المحتوى الرئيسى

الأقصى وواقعية الواقعيين

09/29 10:50

حين اطلق محمود فهمي النقراشي باشا -رئيس وزراء مصر الشهير- ابان احتدام الصراع في فلسطين بين القوي الاستعماريه والقوات الصهيونيه وبين العرب في اربعينيات القرن الماضي، عبارته: "انا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين"؛ حينها كان الرجل يعبر عن مرض لعين يصيب عندنا بعض الساسه والمثقفين والمشايخ وجانبا من جماهيرنا في اللحظات التاريخيه العصيبه، ومع التحولات السياسيه الكبيره التي تمر بنا ونمر بها؛ يفقدون معه الوعي والحس والشعور، وينخلعون به من انتمائهم التاريخي والجغرافي، واخشي ان اقول الديني والانساني كذلك!

وهذا كله بعض حصاد التشويه الثقافي والفكري الذي تسلط علينا، وبعض ثمرات الانحراف التربوي والمعرفي الذي تعرضت له اجيال من شعوبنا في مدارس وجامعات بلا برامج ولا مناهج اصيله العقل والروح، وفي محاضن تربويه بلا مربين ولا مؤدبين، وفي اذاعات وقنوات تلفزيونيه بلا هدف ولا غايه الا التلهيه والتسليه والتشويه العقلي والخلقي.

وقد جاء الحصاد مُرًا، وكثيرا ما يلبس لباس الواقعيه الكاذب، فيزعم ان ما يصيب بيروت لا يهم من في الدار البيضاء ولا مقديشو، وما يعرو القدس لا ينبغي ان يبكي له الحَرَمان، ولا تحزن له اروقه الازهر ولا محاضر شنقيط، وما يسيل من دم بغداد لا ينبغي ان يشغل المقيمين بسفح قاسيون ولا رحاب الزيتونه، وما يجري في رابعه والنهضه لا علاقه له باهل التوحيد من الهنود والبنغال والافغان والتركستان والطاجيك.

ولهذه الواقعيه العجيبه في بلادنا صور ثلاث:

الاولي: حين يزعم لك صاحبها ان الصوره التقليديه للعالَم وتصوراته قد سقطت في بلادنا مع زحف الحداثه وولاده الدوله الحديثه فيها منذ عقود طويله، وان الحدود السياسيه تمثل في الوقت نفسه خريطه الانتماءات والهويات، فالليبي ليبي فقط، والسوري سوري فحسب، والقطري قطري ليس الا، وكذا الجزائري والتونسي والسوداني والعُماني وغيرهم!

وقد وَلدت هذه الصوره من الواقعيه في بلادنا وصفوفنا -وما زالت- نماذج عجيبه من العماله للعدو والعمل ضد مصالح الوطن والامه، حتي كان هؤلاء اشد ضررا علي قضايانا في فلسطين وغيرها من العدو الصريح الذي ما اخترق حدودنا ولا استقر في ارضنا الا بعونهم، حتي اطلق احد المعلقين قولته الداله: ان دوله اسرائيل لم تستقر في ارضنا الا وعلي يمينها الحسن وعلي شمالها الحسين!! ولا فرق في هذا -في الحقيقه- بين "حسين" السياسه و"حسين" الثقافه والفكر، ولا بين "حسن" الدبلوماسيه و"حسن" الاعلام والفن!

وهي صوره للواقعيه تناقض نفسها؛ اذ يصمت اصحابها تماما حين ينكل الاسرائيليون باحرار القدس ومرابطي الاقصي، وتنطق علي استحياء حين يحرق غزاه الشتات فلسطينيين امنين في مخادعهم ومهاد صبيانهم، وتتكلم محتجه بملء فيها حين ينطق صوت ما يقاوم الاحتلال، او حتي يدعو الي مقاومته.

وسل عن هذا حكام رام الله والمقاطعه والمهللين لهم في الصحافه والاعلام، وكيف ينكلون ويشوهون صوره المتظاهرين من سكان الضفه دفاعا عن الاقصي والقدس، وسل عنه انقلاب مصر واعلامه الذي يصرح بصداقه اسرائيل وعداوه الفلسطينيين والسوريين، ويمارس الارهاب واغراق منافذ الحياه وانفاقها الصعبه التي حفرها الغزيون ابقاء علي رمق للحياه، وياتي في اعلامه باستاذ جامعه مافون يزعم انه لا يجوز الدفاع عن الاقصي حتي لا نثير حربا دينيه مع اسرائيل!

وقد دحض الربيع العربي المغدور به مقولات هؤلاء ومزاعمهم حين اثبت ان منطقتنا العربيه -وشيئا ما عالم الاسلام؛ السني علي الاقل- بينها من التواصل ما يندر ان نجد له مثيلا في اي اقليم جغرافي اخر، بما في هذا دول السوق الاوروبيه المشتركه التي ازالت الحدود فيما بينها، حتي يمكننا ان نشبه منطقتنا بمجموعه من الشوارع المتجاوره؛ ما ان يصرخ صارخ في احدها معبرا عنها بصدق الا جاوبته بقيه الجهات، برغم كل ما فعلته الحدود السياسيه والاستعمار وابواقه الوطنيه في بلادنا طوال القرنين الاخيرين.

ان ايران التي انفقت ما انفقت لتصدير ثورتها لم تفلح في هذا الا بالخداع والعمل المخابراتي الطويل والارهاب والحرب المباشره وبالنيابه، واما عالمنا العربي فما دفع احد لاحد دينارا ولا درهما لنقل الشعله من سيدي بوزيد الي القاهره فبنغازي وطرابلس وصنعاء وعدن، ثم دمشق وحلب وحماه؛ ما دفع احد شيئا ليحدث هذا، لكنه الانبعاث التلقائي الذي ان عكس عمق الازمه بين الانظمه العربيه وشعوبها، فقد عكس شيئا اخطر، وهو ان الهويه الواحده ما زالت تجمع هذه الامه، وكونها ممزقه وفي حال سياسيه يرثي لها اقوي دلاله -حين يبدو منها هذا السلوك التجاوبي- علي عمق الصله بين اوصال هذا الوطن العربي المنكوب بالاستبداد وداعميه الخارجيين.

وبالمثل، فان الفهم النظري الصحيح لقضايانا، وفي مقدمتها الاقصي والقدس وفلسطين وشقيقاتها الجديدات في العراق وسوريا ومصر واليمن، واستيعابها علي حقيقتها واجب لا يحتمل التاجيل، واما ما يمكن ان نقدمه لها من افعال فهو امر يخضع لقاعده التكليف بما يطاق.

بل هناك قواعد اصوليه وفقهيه اخري عظيمه يمكن ان تمثل ضوابط مهمه هنا، مثل ان الامر كلما ضاق اتسع، وان الضرورات تبيح المحظورات، وان المشقه تجلب التيسير، وغيرها من القواعد التي يجب فهمها علي وجهها وتطبيقها في ظرفها، فلا ياتي احد مثلا ويقول ان التطبيع مع اسرائيل ضروره، او انني لا استطيع ان ادعو للاقصي لان لساني مشغول بالدعاء للاموي، او لا املك في قناتي الفضائيه ان اتحدث عن القدس وسماء القاهره وسيناء ملبده بغيوم التوتر، او ان المرابطين في باحات الاقصي وساحاته قد يتسببون في نشوب حرب دينيه بيننا وبين اسرائيل!

ثم ان الواقعيه تكون كلاما فارغا ان فُهمت علي انها انعزال كل وحده سياسيه في مشكلاتها ومصالحها الخاصه، فما من كيان سياسي الا وتتجاوز مصالحه حدوده، وتهدده المخاطر من خارجه كما يتوقع ان تاتي من داخله.

وقد راينا ان خطوط الاحداث الصاعده والنازله في بلاد الربيع العربي قد اثر بعضها في بعض بقوه، فقد رافق صعودَ الاوضاع في مصر لصالح الثوره تقدم ملحوظ في سوريا وليبيا، وحين وقع الانقلاب تازمت الاوضاع في كلا البلدين. كما ان الفاعلين الخارجيين في سوريا الان اكثر قوه وعددا من الفاعلين الداخليين.

الصوره الثالثه لواقعيتهم: تظهر حين يقول لك واقعي هذا الزمان: ما لكم وللاقصي والقدس، وفلسطين كلها قد وقعت في يد الغزاه اليهود منذ دهر بتوافق دولي من كبريات دول الارض في الشرق والغرب؟ وان ما هو قائم في فلسطين امر واقع ولا بد من الرضا به والتاقلم معه.

والتسليم بالامر الواقع هكذا عجز يتنزه عنه من له ادني معرفه بتجارب التاريخ وقوانين التداول بين الامم، فكم من امه خرجت من تحت الركام وسادت، وكم من شعب شتتته الايام ثم جمعته مشروعات سياسيه او دينيه او حتي اقتصاديه واعده.

ولا نتكلم هنا عن اسرائيل باعتبارها نموذجا وحيدا هنا، بل جمله الدول التي وقعت فريسه الاستعمار في اسيا وافريقيا واميركا الجنوبيه ظُن لفتره من الزمن انها لن تشهد عهدَ عافيهٍ وقوه ابدا، وان هذا هو اخر سطر لها في التاريخ، حتي انتفضت الشعوب في هذه الاقطار انتفاضات ضخمه لو كانت اكتملت من البدايه بمشروعات وطنيه مخلصه ومتقنه لما شهدنا واحدا منها الا وهو يزاحم ما يسمونه العالم الاول بالمناكب، كما نشهد من بعضها الان فعلا.

ان الواقعيه العاقله تعني فهم ما هو قائم، والانطلاق منه لصناعه مستقبل افضل. ولا تعني ابدا حبس المستقبل في صوره الحاضر، والامساك بذيل اللحظه حتي لا تبرح، والا تكلس التاريخ وتجمد عند صوره واحده، وهذا ليس من قانون الله في تاريخ الانسان علي الاطلاق، بل الامر قائم علي مثل قول الله تعالي: "وتلك الايام نداولها بين الناس"، وهو ما تنطق به صفحات التاريخ بكل قوه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل