المحتوى الرئيسى

وليد فكري يكتب: دم المماليك (5).. هل قتل الظاهر بيبرس نفسه؟!

09/24 10:23

طريق حلب – دمشق.. منتصف عام 1277م

القافله السلطانيه الصامته تشتد في سيرها نحو دمشق -العاصمه الشاميه للسلطنه المملوكيه- حامله النذير المريع: السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري يحتضر.

تتعدد الاسباب والاحتضار واحد، لكن من كان يتخيل ان سلطان البرين وسيد البحرين وخادم الحرمين الشريفين، قاهر المغول وكاسر الفرنجه وعزيز مصر والشام وجزيرة العرب وارض الاناضول، يفتك به مرض تافه كالاسهال؟

لم تنل منه جحافل المغول قبل وبعد عين جالوت، ولا كتائب فرسان الفرنجه بكونتاتها ومقدمي اسبتاريتها وداويتها، ولا مؤامرات المخامرين والمنشقين من امراء المماليك، ونالت منه طفيليات البطن وادواء الامعاء!

كان اسما علي مسمي، فـ “بيبرس” تعني الفهد، وكان مثله سريعا قويا مثابرا صلبا.

يذكر بعض امرائه، انهم كانوا في بعض المعارك الضاريه يفتقدونه فجاه، ثم يجدونه عائدا يشق الافق كمارد اسطوري فوق صهوه جواده وهو يحمل خوذه او درعا كانا لبعض فرسان العدو، بل وربما قطعه من باب الحصن الذي يحاصرونه.. كيف ومتي غافلهم واختفي ليخترق جحافل الاعداء ويعود سالما؟ لا احد يدري.

يحكي اخرون انه كان في وقت صفائه يتسلي بان ينزل من قلعه الجبل ليسبح في النيل مرتديا كامل عدته ودروعه الحربيه جارا وراءه طوفا تقف فوقه بضعه من الفرسان بكامل زيها.

عودّهم ان يكونوا مثله فهودا سريعه خفيفه الكر والفر، يظهر جيشه امام حصون الفرنجه بالشام،  ينهي الحصار بفتح او هدنه مشروطه لصالح الجيش المصري، يختفي ليباغت بعض المتامرين بسوريا، يسّيّر اسطولا الي قبرص، يسحق تمردا بالنوبه، يدمر خطه للمغول وينهيها بضمه الاناضول، يطوف ببلدان الشام لينظم احولها،  يزور الاراضي الحجازيه المقدسه، يدير الحكم من قلعه الجبل بالقاهره، يفاجيء العمال في انشاءات علي ضفاف النيل خالعا ثيابه الملكيه مشاركا البنائين حمل التراب والحجاره فوق اكتاف حديديه لوحتها الشمس، ينظم حركه البريد بين اطراف المملكه حتي تصل الرساله من القاهره لدمشق في ايام ثلاثه لا غير.. يقسم مهام الحكم لمؤسسات ومناصب لكل منها وظيفته وفقا لقانون صارم.. ينظم السلطة القضائية، فيجعل لكل مذهب قاضيه تيسيرا علي الناس.. يعيد احياء الازهر كمؤسسه علميه فالسلطان معروف بعدائه الشديد للجهل، حتي الخواطي والبغايا ينالهن نصيب من نشاطه، فيقبض عليهن ويترب لهن الوعظ الرفيق والاستتابه، ثم يجهزهن ويزوجهن ليكفيهن الاضطرار لتجاره الجسد.

لا احد يعرف متي وكيف ينام.. ما هي تلك الروح الخارقه التي تتلبسه لتجعل منه كتله من الهمه والحماسه تتاجج بالنشاط والحركه؟!

هل حلت فيه بعض ارواح اجداده من مقاتلي قبائل القفجاق التركيه؟ هل هي بركه من قربهم اليه من اقطاب الصوفيه ودراويشها؟ هل اصابته بخير بعض دعوات المجهولين لمن حملوا السيف يدافعون عن دماء واعراض الناس ضد المغول والفرنجه؟

يقال ان البعض ينال نصيبا من اسمه، لكن هذا الرجل اسمه بيبرس -الفهد-هو الذي نال النصيب من صاحبه!

والان، يرقد هذا الفهد، المارد، السلطان القدير، فوق محفه تسابق الموت الي دمشق كي لا يختطفه قابض الارواح قبل تنظيم الانتقال الهاديء للسلطه الي ابنه ووريثه الشرعي محمد بركه خان، والذي اشركه ابوه قبل سنوات في الحكم ليضمن له ولايه عهده.

تقترب دمشق.. يتنفس الامراء الصعداء، يلهبون ظهور مطاياهم لتنهب بهم الكيلومترات الباقيه، لكن علي مسيره يوم واحد من المدينه يدلف زائر الي خيمه السلطان، زائر لا ياتي الانسان الا مره واحده ليحمل روحه الي بارئها، ويترك جسده لغيره من البشر الفانون ليحملوه الي حفره وسط التراب.

في الخيمه السلطانيه الي جوار الجثمان العظيم اجتمعوا، الامراء سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيليك وعلم الدين سنجر وشمس الدين سنقر وغيرهم.. اتفقوا بغير جدل يذكر ان يخفوا الخبر حتي عن جند القافله وان يرسلوا لولي العهد بالخبر الاليم ليقطعوا علي اي متامر طامع الفرصه لاستغلال موت السلطان ليبادر بايه محاولات انقلابيه.. انقضي النقاش فتدثروا بالصمت الي من همهمه جانبيه او استرجاع خافت او تنهيده حزن مره.

قطع الامير قلاوون الصمت مغمغما: ما كان للاطباء ان يطيعوه في نزع راس ذلك السهم الذي اصابه في تلك المعركه الاخيره.

اعتدل سنقر متسائلا: “تشك بالاطباء؟ اعني.. هل تراودك افكار ان بعضهم سمم الجرح عمدا؟!”

– “لم افكر في ذلك.. لكن.. ان تعلم ان رحمه الله لم يكن يكترث لاوامر الراحه،  ونحن كنا في ارض تكثر بها الاسقام، ونزع نصل من الجسد في هذه الاجواء ليس بالقرار الحكيم.. فربما كان هذا ما ادخل الي جسده الافه وجعل به التلف السريع”

تدخل بيليك بالتركيه القفجاقيه التي كان يدور بها الحوار: “المرحوم لاقي ما هو اشد من ذلك، وقد حباه الله جسدا قوي التحمل.. والواقع اني اري غير ذلك من الاسباب” رمق سنقر مردفا بحذر “لكني اخشي ان يسيء بعضكم فهمي”

داعب سنقر شاربه الاشقر الكث وقد التقط الغمزه بحلم وهدوء ثم قال: “انت تتحدث عن الدواء الذي نصحته باستخدامه في وعكته الاخيره.. لا باس، قلها بصراحه، هل تشك  انني نصحته به لاعجل بهلاكه؟”

انتفض بيليك قائلا بلهجه اعتذاريه سريعه “حاشاي امير سنقر! ها انت قد اسات فهم غرضي! انا فقط اقصد ان اقول ان المرحوم قد افرط في استخدام هذا الدواء فوق ما يحتمل اي انسان، فقوي عليه الاسهال حتي استصفي ما في جسده من سوائل.. انت نفسك نصحته بحضره الامراء الا يفرط في تناوله، لكنك تعلم كيف كان عناده! هذا ما كنت اعنيه!”

حاول علم الدين سنجر تخفيف حده التوتر الذي انتاب الحوار، فتدخل قائلا: “يا امراء، لا داعي لتبادل ظنون السوء.. كلنا كنا خاصه ورفاق وخدم السلطان الراحل، والان بقيت له في عنقنا خدمه اخيره -اعني انتقال السلطنه لابنه اعزه الله- فليس من مجال لهذه الاحاديث”

امن قلاوون علي قوله بتربيه من يديه، علي كتفي كل من سنقر وبيليك.. قام من مقعده وسار نحو الفراش المسجاه فوقه جثه رفيق عمره.. قاوم عاصفه من الالم انتابته وقمعها عن ان تبدو فوق وجهه الصخري.. بعد فتره من الصمت قال بهدوء حذر: “الواقع انني افهمكم جميعا.. انتم تدورون حول ظن يكبته كل منكم في نفسه خوفا من سوء العاقبه!”

– “اي ظن؟!” تمتم بها سنجر وقد مس قول قلاوون منطقه حساسه في داخله.

التفت لهم قلاوون قائلا بصلابته المعهوده: “اعني ظنكم ان السلطان في حقيقه الامر.. قد قتل نفسه!”

دمشق.. قبل ذلك اليوم باسبوعين.

ان يامر السلطان ساقيه ان يقدم لك كاسا من شراب القمز -لبن الخيل المتخمر- المفضل عند المماليك، فهذا شرف عظيم.. فما بالك بان يقدم لك السلطان بنفسن الشراب في الكأس السلطانيه؟

تناول الامير القاهر الايوبي الكاس من يد السلطان، وقد اطمئن ان حركه كهذه، لا تعني الا ان هذا الاخير قد رضي عنه بعد سخطه السابق من اشتداد الامير في اللوم عليه لمخاطرته برجاله في مغامرته الحربيه الاخيره ببلاد الاناضول.

تبادل الامراء النظرات وقد علت وجوههم علامات الارتياح لصفاء نفسا الرجلان بعد احتداد واحتداد متبادل وتوتر الاجواء.. فاخر ما قد يرغب فيه احد هو مشاحنه حاده بين رجلين تلهج الشام ببطولتيهما خلال تلك الحرب الاخيره ضد الموالين للمغول في بلاد الاناضول.. فقط  تداول الامراء بعض نظرات الاندهاش من افراط السلطان في شرب القمز، فرغم اعتداده بقوه تحمله وصلابه بنيته، الا انه لم يكن من المفرطين في ملذات الجسد من طعام وشراب.

استرخي قلاوون في مقعده وهو يتامل رفيقه السابق وسلطانه الحالي بيبرس.. استرجع في ذهنه سريعا رحله كفاحهما الطويله والمريره منذ هربهما من مصر  بعد اغتيال اقطاي، ثم تنقلهما ورفاقهما بين ملوك بني ايوب بالشام، فعودتهم جميعا لمصر وتصالحهم مع قطز توحيدا للصف ضد المغول، ثم تصفيتهم الحساب الاخير مع قطز لتنتهي رحله بيبرس بتربعه علي كرسي السلطنه وتوليته رفاقه المناصب الكبري بالدوله.. ارتسمت علي وجه قلاوون ابتسامه هادئه وهو يتامل شعيرات بيضاء بدت في لحيه بيبرس.

اخرجته من تاملاته رجفه متوتره انتابت الجانب الايسر من فم السلطان.. لمحه ينظر في كاسه، ثم يرمق بطرف عينه ضيفه الامير القاهر.. يعيد البصر للكاس.. ثمه شيء ما ليس علي ما يرام.. السلطان تبدو علي وجهه علامات التوعك.. يقوم قلاوون من مقعده متظاهرا بالهدوء متجها لبيبرس.. يضع يده علي كتفه -وحده من يستطيع التصرف معه بتلك الاريحيه- يقبض بيبرس ذراع رفيقه، يجذبه هامسا في اذنه بلغتهما القديمه المشتركه” سافض المجلس، ساعدني علي الانتقال لغرفتي، لكن دون ان يشعر احد.. وبنفس السريه ارسل لي الطبيب”

انتهي قلاوون من سرد روايته علي رفاقه.. عاد ليجلس بينهم وهم يقلبونها في رؤوسهم.. اخيرا قال سنقر “امير قلاوون.. كلنا نعرف تلك الواقعه.. وكلنا بلغتنا اقاويل ان السلطان قد احتال للتخلص من الامير القاهر بوضع السم له في كاس شرابه، ثم تبدلت الكئوس بطريق الخطا.. وشعر السلطان بذلك عندما احس السم يسري في احشائه، لكنه كتم الامر كيلا تنكشف خطته.. لكن الا تري معي ان القصه بها ما يجعلها غير مبلوعه؟”

اشار قلاوون بيده: “دعني قبل اي شيء اقول انني لا اصدق تلك القصه.. ولنفس الاسباب التي اتوقع ان تذكرها..”

تدخل علم الدين سنجر: “السلطان لم يكن ليقدم علي قتل شخص بهذه الطريقه المعقده -والساذجه في نفس الوقت- لمجرد مشاحنه كلاميه”

امّن قلاوون علي قوله “هذه واحده”.

اضاف سنقر: “كما ان المرحوم قد توفاه الله بعد اسبوعين من الواقعه، فهل يحتاج السم لكل هذا الوقت؟”

– “وهذه الثانيه” قال قلاوون: “كما ان ما قيل عن ان السلطان قد اصابته الغيره من حديث اهل دمشق عن بطوله الامير القاهر وثنائهم عليه هو السخف بعينه”

سال بيليك: “ماذا عن ما تداولته بعض الهمسات من ان منجما اخبر السلطان انه يري في النجوم ان عظيما يموت في هذه الايام، فاراد ابعاد الشؤم عنه، فتعمد قتل الامير القاهر، ليوقع سهم النبوءه في نحر غيره؟”

واجهته نظرات الاستسخاف من الامراء فقنع بها اجابه لسؤاله.

عادوا لصمتهم الاول.. قطعته صيحات من بعض الحرس، فازاح بيليك ستار الخيمه ثم قال: “الامير بكتوت قد وصل”.

قام سنقر وسنجر وقال الاول: “فلنلاقيه ونعطيه الرساله ليبلغها الامير.. اعني السلطان بركه خان ليرتب البيعه والتقليد لنفسه قبل ان يذاع خبر موت ابيه علي الملا”

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل