«حكمة الجمهور» .. ماذا تعرف عن ذكاء الجموع؟ - ساسة بوست

منذ 14 دقيقه، 25 سبتمبر,2015

في احدي وثائقيات ناشيونال جيوغرافي، حول الذكاء والمنطق، يظهر المنشط الوثائقي وهو يقدم قاروره زجاجيه مملوءه بسكاكر الحلوي الصغيره، وطلب من مجموعه امامه عدد افرادها 20 فردا متنوعي الجنس والعمر، تخمين عدد السكاكر الموجوده في العلبه الزجاجيه، تعددت التخمينات التي قدمها المتطوعون، فكان اقلها 300 واقصاها 4000.

بعدها قدم منشط الوثائقي طفلا صغيرا لديه آله حاسبه، وقال انه سيقول لنا الجواب الصحيح، قام الصبي بجمع الاعداد التي خمنها المتطوعون والمسجله في السبوره وقام بقسمتها علي عدد المخمنين وهو 20 ليحصل علي متوسط التخمينات، كانت النتيجه مذهله، حيث الفرق بينها وبين الرقم الحقيقي لاعداد السكاكر الموجوده في القاروره هو 22 نقطه فقط، وهو العدد الذي كانت كل تخمينات المتطوعين ابعد ما يكون عنه.

بالفعل اظهرت هذه التجربه الفريده للمتتبعين نوعا اخر من الذكاء لا يقل اهميه عن الذكاء التقليدي الفردي الذي نعرفه، انه الذكاء الجمعي، ويطلق عليه ايضا تسميات اخري مثل حكمه الجمهور، الذكاء التكافلي، والاتحاد العقلي.

فماذا نقصد اذن بالذكاء الجمعي؟

تعود اصول المفهوم الي سنه 1911، حيث تم العثور علي ملاحظات لعالم الحشرات وليام مورتون ويلر استقاها من دراسته عن النمل، يقول فيها “يبدو ان الافراد المستقلين يمكنهم التعاون بشكل وثيق بحيث يصبح من غير الممكن تمييزه عن كائن واحد”.

وفي عام 1912 ذكر احد مؤسسي علم الاجتماع اميل دوركهايم، وهو يشرح في كتابه “قواعد المنهج” طبيعه هذا التخصص المولود انذاك، بان المجتمع يولد فكرا منطقيا مستقلا تماما عن الافراد ورغباتهم، وان منطق المجتمع هو ذكاء اعلي لانه يتجاوز الفرد في الزمان والمكان، لكنه لم يوضح الطريقه التي يتم بها ذلك.

حتي تكون لدينا صوره اوضح عن الذكاء الجمعي، علينا ان نلقي نظره في علم البيولوجيا الذي في اطاره نشا هذا المفهوم اول الامر.

يعمل ايان كوزين منذ مده علي دراسه العقل الجماعي لدي الحيوانات، ومن اجل ذلك يتتبع اسراب الطيور، ووجد ان كل طائر من السرب تحكمه مسافه معينه عن اشقائه في فصيلته، ويطير بسرعه معينه، وكل ذلك من اجل تسهيل حركه طيران السرب امام الرياح. الامر الذي لم يكن لطائر واحد القدره علي فعله.

وفي دراسه اخري للباحث اولاف هانديجارد، قام بالتصوير بالسونار لاكتشاف ما يحدث في المياه المعتمه بمصبَّات الانهار في ولايه لويزيانا، عندما تتعرَّض اسراب سمك مِنهيدن الخليجي الي هجمات السلمون البحري المرقط، لاحظ كيف ان سرب سمك منهيدن يتحرك بسرعه خاطفه وفي وقت واحد لتجنب الافتراس من قبل سمك السلمون؛ اذ تستجيب كل سمكه لحركات جيرانها الاقرب منها، مما يخلق «موجه من الانعطاف» تنتقل بسرعه تبلغ ١٥ ضعفًا لسرعه سباحه السمكه الواحده، واسرع كذلك من السمكه المفترسه. وبالتالي فان اكثر مكان امن لسمكه المنهيدن هو السرب الكامل غير المتفرق؛ لان المعلومات حول وجود سمكه مفترسه تصلها اسرع عند وجودها في سرب كبير، فكلما زادت الاعين التي تحدِّد مكمنَ الخطر، وزادت حركات افراد السرب المجاوره، صار تدفُّق المعلومات افضل.

لكن اذا كان الذكاء الجمعي لدي الحيوانات قد تشكل نتيجه “وعي تطوري”، فان هذا لا يعني ان كل التجمعات البشريه لديها عقل جمعي بالفطره، اذ يقتضي تفعيله شروطا وظروفا معينه، بل ان هذا النوع من الذكاء لم يعرفه البشر بصوره اوضح الا مع التكنولوجيا الجديده وشبكه الانترنت، حيث اصبح تواصل ملايين البشر مع بعضهم البعض ممكنا وبطريقه فوريه، ما يسهل ظهور ذكاء جمعي لدي البشر ولو بمستويات اوليه.

انطلاقا من كل ما ورد، نستطيع ان نقول بان الذكاء الجماعي لدي البشر، هو ذكاء ينبثق عن تفاعل انماط تفكير افراد مجموعه بشريه حول موضوع واحد، بحيث يتم هذا التفاعل بطريقه “لا اراديه” في ظروف معينه. يتفرد بخاصيتين مهمتين وهما: عنصر الافقيه حيث لا يوجد قائد او موجه للوصول الي نتيجه معينه، وكل ما في الامر ان الجمهور يحدد كل شيء، والتفاعليه، حين تتلاقح معلومات الافراد وانماط تفكيرهم لينجم عنه في الاخير تفكير جمعي يتجاوز قدرات الافراد.

امثله للذكاء التشاركي في حياتنا المعاصره

لم يكن يخطر ببال سانجر قبل اربعه عشر سنه، ان موسوعته الحره ستصبح بهذه الشهره، وستضم ملايين المقالات، في البدايه بدا سانجر مع صديقه بن كوفيتز في انجاز مشروع كجزء من المساهمه في الموسوعه البريطانيه “النوبيديا”، كان يعتمد في تحرير الموضوعات علي الاساتذه الجامعيين والفلاسفه ومؤلفي الموسوعات، وبعد مده كان يبدو الامر مثيرا للياس، حيث ان المساهمات لم تتجاوز بضع عشرات كما ان الاقبال علي قراءه مواده كان شحيحا للغايه.

قرر سانجر استثمار برنامج “الويكي” الذي كان حديثا حينها، ابتكره احد المبرمجين وطرحه كخدمه مفتوحه المصدر، ادخل سانجر برنامج الويكي، الذي يتيح مشاركه الماده الواحده والتعديل فيها وتحريرها، مستغنيا بذلك عن النخبه التي كانت تنتج المحتوي لصالح الجمهور، بعد فتره قصيره اصبحت المساهمات تتهاطل علي موسوعته بغزاره منقطعه النظير يوما بعد يوم، حتي اصبحت ويكيبيديا حاليا احد اكثر المنصات الالكترونيه اقبالا وشهره، نتيجه مجهود الجمهور فقط.

اما جيك وصديقه جيكوب فقد بدا لهما ان اطلاق مسابقه لتصميم شيرتات علي الانترنت امر مسلٍّ للغايه، لكن طبعا لم يكن يخطر ببالهما اكثر من ذلك.

انشا الشابان موقع ثريدلس، وكانت الخطه تتمثل في ان يقدم الناس تصميمات لشيرتات جديده، ثم بعدها يصوت المستخدمون علي افضل تي شيرت، والفائز يحصل علي شيرتات مجانيه تحمل تصميمه، وبدا ان الفكره راقت الناس، فواصل جيك وجيكوب مسابقه تلو الاخري، ليصبح الموقع يستقطب الزوار والموهوبين يوما بعد يوم، حتي ظهر لهما انه ينبغي انشاء شركه، وفعلا اسسا شركه ثريدلس لبيع شيرتات بتصاميم يختارها الجمهور بنفسه، دون استجلاب مصممين، اصبحت ارباح الشركه تتصاعد بوتيره سريعه، حتي اصبحت الان احدي اعظم شركات الالبسه التي تنافس بقوه الشركات التقليديه التي توظف رسامين باعداد هائله وكفاءات عاليه.

هذا الامر يؤكد ان عقليه السرب يمكن ان يكون لها نتائج غير متوقعه في حاله استثمارها بشكل جيد، اذ بامكان خطوات بسيطه يقوم بها افراد السرب ان تؤدي في النهايه الي عمل معقد وبالغ الجوده، ولعل البرامج المفتوحه المصدر اوضح مثال.

ان قدره السرب المجمَّعه علي معالجه المعلومات تفوق حاصل قدرات افراده، ما يمكن من اتخاذ قرارات اكثر صوابا، اذ عاده ما نميل الي ان الحشود المتحركه عديمه الذكاء، تختلف عن المجموعات المفكِّره التي يكوِّنها البشر، لكن البشر في كثير من الاحيان يتصرفون مثل السرب، لا سيما اثناء عمليه اتخاذ القرار الجماعي.

علي سبيل المثال خلال الحملات الانتخابيه، قد يظن البعض ان نخبه معينه قادره علي توجيه الجموع للتصويت لصالح جهه سياسيه دون اخري، الا ان ايان كوزين وفريقه في جامعه برينستون يزعمون ان ذلك امر مستبعَد؛ اذ اظهرت النماذج التي وضعوها لحشود الناخبين ان تاثير القله، ايًّا كانت قوته، يصيبه الضعف، وهذا يعني ايضا حسب كوزين ان عقليه السرب قد تتخذ قرارات كارثيه، اذا ما تضمن جمهورُ الناخبين عددًا كافيًا من الناخبين السُّذَّج والمقلدين، قائلا “يلعب الجهل دورًا محوريًّا في طريقه عمل الديموقراطيه”.

تطبيقات الذكاء الجمعي الواعده في حياه الانسان

يسعي العلماء جاهدين لاكتشاف القواعد النظريه التي تحكم الذكاء الجمعي لدي الحيوانات والبكتيريا والحشرات، طمعا في استثمارها في الحياه البشريه للوصول الي ذكاء يتجاوز الافراد.

الذكاء الإصطناعي هو حلبه جد ملائمه لتجريب انظمه التفكير الجمعي، حيث يتم ربط اجهزه استشعار متعدده المهام لتوليد نوع من التفكير الحاسوبي اعتمادا علي المعلومات المتكامله، ويمكن ايضا صناعه اسراب من الربوتات تتصرف اعتمادا علي تضافر عملياتها الاستشعاريه والحسابيه.

من ناحيه اخري، ثمه العديد من التطبيقات المحتمله لتلك النتائج في مجال الطب ايضًا، ففي الواقع ربما يتضح ان الانظمه التي تبدو معقَّدَه هي في حقيقتها تُظهِر سلوكًا بسيطًا يُشبِه سلوك السرب؛ مما يجعل فهمها ومعالجتها مهمهً اسهل. فمثلا يمكن برمجه الخلايا المسؤوله عن التئام الجروح بطريقه ما لتسريع عمليه الالتئام.