المحتوى الرئيسى

خريطة العالم النرجسية

09/22 17:20

ما ان تتفتح اعيننا علي الدنيا، حتي تلصق خريطة العالم في وجهنا لنحفظها غيباً، ونحفظ معها تاريخ البلدان العظيمه بانتداباتها واحتلالاتها. لكن ما نجهله منذ طفولتنا، هو ان خريطه العالم تلك مرسومه وفق قواعد نرجسيه، تعطي المواقع الفضلي لبعض القارات التي تري انفسها ذات شانٍ ارفع من القارات المرميه اسفلها، او تلك المبعده الي اقصي حدود الصوره المستطيله. ولكن من قرّر رسم خريطه العالم كما هي عليه اليوم؟

توجد اليوم اكثر من خريطه واحده موحّده للكره الارضيه، علي عكس ما ظنناه لمدي عقود، لان من رسم الخريطه هو ببساطه الانسان، لا قوه الطبيعه. تدفقت الخرائط علي مدي الاجيال وفق المعتقدات والسياسات والحروب الاقتصاديه والدينيه والعقائديه التي حكمت كل زمنٍ منها. وربما سياتي يوم يعيد فيه نظامٌ سياسي جبّار علي الساحه العالميه رسم الخريطه وفرضها علي العالم، او علي القسم الاضعف منه.

اذا عدنا الي الخرائط العالميه البدائيه كما رسمها الانسان القديم، نقع علي تجسدات غريبه للواقع الذي كانت تمر به الارض او اجزاء منها. مدينه القدس مثلاً، وضعت في وقتٍ مضي في منتصف خريطه العالم بالضبط، نتيجه النفوذ الديني القوي للصليبيين خلال القرون الوسطي، لتكون بذلك المحور الروحي للارض اجمع. “Die gantze Welt in ein Kleberbalt” عنوانٌ لخريطه مثيره للاهتمام وجدت في القرن السادس عشر، تعكس المفاهيم اللاهوتيه في القرون الوسطي، وتضع القدس في قلب العالم، عند تقاطع 3 قارات. الخريطه مستوحاه من ورقه نبته البرسيم، شعار النباله. وبمزج بين الخيال والجغرافيا، تم رسم قارات العالم القديم علي شكل 3 بتلات، وتصوير انكلترا والدول الاسكندنافيه كجزر في المحيط الشمالي، في حين يفصل البحر الاحمر اسيا عن افريقيا، ويملا البحر المتوسط الفراغ بين افريقيا واوروبا.

خريطه اخري تعبّر عن الحقبه التي كانت تحكم فيها الديانه المسيحيه في القرن الثالث عشر، هي خريطه ايبستورف “Ebstorf”، التي تهدف لتعليم التاريخ المسيحي للمؤمنين. الخريطه تلخّص اهم الاحداث الدينيه والروحانيه والاساطير التاريخيه، وتجسّد انسيكلوبيديا بصريه تحصر الجغرافيا والتاريخ في اطارٍ ديني مسيحي. المساحات الجغرافيه مرسومه وفق اهميه الاحداث الدينيه التي شهدتها ارضٌ معينه، في رسمه كرويه تتوسطها القدس بطبيعه الحال. الارض في هذه الخريطه مجسده علي انها جسد المسيح، يعلوها في الشرق راس المسيح، قرب الفردوس. ذراعه تحتضن الارض وشعوبها، حتي “الوحشيه” منها في افريقيا، وفق الاعتقاد السائد انذاك. الشرق الاوسط في النصف، اسيا في الاعلي جهه الشرق، افريقيا نحو اليمين اي الجنوب، واوروبا في الشمال الغربي، اسفل اليسار.

يعدّ محمد الادريسي، عالم الجغرافيا وراسم الخرائط والخبير في علم الحيوان والنبات والمسافر الكبير، صاحب اكثر خرائط الكرة الارضية القديمه تكاملاً، وقد وضعها في القرن الثاني عشر. شهرته في رسم الخرائط انذاك دفعت ملك صقليه لان يطلب منه رسم خريطه للعالم. بعد اعوام من العمل المكثف، انهي الادريسي خريطه للعالم منقوشه علي قرص من الفضه، مقلوبه راساً علي عقب مقارنهً بالخريطه المعتمده حالياً، اي ان الجنوب فيها موجود اعلي الخريطه. يمكن التعرف بسهوله علي البحر المتوسط واوروبا واسيا وافريقيا، مع شبه الجزيره العربيه في الوسط.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف الت الامور الي ان اصبح الشمال يعلو خريطه العالم، وكيف انقلبت المعايير لتصبح القارة الأوروبية والولايات المتحده في القسم الاعلي والاهم منها؟ تلك الوضعيه للخريطه تم اعتمادها ابتداءً من القرن السادس عشر، بفضل الرسمه التي ابتكرها بطليموس Ptolemy. لاسباب اضاعها التاريخ، وضع بطليموس الشمال في الاعلي، ومن هنا انطلقت سياسه الخرائط وكثرت الاقتراحات حول من يحتل وسط الخريطه، شمالها ويمينها. تم التوافق علي وضع الولايات المتحده في مكانه الشرف، في الموقع الاعلي الشمالي من الخريطه، وهو ما جعل افريقيا تتمركز وسط الخريطه، وهذا امرٌ لم يتماشَ مع السياسات في تلك الحقبه، وربما ساهم في تصغير حجمها بنسبه 14 مره عما هي عليه في الواقع. بطريقه عنصريه مقصوده كانت ام لا، القارة الأفريقية انتقلت الي القسم السفلي من الارض بينما تقلّص حجمها نسبهً للقارات الاخري، امرٌ لم يعطه احدٌ اهميه انذاك.

ولكن حديثاً، تم اعاده رسم القاره الافريقيه وحدها، لتتسع لـ13 دوله، كمساحه جغرافيه، منها الولايات المتحده والصين واليابان والهند واوروبا الشرقيه باكملها. افريقيا ينقصها 30 مليون كلم مربع كما هي مرسومه في الخريطه المعتمده، في وقتٍ تم تضخيم اوروبا المتمركزه في الوسط. ذلك القسم اسفل الكره الارضيه، كما هي مرسومه حالياً، قد عاني ولعقودٍ طويله من فقرٍ ومشاكل مروعه، ولربما كان ذلك النقص في العداله متاتياً، بطريقه لا واعيه، من تمركزه في اسفل القارات العظيمه.

في اواخر السبعينات من القرن الماضي، قام الاسترالي ستوارت ماك ارثر Stewart McArthur برسم الخريطه المعتمده اليوم راساً علي عقب، كتحدٍ لمعاييرنا المعتاده وقبولنا بالنظره الاوروبيه والغربيه للارض. تلك الخطوه الجريئه تساهم في التاكيد علي ان الاوروبيين هم وحدهم من قرروا كيفيه حمل الخريطه العالميه، وفق المكانه العظيمه التي اتخذتها مع حلفائها، في ما يسمي المركزيه الاوروبيه Eurocentrism.

منذ حقبه الاستعمار نظر الاوروبي للعالم علي انه مفتوح للاحتلال، وللعالم الثالث، كما قرروا تحديده مع الغرب، علي انه ضعيف ويحتاج لاعاده صياغه حضارته. ذلك التفكير الناتج عن المركزيه الاوروبيه له يدفي اعاده رسم خريطه العالم كما هي معتمده اليوم، اذ ان كل شيء يدور من حولها، وكل قاره يحدد موقعها وفقاً لبعدها عنها. هل تظنون انه عن طريق الخطا، يتم تعليمنا تاريخ وانجازات اوروبا والولايات المتحده بالتفاصيل الممله، في وقتٍ بالكاد تذكر فيه قصص اسيا وافريقيا والهند والصين؟

لكن اليابان المهمشه في الخريطه المعتمده اليوم، لم تستسلم علي سبيل المثال للمعايير العالميه السائده، فاعتمدت بدورها خريطه نرجسيه تتوسط فيها اليابان العالم، في حين تبدو باقي القارات بعيده عنها وكانها تنتمي لكوكبٍ اخر: اميركا علي اليمين، افريقيا علي الشمال، والمحيط الهادي له مكانه عظيمه في الخارطه. هذه هي الحقيقه الوحيده التي يعرفها اليابانيون.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل