علي تقبل شكل “انقي” من الراسماليه المتحرره من جميع القيود والضوابط التنظيميه. “فقط الازمه – فعليه او مختلقه – هي ما تصنع تغييرًا حقيقيا.

عندما تقع الازمات، فان الاجراءات الواجب اتخاذها تعتمد علي نوع الافكار التي تريد زرعها حول هذه الازمه”.

الكارثي هنا ان ميلتون لم يدعُ فقط الي اقتصاد “اعاده الاعمار”، لم يدعُ فقط الي استغلال الكوارث الطبيعيه والمجاعات والفقر لسحق الشعوب تحت اعباء الديون ومن ثمّ سلب ارادتها الاقتصاديه والسياسيه تباعا، لم يكتفِ بذلك، ولكنه المح في غير مره الي ضروره “خلق” الازمه في بعض الاحيان.

وانطلاقا من هذا الكابوس الفكري، ظهرت اولي تطبيقات عقيده الصدمه، تشيلي.

في الخمسينيات ثم الستينيات، خاضت تشيلي تجربه تنمويه تقدميه، كانت تعتبر ضوءًا للمنطقه بل والعالم الثالث باسره، استثمرت الحكومه جل ثروتها في الصحه والتعليم والصناعه، مما اضر بمصالح الشركات بل وهدد نفوذ الحكومه الامريكيه في امريكا الجنوبيه.

جاء الرد سريعا عن طريق الخارجيه الامريكيه التي اعلنت عن منح دراسيه لطلبه من تشيلي وباقي دول امريكا الجنوبيه – بتمويل ضخم من الشركات العابره للقارات – لدراسه اقتصاد السوق الحر بشيكاجو علي يد ميلتون وزملائه،

ثم نالوا درجات الدكتوراه ليعودوا الي بلادهم ويعلموا ابناءها. اصبح قسم الاقتصاد بالجامعه الكاثوليكيه بسانتياجو نموذجًا مصغرًا عن شيكاغو، فيقول ارنولد هاربيرجر المسئول عن برنامج المنح: “لقد نذرت حياتي رسولا للاقتصاد الحر”.

ثم ياتي عام 1970 بفوز سلفادور الليندي في الانتخابات الرئاسيه – مؤسس حكومه الوحده الشعبيه وصاحب برنامج تاميم قطاعات كبيره من الاقتصاد – وبرغم جهود الشركات الامريكيه، والـCIA وحتي نيكسون ذاته، ادي الليندي اليمين الدستوريه رئيسا للبلاد، فكان لا بد من الصدمه.

بدا الهجوم علي حكومه الليندي من ثلاثه محاور؛ الاول اقتصادي عن طريق العقوبات وخنق الاقتصاد التشيلي، والثاني عسكري عن طريق اعداد الـCIA  لانقلاب عسكري داخل صفوف الجيش التشيلي، والثالث فكري حيث بدا فتيه شيكاجو وسنتياجو باعداد مخطط لاعاده بناء اقتصاد البلاد مكون من 500 صفحه، اطلق عليه “حجر الاساس”.

وفي 11 سبتمبر 1973 وبعد 41 عامًا من تمتع تشيلي بحكم ديمقراطي مدني سلمي بلا انقطاع، قام الجنرال اوجوستو بينوشيه قائد الجيش بانقلاب عسكري، بداه بالهجوم علي القصر الرئاسي بالمجنزرات، واصفًا ما يقوم به بـ”الحرب” وليس انقلابًا،

وبالفعل تم تصميمه ليبدو كحرب مكتمله الاركان، مجنزرات في الشوارع والطرقات، قصف القصر بالمدفعيه وغارات الطيران، اعتقال اكثر من 13,000 مواطن في غضون ايام، وتم تحويل الاستاد الوطني الي سجن وساحه تعذيب. وكانت تلك اولي تجارب تشيلي مع الصدمات والخوف الموجه.

ومنذ الايام الاولي، سلم فتيه شيكاجو مخططهم “حجر الاساس” الي حكومه بينوشيه،وبدا التنفيذ: ازاله الرقابه علي الاسعار، بيع الشركات المملوكه للدوله، ازاله حواجز الاستيراد، تخفيض الانفاق الحكومي وتسريح العاملين في القطاع العام.

اعترف ميلتون في وقت لاحق باهميه التجربه التشيليه: “لقد كانت اول حاله يتم تحويل فيها نظام اقتصادي ماركسي، لنظام يقوم علي السوق الحر بالكامل”.

وبرغم فشل التجربه حتي علي المستوي الاقتصادي (فقد بلغ معدل التضخم بعدها بعام معدل 375% سنويا وهو اعلي معدل في العالم) اصر ميلتون وهاربيرجر علي المضي قدما في استخدام الصدمه الي اخر مداها, قابلا بينوشيه في سانتياجو واوصياه باتخاذ المزيد من التدابير التقشفيه، حتي صارت الاسره متوسطه الدخل تنفق ما يزيد عن 70% من دخلها علي الخبز فقط!

وكان لا بد لكي يستجيب الشعب، من خلق عدو للامه “شبح لا يمكن الامساك به” طبقا لخطابات بينوشيه.

في تشيلي، كان العدو هو الماركسيه.

تكررت عقيده الصدمه وتكرر فكر ميلتون في العديد من الدول، وتبقي النتيجه واحده: سحق الطبقه الفقيره لصالح الاغنياء، واستعباد الدوله لصالح الشركات التي – وبفضل اقتصاد السوق الحر – تمكنت من امتلاك جل ثروات البلاد، وتحكمت في كل خدماتها وممتلكاتها.

صرح ميلتون في اكثر من مره بان افكاره تسير دائما وابدا في عباءه الحريه والديمقراطيه، ولكن في نموذج تشيلي –وبرغم انكاره الرسمي لدعمه للحكم السياسي في تشيلي – نري مباركته لاعتي اشكال الديكتاتوريه العسكريه وتايده للمجازر والاعتقالات، بل ووجوده الشخصي بجوار بينوشيه في سانتياجو طالما يصبو كل ذلك الي هدفه الاسمي في ميكافيليه منقطعه النظير،

يمكن الرجوع في ذلك الي مذكرات اورلاندو لاتيليه سفير الليندي، والذي تم اعتقاله ثم نفيه خارج البلاد، يقول لاتيليه: “حجر الاساس” كان سيتم تطبيقه ولا شك، وفي السياق التشيلي لا يمكن ان يطبقوه الا من خلال قتل الالاف وانشاء معسكرات الاعتقال في جميع انحاء البلاد واعتقال اكثر من مائه الف شخص علي مدار 3 سنوات”.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل