محبو أحمد خالد توفيق على موعد مع «أفلام الحافظة الزرقاء»

لست ناقدًا سينمائيًا؛ لكني اعرف جيدًا تلك الافلام التي هزّتني او ابكتني او اضحكتني او جعلتني افكّر طويلاً... اعرفها واحتفظ بها جميعًا في الحافظه الزرقاء العتيقه التي تمزّقت اطرافها، وسوف ادعوك لتشاهدها معي لكنها اثمن من ان اقرضها! معظم هذه الافلام قديم مجهول او لا يُعرض الان، لكنها تجارب ساحره يكره المرء الا يعرفها من يحب.

هكذا قدم الكاتب الكبير د. أحمد خالد توفيق لرائعته “افلام الحافظه الزرقاء” والتي لاقت ذيوعا واسعا وقت صدورها، واعادت دار “ليلي” نشرها للقراء في طبعه انيقه حديثه.

ونستمتع مع تحليل توفيق لواحد من الافلام وهو “احدهم طار فوق عش الوقواق” وهو عنوان مستوحي من اغنيه اطفال. عرض هذا الفيلم عام 1975، واحدث اثرا كبيرا في اعمال عده، بحيث صار مستشفي المجانين مكانا دراميا مهما يصلح لاعمال عده، ويمكنك ان تشم رائحه هذا الفيلم في اعمال مصريه مثل “احلام الفتي الطائر” و”ايام الغضب”..

الفيلم من اخراج المخرج تشيكي الاصل ميلوش فورمان، الذي سنقرا اسمه فيما بعد علي اعمال عظيمه مثل “اماديوس” و”الشعر” و”الشعب ضد لاري فلينت” و”اشباح جويا”.. يبدو انه كان يتحسس خطواته الاولي في المجتمع الامريكي في ذلك الوقت، ولم يحبّ ما راه..

محرّك هذا الفيلم والعفريت الحقيقي الذي تفتقده في ايه لحظه يغيب فيها عن الشاشه هو جاك نيكلسون. كانت هذه اول مره يفطن فيها المشاهد المصري لهذا الممثل العبقري، وفي الحقيقه يُعتبر الفيلم مباراه اداء مذهله بينه وبين الممثله ليزا فلتشر، في دور رئيسه التمريض الطاغيه، وقد نال كلاهما جائزه الاوسكار في ذلك العام عن جداره.

رشح الفيلم لتسع جوائز اوسكار، وقد حصد منها خمسا هي الخمس الكبار (افضل فيلم – افضل اخراج – افضل ممثل – افضل ممثله - افضل سيناريو) التي لم يحصل عليها معا الا افلام محدوده. وقد ضمّته مكتبه الكونجرس؛ باعتباره تراثا انسانيا مهما. القصه للاديب كين كيزي.

يدور الفيلم في مصحه عقليه لا نعرف مكانها بالضبط، لكنها علي الارجح علي حدود كندا.. هناك مجموعه من المجانين الهادئين خاضعون في استسلام لسلطه الممرضه راتشيت. من ضمن المجانين سوف نعرف داني دي فيتو صغير السن جدا، وكذلك كرستوفر لويد. يمكنك منذ البدايه ان تفترض ان المصحه هي المجتمع الامريكي والممرضه راتشيت هي السلطه.

يقدّم الفيلم راتشيت حسب القاعده الامريكيه الشهيره: كل من هو مهذب ويتكلم بلكنه بريطانيه راقيه، ويستعمل لفظه “مستر”، هو في الحقيقه انسان قاسٍ متوحش.. بينما الشخص الوقح نوعا الذي يتكلم بلكنه امريكيه ويستعمل الشتائم، هو في الغالب رجل “جدع” ظريف. دور الممرضه رائع، وقد حرص المخرج علي ان يصوّرها وهي لا تدرك ذلك اثناء جدلها معه او احتدادها عليه.. لقطات ردود الافعال الشرسه هذه استعملها في سياق الفيلم ذاته.

الحياه تمضي هادئه الي ان يهبط من السماء رجل كارثه هو السجين ماكمورفي، الذي يتظاهر بانه مجنون ليفلت من السجن. متهم بانه اقام علاقه مع فتاه دون السن القانونيه. مهرّج بالفطره ومشاغب حتي النخاع، ضد السلطه بكل اشكالها، ويصعب اخضاعه.

عندما يتعرّف بمجموعه المجانين الموجوده معه يكتشف انهم خاضعون تماما للممرضه. نعرف ويعرف وتعرف الممرضه ان الصدام قادم لا محاله. من ضمن المرضي هناك العملاق الهندي الاخرس برومدن الذي يناديه مكمورفي بالزعيم، ويصمم علي تعليمه كره السله. وهناك بيلي الشاب المذعور العصابي الواقع تحت سلطه امه.

يبدا الصدام فعلا عندما يطالب بان يُسمح لهم بمشاهده مباريات الكره العالميه في التليفزيون. ترفض الممرضه ذلك؛ لانه اخلال بالقواعد.. يطالبها بعمل تصويت.. لكنه الوحيد الذي يرفع يده؛ لانهم جميعا خائفون. ينجح في اقناع المجانين كلهم برفع ايديهم عندما يتم التصويت مره اخري، لكن الممرضه تقول في برود ان اوان التصويت قد مرّ.

يؤكد للمجانين انه قادر علي الفرار ويمكن ان يشاهد المباريات كلها في المدينه.. سوف يرفع المضخّه العملاقه التي ترشّ الماء ويحطم بها النافذه ويفرّ. يراهنهم علي انه قادر علي ذلك.. يحاول.. يئنّ.. توشك عروق رقبته علي الانفجار.. لكن المضخه ثقيله جدا فلا يقدر علي زحزحتها. في النهايه يستسلم، ويقول كلمته الشهيره:

ـ”علي الاقل قد جربت.. اليس كذلك؟”.

لكن برنامج مكمورفي لتحدي السلطه لا ينتهي هنا. انه يفرّ من المصحه مع المجانين، لياخذهم مع فتاه يعرفها في رحله صيد في عرض البحر. يعلّمهم صيد السمك، لكن تنتهي الرحله نهايه كارثيه.

نتيجه شغبه المستمرّ يتم اخذه هو والعملاق الهندي للعلاج بالصدمات الكهربيه، وهنا يكتشف لدهشته ان الهندي يتكلم.. لقد كان يتظاهر بالخرس طلبا للامان..

يمر بتجربه الصدمات الكهربيه القاسيه، لكنها تزيده مشاغبه

الان وقد عاد مكمورفي يصمم هو والزعيم الهندي علي الفرار.. ان الحدود الكنديه قريبه، ويمكنهما المشي لها. لكنه يقرر ان يقيم حفلا اخيرا لرفاقه المجانين.. يقوم برشوه الحارس الليلي كي يسمح بدخول فتاتين مع زجاجات خمر.

ويبدا حفل صاخب مع الموسيقي والرقص. ياخذ الفتي المتهيب الواقع تحت سلطه امه فتاه الي غرفه جانبيه، لكن ما يحدث هو ان الجميع يغيبون عن الوعي.. يغيبون عن الوعي الي ان تصل الممرضه راتشيت في الصباح لتكتشف ان مملكتها التي تديرها بصرامه قد تحوّلت الي سيرك. الفوضي في كل مكان.. حتي مكمورفي نفسه غاب في النوم ونسي ان يفرّ! لكنها تعرف انه المسئول بالتاكيد عما حدث..

هنا تكتشف الفتي بيلي وتعرف ما فعله. تخبره ببرود انها ستخبر امه بكل هذا.. الفتي مذعور ويتلعثم بقوه ويرجوها الا تفعل.. لكنها مصممه..

يفرّ الفتي الي حجرتها ويحطم كوبا ثم يذبح نفسه به. عندما يعرف مكمورفي بهذا يفقد التحكم في اعصابه، وينقضّ علي الممرضه ليخنقها.. ويوشك ان ينجح لولا ان الممرضين انقذوها منه..

الان تعود المصحه الي نظامها المعهود.. الممرضه تمارس سلطتها، والفارق الوحيد انها تضع ياقه بلاستيكيه. المرضي مطيعون كالعاده.. لا احد يعرف اين يوجد مكمورفي.. البعض يقول انه هرب، والبعض يقول انه في غرفه خاصه..

يصمم الزعيم الهندي علي البحث عن صديقه. يتسلل للطابق العلوي فيجده في الفراش، وقد تمت حلاقه راسه بطريقه غريبه. لقد اجروا له جراحه استئصال فصّ المخ Lobotomy لتهدئته.. والنتيجه.. هو ذا قطعه لحم راقده في الفراش بلا ايه استجابه من اي نوع.. انه حي فقط...

هنا يصل الفيلم لذروه الدراما عندما يتخذ الهندي قراره سريعا... هو يعرف فعلا ما يريده مكمورفي.. مكمورفي الذي علّمهم الحياه والتحدي لن يقبل ان يمضي حياته كنبات. يرفع الوساده ويكتم بها انفاسه.. انه يقتله لكنه في الحقيقه يحرره...

تتصاعد موسيقي جاك نيتشه الرهيبه التي تذكّرك بدقات الطبول الهنديه، اذ يسرع الزعيم الي مضخه الماء.. المضخه التي لم يستطع مكمورفي ان يزحزحها من قبل. ينتزعها من مكانها ويحملها ويهوي بها علي النافذه فتتحطم.. يثب منها..