المحتوى الرئيسى

مصطفى جمال يكتب: عن تلك الأشياء الصغيرة التي لا نشعر بأهميتها | ساسة بوست

09/22 19:33

منذ 1 دقيقة، 22 سبتمبر,2015

الساعة الثامنة مساءً تدق وأبي يتعرض لحادثة مروعة على الطريق، تنقلب الحافلة الناقلة له مرات قبل أن تسقط بعد اصطدام مروع بأخرى هائمة، يخرج والدي بأعجوبة من كل ذلك العبث والجنون إلا من تقطيع لملابسه إربًا، لكنه بعد قليل سيكتشف أن وجعًا متينًا يداهمه في ساقيه بقسوة، يباغتنا الطبيب بأن المفصل والساق قد تعرضتا لتأثر كبير يستلزم علاجًا مطولًا وتعاملًا بحذر شديد مع كل حركة.

يلحظ الطبيب علامة الصلاة في وجهة فيُشدد على عدم الركوع والسجود.

يمر العلاج بعد فترة وتمر التعليمات نحو الفراغ ويبقى الألم عند كل سجدة وركعة، يحاول مرة مُشتاقًا للسجود – اللقاء عن قرب – فيسقط متألمًا على سجادته، بمرور الأيام تضيع علامة الصلاة من الوجه رويدًا رويدًا وتتجذر في القلب بالمسافة ذاتها.

وجدته حزينًا ذات يوم، داهمته في حُب:

– يا والدي ربنا رفع عليك المشقة بالصلاة واقفًا، معلش لا تحزن. – أنت عارف يا مصطفى أنا مشكلتي الوحيدة إني مشتاق أد إيه لسجدة على الأرض، نفسي لكن مش قادر.

تتثعثر الكلمة الأخيرة من فمه مختلطة بالبكاء، احتضنته بقسوة أب على ابنه لا العكس، وبكينا.

على الإنترنت يلفت نظري صديقًا يرثي بكلماته حال أصدقائه غير المُمتلكين لتكييف هواء يُبرد عليهم صيفهم الحارق، يكمل تعليقه شافقًا على الفقراء بأن التكييف لا غنى عنه اليوم مهما كانت الأسباب.

عندما قرأت كلامه ابتسمت ببلاهة متذكرًا الغرفة التي شاهدت فيها أسرة مكونة من ثمانية أفراد كاملين متممين يصطفون بأعجوبة في غرفة لا تتجاوز أضلاعها الأمتار الخمسين، عندما وضعني القدر لمجالستهم جذبني منهم بساطتهم وروحهم التقية.

لم يكن هُنالك مكان للجلوس فجلسنا على السرير الوحيد فلا وجود للأريكة الوثيرة أو الصالون الفخم الذي يستقبل الضيوف قبل وجبات الضيافة الفخمة، هنالك جلست حيثُ لا مرتبة على السرير بالمعنى الفعلي للكلمة حيثُ فقط نجد الجرائد الملفوفة بإحكام في ثوب أبيض بالٍ من انتخابات سابقة.

يلفحنا الهواء الساخن ونحنُ جلوس فنتصبب عرقًا بغزارة لأكتشف أن الغرفة لا تمتلك ولو مجرد مروحة صغيرة تتراقص علينا بهوائها، بعد قليل سيلفت نظرك أن الماء المقدم لنا ساخن جدًا جدًا، لم يكن هناك ثلاجة أيضًا فتتعرض الخضروات النذيرة لديهم للتلف، وسط كل هذا المصير كنت ألمس حالهم  حتى كدت أشفق على حالهم حتى باغتتنى قناعتهم بالقليل يشعرون بالرضا التام العميق قائلين دون سؤال مني:

– “في ناس تانية مش لاقيين الأربع حيطان دول، الحمد لله على كل حال، كُله رُضا، راضيين”.

أخرج من بيتهم الوثير ورأسي لأعلى وأسفل تتحرك وتتحرك.

3- نقطة دم صغيرة حمراء

جارنا الثري، غير المدخن ذو الوزن الرياضي الممشوق يسقط فجأة أمامي!

حدث ذلك كُله في المسجد البعيد جدًا القابع في الصحراء الذي اختاره جاري الآخر – ولحكمة لا يعلمها سوى الله – لعقد قران ابنه الوحيد، يُسلم علينا بحرارة وود ويجلس أمامنا ضاحك الوجنتين؛ لكنه لن ينتظر كثيرًا حتى يسقط أمامي غارقًا في غيبوبته الصامتة القاسية في لحظة كتابة العقد كتفًا بكتف، أي مفارقة هذه!

يتحول المسجد لهرج ومرج وتنقلب الحياة على عقبيها داخله بين باحث عن طبيب في كل تلك الصحراء الجارفة وبين طالب لإسعاف ينقذه، يفشل الجميع في الاثنين فينقلانه بأنفسهم مسرعين نحو أقرب مستشفى وفي هذه الصحراء البعيدة يبدو أنها قد طالت كثيرًا، كثيرًا جدًا أكثر مما يجب.

بعد قليل سنعرف أنه قد أصيب بجلطة دماغية صلدة، جاءته بسبب تجمع دموي بسيط على المخ أشبه بنقطة دماء صغيرة واحدة لكنها قاتلة ومدمرة لو في غير موضعها؛ حيثُ يعمل الجسد بنظام وتفانٍ على انضباط حركاتها وإيقاعها لكنه ولسوء حظه قد شذت عن انضباطها ووقعت على مراكز الحركة والنطق فأصبح بين دقيقة وضحاها مشلولًا خارصًا!

قبل أن أدخل المسجد ستلفت نظري سيارته الزرقاء الجديدة التي ربما استعملها لأول مرة لقطع كل تلك المسافة في الصحراء نحو المسجد من أجل مُلاقاة قدره والتي قُدر له أنه سيعود منها على ناقلة تحمله وتتحول السيارة ذات الاستخدام الواحد إلى سراب ولا شيء غيره.

يقابلني بعد أيام من يسألني عن حاله وعندما يعلم بحالته الحرجة يرد عليٌ بجملة مُقبضة:

“ربنا يخلصه ويريحه”، يقصد هذا الذي كان منذ قليل يتحرك بجد ونشاط!

أستيقظ على مرض غريب يضرب جسدي، شعور بالإرهاق الشديد، والتهاب كبير يضرب لساني بقسوة شديدة ورغم ذلك يبدو لساني عند النظر إليه عاديًا جدًا جدًا وبلونه الطبيعي لكن من الداخل يمكن لنا رؤية أن الألم الداخلي لا يُطاق، سأكتشف لاحقًا أن مراكز التذوق والحلمات داخل لساني قد تأثرت بشدة لسبب لا أعرفه وهي التي تسبب لي كل هذا الألم والوجع، لا علاج سوى الوقت.

لكن كيف تمضي الأيام تلك يا تُرى وسط هذا الألم؟

يتحول الطعام برمته إلى لا شيء بشكل فعلي، الفول كاللحم واللبن كالماء والخضروات كالمطاط أجزها جزًا تحت أسناني دون طعم أو لون.

الجزء الأسوأ يأتي عند أية نقطة ملح ولو واحدة فقط تلك التي كافية بأن تجعل فمي كتلة مشتعلة من اللهب، أما إذا ما قررت تنظيف الأسنان المتسخة فأمامك جحيم آخر من العذاب بانتظارك بعد تغلغل المادة المنظفة الحامية في المعجون داخل الحلمات ذاتها الملتهبة من الأساس.

تمضي الأيام في قسوة مريرة لكنها تركت في قلبي لمحة.

سمعت ذات يوم أن الإنسان مخلوق ضعيف جدًا جدًا، لكنني لم أكن أتوقع أن يكون بهذا الضعف.

تجذبني على الإنترنت حملة في الخفاء لجمع تبرعات لفتاة يتيمة كانت قد تم زفافها بسرير وحيد وحصيرة وبوتجاز قديم ولم يمهلهم المال القليل من شراء المتبقي من العُش الذي لم يكتمل.

تكتب إحدى المتطوعات التي قابلت الفتاة اليتيمة بالصدفة أثناء توزيعها التبرعات على قريتها الفقيرة قصتها على الإنترنت من أجل أن تجمع تبرعات عينية من أجل شراء “دولاب” واحد فقط لا غير! تنقل المتطوعة عن الفتاة وهي تحكى لها مأساتها:

“بقولك يا آنسة معندكيش دولاب قديم حالته حلوة؟ نفسي في دولاب، الهدوم اللي على قدنا مش ببقى عارفة أوديها فين ولا أحطها فين، أنا مالية كراتين فوق بعض باللبس والكراتين بتترب، أصعب حاجة إن الهدوم بتتوسخ ربنا يفتح علينا”.

لم تكن تدري أن كلامها سينشر على الإنترنت بعد قليل ضمن حملة لجمع دولاب يجمع شتاتها ويشرح قلبها المنغص بالكدر.

بعد أيام تم جمع جهاز كامل لها ليس فقط دولابًا بل كل ما قد تتخيله عروس لعُشها.

عندما قرأت كلامها حول الدولاب نظرت إلى دولابي الكبير جدًا من خلفي وبكيت.

في حديث ودّي عابر يفتح جامع قمامة قلبه لي، يفاجئني فيه بأكبر اُمنياته ومخاوفه في كل تلك الحياة الواسعة من حولنا؛ يفاجئني عندما يقول لي أن أكبر أمنياته ومخاوفه في آنٍ واحد هو وزملاؤه هو ألا يجدوا في عملهم ضيفًا غير مرغوب يظهر لهم من بين الظلام من أمواس وإبر وزجاج يجرح اليد والجسد البالي!

قد يتحملون الثعابين والقوارض المخيفة، قد يتحملون الروائح الصعبة لكنهم لا يستطيعون تحمل تلك الصواعق الثلاثة الحادة المدببة المخترقة للجسد المُنهك.

ينتهي كلامه قبل أن يشير لإصبعه ذي الغُرز الكثيفة القديمة قائلًا:

“هِنا الموس فتح إيدي، وإيدي شلبت دم، إيدي اتفتحت فتحة كبيرة والموس دخل جوة كله”، “ومن ساعتها وأنا اكتشفت إني جالي فيروس سي!”.

نعم! اُصاب بالصدمة المدوية ويتلعثم الكلام في فمي، ويتوقف الرجل عن الكلام ناظرًا للسماء ويشرد، وأشرد معه.

يصل إلى مسامعي حوار بين عامل طلاء والصبي الصغير الذي يعمل معه:

– “تجيب علبتين كُشري واوعى تنسى تجيب رغيف معاهم عشان نعرف نِشبع”.

ويذهب الفتى ويغدو عائدًا خالي الوفاض من الرغيف اليتيم بعد أن تجاهل طلبه الزائد بائع الكشري حيث كل شيء وأء شيء يقاس بالمقابل المادي البحت.

يثور العامل على خادمه على تفريطه في الرغيف الذي كان سينتصفه معه ثم يحشو كُل منهم الكشري داخله على أمل سد أكبر للجوع النهم الذي ينتهكهم، بعد قليل سيعود العامل هادئًا مُتأسفًا لخادمه على حدته وإن كان ظل حزينًا على الرغيف الضائع.

عند نظراته النهمة الحزينة تذكرت جاري الذي يلقي الخبز في قمامته، إنه تناقض يليق بالحيرة؛ كيف أصبحت الحياة بهذه القسوة؟

يحكي الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي حكاية غريبة حدثت له ذات صباح باكر عندما رن منزله على وقع صياد يحمل شبكته المليئة بالسمك فلما عرضها عليه ليأخذها جزاه أضعاف ما طلب؛ فلما هم بالانصراف دعا له الصياد قائلًا:

“أحسن الله إليك كما أحسنت إلي، وجعلك سعيدًا في نفسك، كما جعلك سعيدًا في مالك!”.

فسر كثيرًا للدعوة وعجب أن يهتدي صياد كهل عامي إلى معرفة تلك الحقيقة النادرة التي لا يعرفها سوى القليل من الخاصة، بل خاصة الخاصة.

وهي أن للسعادة النفسية شأن غير سعادة المال، ثم آثر الأديب الكبير استدراجه لإعطائه أكبر قدر من الحكمة التي تنبت من بين يديه فقال له الصياد:

لو كانت السعادة يا بُني سعادة المال لكنت أشقى الناس لأنني أفقر الناس لكنني قانع برزقي فرح بعيشي، لا أحزن على فائت من العيش ولا تذهب نفسي حسرة وراء المطامع، فمن أي باب يصل الشقاء إلى قلبي وإن كانت السعادة لذة النفس وراحتها وكان الشقاء ألمها وعناءها، فأنا سعيد!

لأني لا أجد في رثاثة ملبسي ولا في خشونة عيشي ما يولد لي ألمًا، أو يسبب لي همًا.

فقال له مستعجبًا: ألا يحزنك النظر إلى الأغنياء في أثاثهم ورياشهم، وقصورهم ومراكبهم، ومطعمهم ومشربهم، ألا يحزنك هذا الفرق العظيم بين حالتك وحالتهم؟

فرد عليه قائلًا: إنما يصغر جميع هذه المناظر في عيني ويهونها عندي أني لا أجد أصحابها قد نالوا من السعادة بوجودها أكثر مما نلته بفقدانها.

هذه المطاعم التي تذكرها إن كان الغرض منها الامتلاء فأنا لا أذكر أني بت ليلة في حياتي جائعًا، وإن كان الغرض منها قضاء شهوة النفس فأنا لا آكل إلا إذا جعت، فأجد لكل ما يدخل جوفي لذة لا أحسب أن في شهوات الطعام ما يفضلها، أما القصور، فإن لدي كوخًا صغيرًا لا أشعر أنه يضيق بي وبزوجتي وولدي وإن كان لا بد من إمتاع النظر بالمناظر الجميلة فحسبي أن أحمل شبكتي على عاتقي كل مطلع فجر وأذهب بها إلى شاطئ النهر، فأرى منظر السماء والماء، والأشعة البيضاء، والمروج الخضراء،

فما أجمل أن أطلع من ناحية الشرق إلى قرص الشمس كأنه وشاح من ذهب حتى ينثر فوق سطح النهر جماله البهي فإذا تجلى هذا المنظر أمام عيني يتخلله سكون الطبيعه وهدوؤها ولا أزال هكذا هائمًا في أحلامي، حتى أشعر بجذبة قوية في يدى فأنتبه فإذا السمك يضطرب، وما اضطرابه إلا أنه فارق الفضاء الذي كان يهيم فيه مُطلق السراح، وبات في المحبس الذي لا يجد فيه مراحًا ولا مضطربًا، فلا أجد له شبيهًا في حالتيه إلا الفقراء والأغنياء،

يمشي الفقير كما يشتهي وينتقل حيث يريد، كأنما هو الطائر الذي لا يقع إلا حيث يطيب له الغناء والتنقير، أما الغني فلا يتحرك ولا يسكن إلا وعليه من الأحداق نطاق، ومن الأرصاد أغلال وأطواق.

فإذا أخذت من السمك كفاف يومي عدت به وبعته في الأسواق، فإذا أدبر النهار عدت إلى منزلي يعانقني ولدي وتبش في وجهي زوجتي، فإذا قضيت بالسعي حق عيالي، وبالصلاة حق ربي، نمت في فراشي نومة هادئة مطمئنة لا أحتاج معها إلى ديباج أو حرير.

يا بُني إن الإنسان سعيد بفطرته، وإنما هو يجلب إلى نفسه الشقاء بشدة طمعه في المال فيتعذر عليه مطمعه فيطول بكاؤه وعناؤه، إن كثيرًا مما يصيب الناس من شقوة إنما يأتي من أنفسهم فالحاسد يتألم كلما وقع نظره على محسود، والحاقد يتألم كلما تذكر أنه عاجز عن الانتقام من عدوه، والطماع يتألم كلما خاب أمله في مطمع، والظالم يتألم كلما سمع ابتهال مظلوم بالدعاء عليه، أو حاقت به عاقبة ظلمه، من أراد السعادة فليطلبها بين جوانب النفس الفاضلة وإلا فهو أشقى العالمين، وإن أحرز ذخائر الأرض وخزائن السماء.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل