المحتوى الرئيسى

مترجم: من قتل أشرف مروان، صهر عبد الناصر الذي لقب بجاسوس القرن العشرين؟ - ساسة بوست

09/21 15:12

منذ 1 دقيقه، 21 سبتمبر,2015

عندما سقط اشرف مروان من شرفه شقته بالعاصمه الانجليزيه لندن ليحتضنه الموت، اصطحب الرجل معه اسراره. فهل كان يعمل لصالح مصر ام اسرائيل؟ وهل تسبب الكشف عن هويته في اغتياله؟

من المؤكد ان اشرف مروان الذي وُصف بانه اعظم جاسوس بالقرن العشرين كان علي قيد الحياه عندما سقط من شرفه شقته الكائنه بالدور الخامس باحدي شوارع العاصمه الانجليزيه لندن، والتي يبلغ سعرها 4,4 مليون جنيه أسترليني. لم يستغرق رجل الاعمال المصري كثيرًا من الوقت حتي تستقبل الارض جسده، وكان ذلك في تمام الواحده وثلاثين دقيقه ظهرًا في السابع والعشرين من يونيو/ حزيران لعام 2007. ووقع ذلك بحديقه الورود الخاصه بالبنايه رقم 24 بشارع (كارلتون هاوس تيرس)، وهو الشارع الذي اقام به في الماضي ثلاثه رؤساء وزراء سابقين لبريطانيا، وهم: وليام غلادستن، ولورد بالمرستن Kوتشارلز غراي، والذي يقع علي بعد امتار من (ميدان بيكاديللي). في نفس الوقت، كانت السماء تضج باصوات الطائرات المروحيه التي تملا جو السماء فوق الموكب المصفح لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، حيث كان بلير في طريقه للتقدم باستقالته. في هذه الاثناء كان المشهد متباينًا، امراه تصرخ، شخص يتصل بالشرطه، المسعفون يصلون متاخرين للغايه، وينغلق الستار علي موت اشرف مروان نتيجه انفجار بالشريان الاورطي.

وتبدو تفاصيل الدقائق الاخيره لحياه مروان اكثر غموضًا، ليس بسبب عدم وجود اي شهود، ففي صباح اليوم الذي توفي فيه، كان اربعه رجال يتقابلون في البنايه رقم 116 بشارع (بال مول)، وهي متاخمه للبنايه التي كان مروان يقطن فيها، حيث مكث الاربعه في غرفه بالطابق الثالث تطل مباشره علي شرفه مروان وتراها بوضوح. وفي التواء غريب للحقائق كان هؤلاء الاربعه، وهم جوزيف ريباشي وعصام شوقي ومايكل باركهرست وجون روبرتس، يعملون بشركه يوبيكيم العامه المحدوده، وهي احدي الشركات المملوكه لاشرف مروان. وكانوا ينتظرون ان ينضم اليهم رئيسهم، لكنه تاخر. وعندما هاتفوه ليعرفوا سبب ذلك، اكد لهم انه سينضم للمجموعه توًّا.

يسترجع ريباشي الذي كان يجلس بالغرفه وعلي يساره النافذه، انه انتبه مشدوهًا من صياح احد زملائه: “انظروا الي ما يفعله الدكتور مروان!”، وادعي اثنان من الشهود الاخرين في وقتها انهم راوا مروان يقفز من الشرفه، حينها تحرك ريباشي ليري ما الذي يجري من خلال النافذه، فراي الدكتور مروان يسقط. ركض شوقي، الذي اصبح بعد ذلك مديرًا لشركه يوبيكيم، الي الاسفل من اجل المساعده، بينما ظل الثلاثه الاخرون في الغرفه في حاله صدمه وحيره من امرهم. بعد لحظه حاول ريباشي ان ينظر من النافذه مره اخري في محاوله جاهده لتحديد البقعه التي سقط عليها اشرف مروان.

وفي بريد الكتروني استقبلته من ريباشي، اخبرني قائلًا: “رايت شخصين لهما ملامح عربيه ينظران من شرفه احدي الشقق”، لكنه لم يعرف هو او زملاؤه ما اذا كان الرجلان يقفان بشرفه الشقه رقم 10، حيث كان يسكن مروان، ام لا.

هل قفز اشرف مروان من شرفه منزله، ام دفعه احدهم؟ وُجدت اثار مضادات الاكتئاب في دم الدكتور مروان في فحص ما بعد الوفاه، كما افاد تقرير طبيبه الخاص انه كان “تحت ضغط كبير خلال الفتره الاخيره”، وانه فقد عشره كيلوجرامات في شهرين. بيد ان عديدًا من الاسباب تستبعد فرضيه انتحاره، ولم يكن هناك اي اشعار لذلك؛ فمروان كان يحضر نفسه للسفر الي الولايات المتحده لمقابله محاميه، كما انه قُبل لعضويه ما يعرف بـ(النادي الاصلاحي) الذي يضم بين اعضائه الامير تشارلز والسيده ستيلا ريمنجتون الرئيسه السابقه لجهاز الاستخبارات البريطاني. وسبق ذلك بثلاثه ايام ابتياعه جهاز (بلاي ستيشن ثري) هديه لعيد ميلاد حفيده. وكان مروان يخطط وزوجته مني عبد الناصر، ابنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لاصطحاب احفادهما الخمسه لقضاء عطله. وكانت لمروان خطط ومواعيد واسباب للحياه. ففي التحقيق الذي اجري في عام 2010، قال الطبيب الشرعي ويليام دولمان: “لم يكن ثمه دليل علي وجود اضطراب عقلي او نفسي”، لكن التحقيق لم يرتق الي اصدار حكم. وخلُص دولمان الي انه لم يكن ثمه دليل لاي نيه علي الانتحار، لكن المفارقه كانت فيما اضافه، فقد صرح الطبيب قائلًا: “وبكل تاكيد ليس هناك دليل علي مزاعم ان مروان قد اغتيل”.

وعلي الرغم من تلك الفرضيه القائله ان مروان لم يخطط لانهاء حياته بيديه، فانه كان يخشي عليها. فقد اخبر زوجته في المره الاخيره التي كانا سويًّا وحدهما في شقته انه “قد يُقتل”، واضاف مخبرًا الزوجه: “لدي اعداء كثر ومختلفون”. وتذكرت مني عبد الناصر ما كان يفعل الزوج خلال الاشهر التي سبقت وفاته، فكان يتفحص باب الشقه والاقفال كل يوم قبل ان يخلد الي النوم. وتقول عبد الناصر انها عاده جديده لم تلحظها خلال سنوات زواجهم الثمانيه والثلاثين.

ووفقًا لعائله مروان، ثمه دليل اخر يلوح في افق المشهد، او بالاحري غياب دليل؛ فالنسخه الوحيده المعروفه لمذكراته، والتي كان علي وشك الانتهاء منها، اختفت من رف الكتب خاصته في نفس يوم الوفاه علي حد زعمهم. فالثلاثه مجلدات التي يبلغ كل واحد منها مائتي صفحه، وكذلك اشرطه التسجيل التي سجّل عليها مروان نص تلك المذكرات، لم تسترد الي الان.

يقول احد الاكاديميين ان مروان عمل علي مدار السنوات السابقه مع الاستخبارات المصريه والاسرائيليه والايطاليه والامريكيه والبريطانيه، فهل كان يخطط لافشاء اسرار قد تحرج ملوكًا واممًا؟ من اخذ تلك الوثائق، ان كانت موجوده بالاساس؟ وهل كانت طريقه الوفاه نمطيه؟ مروان كان المصري الثالث الذي يعيش في لندن ويموت في ظروف مشابهه. (في عام 2001 سقطت الفنانه سعاد حسني من شرفتها ببرج ستيوارت، وهي عماره سكنيه بمنطقه مايدا فيل، وذلك بعد ان حدث تقارب بينها وبين احد الناشرين الذي عرض عليها كتابه مذكراتها. وفي اغسطس/ اب 1973 سقط الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري للرئيس الراحل انور السادات، من شرفته بنفس البرج، وكان هو الاخر يكتب مذكراته) والضحايا الثلاثه ارتبطت اسماؤهم باجهزه الامن المصريه.

وفشلت التحقيقات حول مقتل اشرف مروان في ايجاد كثير من الاجابات، حتي ان الطبيب الشرعي دولمان قال للمحكمه في عام 2010: “علي الرغم من التحقيقات الدقيقه، بكل بساطه نحن لا نعرف الحقائق”. وبالفعل بعد ثلاثه اعوام من الفحص والاستجوابات التي اجراها فريقان جنائيان منفصلان، بمن فيهم نخبه من متخصصي الجريمه بمديريه سكوتلاند يارد، فلا يزال ثمه “العديد من الاسئله التي ليس لها اجابات”، علي حد تعبير دولمان.

القصه تبدو جاذبه لما فيها من اسرار تتارجح بالظروف المحيطه بيوم الوفاه – وفاه تحدث في ساعه الغداء، وفي وسط لندن، وهناك شهود. فالقرائن تتناثر حول المشهد، لكن علي ما يبدو ليس هناك دليل لمعالجه القصه. ولا تزال حكايه اشرف مروان تستثير حواس الفضوليين. فقد اخبرني حارس البنايه رقم 24 بشارع كارلتون هاوس تيرس ان الصحافيين يمرون بمعدل “مره بالعام الواحد”، في محاوله للحصول علي اجابات حولما حدث في ذلك اليوم. ويمكنك تقديم طلب حريه تداول المعلومات حول قضيه اشرف مروان، وستجد في انتظارك قائمه مفصله تعدد الاستثاءات حول هذا الموضوع من اجل حمايه ملفات وكالات الاستخبارات البريطانيه المرتبطه بالقضيه. فحياه مروان ووفاته لا تزال مليئه بالغموض والتفاصيل غير الواضحه التي اوصلت كُتَّاب النعي الي كابه الاسئله الممتلئه بـ”ماذا لو” والاجابات المتخمه بـ “ربما”.

وتحديدًا في اللحظه التي سقط فيها اشرف مروان من شرفته، كان ارون بريغمان يجلس في مكتبه بقسم دراسات الحرب  بكليه كينجز لندن في انتظار المكالمه التي لم تات من الجاسوس. غادر بريغمان مكتبه بعدها بسويعات قليله متجهًا الي ويمبلدن حيث اصطحب عائلته لتناول الغداء بمطاعم ناندوز. وبمجرد ان غادر المطعم استقبل هاتفه المحمول مكالمه من اخته في اسرائيل تقول: مروان قد مات. اربكت تلك الانباء بريغمان، ولكن حين وضعها في سياق موعدهما الذي لم يتم، فلم تبد انها مفاجئه للغايه. فقد ترك له مروان عددًا من الرسائل المليئه بالاسي والمسجله علي البريد الصوتي لهاتفه خلال الايام التي سبقت وفاه مروان، وبريغمان كان يعرف ان صديقه كان يخشي من ان حياته كانت في خطر. اضف الي ذلك ان بريغمان كان يعرف انه مسئول جزئيًّا عن هذا الوضع.

كانت العلاقه معقده بين بريغمان ومروان، فلم يتقابلا شخصيًّا سوي مره واحده من قبل، منذ حوالي اربعه اعوام، في فندق الانتركونتيننتال بلندن. (يقول بريغمان: “اقتربت بحذر من خلال الشوارع الصغيره لكي اتاكد انني غير ملاحق. كنت متاخرًا، اما هو فكان قد وصل بالفعل. طويل القامه، ويرتدي وشاحًا احمر اللون”). ومع ذلك فقد تشابكت حياتهما. فقبل ان يدخل بريغمان حياه مروان، كان المصري، معروفًا بانه رجل أعمال ثري ومشجع نهم لفريق تشيلسي، هذا ان كان معروفًا من الاساس (كان مروان يمتلك 3,2 من اسهم النادي، كما تولت احدي شركاته ملاعب كره القدم لناديي تشيلسي وفولهام خلال فتره سابقه، قبل ان يتم بيعهما بارباح كبيره). ولكن كل هذه الامور تغيرت مع ظهور بريغمان في الصوره.

وُلد اشرف مروان عام 1944، وكان ابوه ضابطًا بلواء الحرس الجمهوري. وعندما بلغ الواحد والعشرين من العمر حصل مروان علي درجه البكالريوس بمرتبه الشرف الاولي من قسم الهندسه الكيميائيه بجامعه القاهره، وتم تجنيده ليخدم بالجيش المصري بعد ذلك. وفي عام 1965، كان مروان يلعب مباراه تنس بحي مصر الجديدة بالعاصمه المصريه، عندما راقب فتاه صغيره وجذابه تسمي مني عبد الناصر، الابنه الثالثه والمفضله للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكانت تبلغ من العمر سبعه عشر عامًا في هذا الوقت. ازهرت ورود الحب بينهما، وتزوجا في العام التالي، ليدخل اشرف مروان بين دوائر صفوه المجتمع. استكمل الرجل الصغير سنوات الخدمه بالجيش لعامين اخرين، قبل ان يسافر الي لندن ليبدا دراسته للحصول علي درجه الماجستير في الكيمياء.

بعض المصادر ادعت ان مروان كان غير راضٍ عن المميزات العائليه التي كان يحصل عليها. (مروان كان طالبُ مال علي مدار حياته، فقد تعدت ثروته النهائيه اربعمائه مليون جنيه استرليني، وكان الاسم الذي يطلق علي شركته الام هو “استثمارات كَبرَي” تكتب بالانجليزيه Cabra  اي “ان تكبر اكثر”) ووفقًا لما يقوله احد المؤرخين، انه فتن زوجه احد شيوخ الكويت من اجل ان يكمل دخله الطلابي، والتي امدته بدعم مادي اضافي. وعندما علم الرئيس المصري جمال عبد الناصر بالترتيبات من السفاره المصريه بلندن بعدها باشهر قليله، امر زوج ابنته بالعوده الي القاهره وطلب منه في النهايه ان يطلق زوجته، لكن الزوجين رفضا، وبمرور الوقت هدا عبد الناصر، وبدلًا من خيار الانفصال امر مروان بان يبقي بالقاهره ولا يسافر الي لندن الا من اجل تسليم اوراقه الدراسيه وحضور الامتحانات.

وفي عام 1969، عندما كان (الالبوم الابيض) لفريق (البيتلز) لا يزال يعتلي قائمه الاعلي مبيعًا، زار مروان لندن من اجل استشاره طبيب شارع هارلي، او هكذا كان السبب الظاهري، حول مرض اَلَمَّ بمعدته. ووفقًا للروايات المسرحيه المؤكده التي قدمها المؤرخ هوارد بلوم في كتابه الذي صدر في عام 2003 بعنوان “ليله الدمار: الروايه الاخري لحرب يوم الغفران”، فان مروان اعطي الطبيب فحوصات الاشعه السينيه له ومعها ملفًا مليئًا بالمستندات الرسميه للدوله المصريه، وطلب من الطبيب ان يسلمها الي السفاره الاسرائيليه في لندن. وبعدها بثلاثه ايام اتصل عميل من الموساد الاسرائيلي بمروان، حيث خرج في نزهه بمحلات هارودز الشهيره بلندن (والتي سيُكِنّ صاحبها المستقبلي، محمد الفايد، العداء لاشرف مروان فيما بعد).

يقول كبار عملاء الموساد ان الامر لم يكن هكذا، ففي روايتهم الاقرب للواقع والتي امدوها لمحلل جيش الدفاع الاسرائيلي السابق يوري بارجوزيف، ليضيفها في كتابه الذي صدر عام 2010 بعنوان “هامالاخ” او “الملاك”، ادعي هؤلاء ان مروان اتصل بالسفاره الاسرائيليه وطلب التحدث مع احد اعضاء الفريق الامني، لكنه صُرف مرتين علي الاقل قبل ان يُسمح له بترك رساله. وعرَّف مروان نفسه بالاسم وابدي رغبته بالعمل مع الاستخبارات الاسرائيليه، لكنه فضّل عدم ترك رقم هاتف له، لانه كان من المفترض ان يعود الي مصر في اليوم التالي، وقال انه سيهاتفهم مره اخري بعد الظهيره. وعندما هاتفهم لم يستقبل ردًّا، ولكنه ترك رقم هاتف الفندق الذي يقيم به في هذه المره.

كان شموئيل غورين، رئيس مكتب الموساد في اوروبا، في لندن في هذه الاثناء. وعندما سمع غورين رساله مروان تعرف علي الاسم في الحال. والشكر في هذا الامر موصول لقرب مروان من زعماء مصر، فالموساد كان قد فتح ملفًا له بالفعل باعتباره هدفًا محتملًا للتجنيد، حتي انهم كان لديهم صوره لمروان لكي يسلموها لتضاف الي الملف، والتي كانت التُقطت في يوم زفافه منذ اربعه اعوام. اتصل غورين بالرقم الذي تركه مروان، ومع العلم بان الوقت كان ضيقًا، اخبره بان يبقي في غرفته بالفندق، ثم رن جرس الهاتف مره اخري، وكان علي مروان ان يذهب الي مقهي قريب من الفندق.

في المقهي كان هناك رجلٌ يجلس علي احد الطاولات يقرا الصحيفه، ذهب ببصره نحو الصوره الملقيه بجوار فنجان القهوه علي الطاوله ليقارن بينها وبين الرجل فارع الطول الذي دخل للتو من باب المقهي، ثم نظر من النافذه الي الخارج واوما براسه الي شخص اخر ينتظره في الخارج. دخل الشخص الاخر الي المقهي وسار حتي وقف امام مروان وقال: “السيد مروان؟ سعدت بلقائك. ادعي ميشا”. نهض مروان ليتصافح مع الرجل. اما الرجل صاحب الصحيفه، وهو شموئيل غورين نفسه، غادر المبني دون ان يلحظه احد. وعندما بدا الحديث، اخبر مروان ميشا (واسمه الاول الحقيقي دوبي) عن صِلاتِه وما يمكن ان يقدمه للاسرائيليين. دفع مروان بظرف الي الطاوله، وقال: “هذه عينه مما يمكن ان اقدمه، انا لا اطلب اي شيء الان، لكني في انتظار مكافاتي في مقابلتنا القادمه”. ومقابل ذلك؟ مائه الف دولار.

وتشكك الموساد من نوايا مروان، فهل كان يخطط لان يصبح عميلًا مزدوجًا من اجل ان يمد الاسرائيليين بمعلومات خاطئه، او لامداد صهره باسرار عن اسرائيل؟ وكان لدي مروان اجابات عن هذه الاسئله، فقد كان، وفقًا لما اخبر ميشا به، مفزوعًا من حقيقه ان مصر انهزمت في حرب السته الايام عام 1967، وانه ببساطه اراد ان يقف مع الجانب الفائز.  وبعد تلك المقابله، تقابل ميشا وغورين مره اخري في سياره اجره. وابتدا الرجلان في تفحص الملفات التي سلمها مروان الي ميشا اثناء طريقهما الي السفاره، وبدت تلك الملفات اصليه. ووفقًا لما ورد بصحيفه جيروزاليم بوست، فان غورين قال في هذا اليوم: “مواد مثل هذه من مصدر كهذا، انها اشياء تحدث مره كل الف عام”. ووفقًا لوصف عميل موساد اخر يدعي بلوم لهذا الموقف، فانه يقول: “كما لو كان لدينا شخص ينام في سرير عبد الناصر”. ويوضح الاسم الحركي الذي كان مروان يُعرف به لدي الموساد بالمكانه شبه السماويه التي سيصير عليها الرجل، فكان اسمه المستعار لدي جهاز الاستخبارات الاسرائيليه هو “الملاك”.

استمر مروان في اكتساب الثقه في مصر، فبعد وفاه صهره في سبتمبر/ ايلول 1970 مرر مروان مستندات اسرائيليه سريه الي خليفه عبد الناصر الرئيس الراحل انور السادات، ونتيجه لذلك اصبح له تاثير اكبر. واصبحت الشكوك التي كان الموساد يُكنّها لمروان اكثر تعقيدًا بعد ذلك بثلاثه اعوام، عندما ارسل رساله الي الاسرائيليين في ابريل/ نيسان 1973 يحذرهم فيها من هجوم مصري وشيك. فارسلت اسرائيل انذاك عشرات الالاف من ضباط وعساكر الاحتياط والعديد من الالويه الي سيناء، ولم يحدث اي هجوم، بل تكلفت اسرائيل جراء حاله التاهب التي تسببت الرساله بها ما يقرب من 35 مليون دولار. وفي الرابع من اكتوبر/ تشرين الاول عام 1973، ارسل الجاسوس رساله الي الاسرائيليين يحذرهم فيها من هجوم مصري يلوح في الافق (هاتف مروان الضابط المكلف به من باريس، حيث كان في زياره مع وفد مصري، وقال له انه يريد ان يتناقش معه حول “العديد من الكيماويات” وهي كلمه السر المتفق عليها والتي تعني تحذير من حرب وشيكه). في الثامنه من صباح اليوم التالي، اجتمعت الكابينه الوزاريه الاسرائيليه في جلسه طارئه، وقرروا التحرك لتعبئه دباباتهم وفق المعلومات التي امدها مروان. وكانت المعلومات صحيحه هذه المره، وان كانت مخطئه في فرق اربع ساعات، فقد حذر مروان من ان المصريين سيبداون هجومهم في الغروب، لكن الاجتياح بدا في الثانيه ظهرًا، اي اربع ساعات قبل الموعد الذي حدده مروان.

لماذا ولج اشرف مروان ذلك المقهي الكائن في لندن في ظهيره ذلك اليوم؟ لقد كان يعلم جيدًا ان خدماته محل اهتمام. في هذا الوقت كان التعداد السكاني لاسرائيل اقل من ثلاثه ملايين، وكان اعتماد الجيش علي الاحتياطيين، وكانت الحكومه في حاجه لمعلومات تساعدهم علي تحديد موعد تعبئه هؤلاء الاحتياطيين. فالحافز الذي دفع مروان يمكن اعتباره مفتاح فك شفره ولائه الحقيقي، وربما ايضًا هويه قاتله. هل كان متعسرًا ماديًّا وغاضبًا من صهره، فقرر ان يبيع خدماته للاسرائيليين كي يصبح غنيًّا؟ (يدّعي احد المصادر انه استقبل علي مدار حياته الوظيفيه اكثر من ثلاثه ملايين دولار من الاسرائيليين) او هل كان وطنيًّا مخلصًا، يريد بكل بساطه ان يمد الموساد بمعلومات هدامه ليؤدي دور العميل المزدوج؟

ما لا يمكن دحضه هو حقيقه ان مروان عمل مع الاسرائيليين، فزوجته مني قالت ذلك في بدايه الالفينيات، وواجهت زوجها بذلك. وفي البدايه انكر مروان اعطائه معلومات للاسرائيليين، غير انه اعترف فيما بعد انه فعل ذلك، لكنه ادعي ان تلك المعلومات لم تكن صحيحه. فاين الحقيقه؟ يؤمن بريغمان انه يعرف الاجابه، لكنّ ما يؤرقه هو سؤال اخر: هل كان مسؤولًا عن موت الجاسوس؟

اخبرني بريغمان بوقاره الاكاديمي قائلًا: “الكشف عن هويه جواسيس لا يزالون علي قيد الحياه كان خطاً كبيرًا، لا تفعلها ابدًا، لا تفعلها حتي وان كان لديك فرصه لذلك”، ثم اراد ان يهدا من نبره النصح تلك، فقال: “اري انك ذكي، فلا تفعلها”.

تقابلنا في وقت ظهيره غائم باحد ايام فبراير/ شباط في كليه كينجز لندن، وهي جامعه قديمه ممتئله بانماط البناء المنمقه والممرات التي تشبه المتاهه. في نفس هذا المكان جلس بريغمان في السابع والعشرين من شهر يونيو/ حزيران عام 2007 في انتظار مكالمه من الجاسوس ليخبره اين يمكنهما ان يتقابلا لاحقًا في ذلك اليوم. لم تات المكالمه ابدًا، ولم يشعر بريغمان بالقلق كما ينبغي، فخلال علاقتهما التي استمرت خمسه اعوام اعتاد بريغمان علي هوائيه مروان، وهي عاده تولدت لدي الجاسوس نتيجه الحذر الدائم وجنون الارتياب.

حليق اللحيه تمامًا، ذو ابتسامه تحدها غمازتان، وصوت نصف هامس، ما جعلني اميل بجسدي الي الامام اثناء الحديث في صوره تامريه. كان بريغمان متململًا وسريع الانفعال ولديه رغبه في اخبار القصه ودوره فيها. (حرص بريغمان علي الاحتفاظ بالاوراق الخاصه بالقضيه، بما في ذلك نصوص مفرغه لمحادثاته مع مروان، وذلك في ارشيف الكليه، ويبدو ان مؤلف كتاب “تاريخ اسرائيل” كان يود ان يحافظ علي مكانه من خلال الظهور في مؤلفات قد تُكتب في المستقبل عن القضيه).

يعد بريغمان احد رواد المؤرخين الذين كتبوا عن حروب اسرائيل في القرن العشرين (فقد كتب اكثر من عشره كتب عن هذا الموضوع، وعمل مستشارًا للبي بي سي في عملين وثائقيين مرتبطين بهذا الموضوع). لكنه وصف نفسه لي بانه “اكاديمي بروح صحفي”. فموهبته بالعمل الاستقصائي تبدو واضحه في قصه تمكنه من كشف هويه مروان الذي عرف بالعميل “الملاك”– وهي التفاصيل التي لم يكشفها من قبل. يقول بريغمان: “اعتقد انه من الممكن ان ناخذ في الاعتبار كل المواد المطبوعه عن حرب يوم الغفران، ثم نقوم بوضع ثلاث هويات في عين الاعتبار”. وبعد ان امعن النظر في الوثائق والمذكرات، زادت شكوك بريغمان واصبح مروان ناقته السمينه. يقول بريغمان: “كنت في حاجه الي تاكيدات، فلا يمكنك ان تتهم شخصًا ما انه جاسوس، ومروان شخص ثري للغايه، ويمكنه ان يقاضيني علي مثل هذا الاتهام”.

بدا بريغمان منذ عام 1999 في ارسال مقالاته الي مروان، املًا في ان ينجذب الجاسوس الي الطُعم، وهو ما لم يحدث. في نهايه الامر، ابتدع الرجل الاكاديمي خطه من اجل الامر، فانتوي ان يسافر الي اسرائيل لمقابله محرر الكتاب الذي نشر منذ سنوات قليله مذكرات اللواء ايلي زيرا، المدير السابق للاستخبارات العسكريه الاسرائيليه. اشار زيرا- الذي صُرف من الخدمه جراء التحرك بناءً علي المعلومات الخاطئه التي امدهم بها الجاسوس في ابريل 1973- في كثير من المراجع بكتابه الي “الملاك”. يقول ريغمان: “الفرضيه التي بنيت عليها خطتي، انه حتي وان رفض زيرا كليًّا التاكيد علي الاسم، فقد يفعل المحرر”.

تقابل الرجلان باحدي مقاهي تل ابيب في عام 2000. يقول بريغمان: “خططت لتلك المقابله بمنتهي الدقه”، فقد جلس الاكاديمي وبدا في محادثه قصيره. يضيف بريغمان: “بعدها بعشر دقائق طرحت عليه السؤال”، ولم يكن بريغمان مباشرًا الي هذا الحد من قبل حين بادر المحرر بالسؤال: “هل كان مروان هو الجاسوس؟”، حينها ذهب المحرر ببصره بعيدًا وابتسم. يقول بريغمان: “كان هذا هو التاكيد علي فرضيتي، (الملاك) هو مروان”.

وفي لندن عندما بدا طباعه الكتاب، ظل بريغمان حذرًا. ففي كتابه الاول عن حروب اسرائيل، الذي نُشر لاحقًا في عام 2000، اشار بريغمان  الي “الملاك” بصوره ايجازيه انه “الذراع اليمني لعبد الناصر”، ثم ارسل نسخه الي مروان، لكنه لم يتلق ردًّا. اثارت تلك الاهانه حفيظه بريغمان، فذهب الي ابعد من ذلك في كتابه الثاني “تاريخ اسرائيل” الذي نُشر في سبتمبر 2002. يقول بريغمان: “ذكرت في الكتاب ان (الملاك) كان احد اقارب عبد الناصر، وزعمت انه كان يطلق عليه احيانًا (النسيب)”، ولم تكن سوي كذبه من اجل استثاره مروان واستثاره صحفيين اخرين، وارسل بريغمان نسخه الي مروان مره اخري ولكن هذه المره ارفقها بعباره “الي اشرف مروان، بطل مصر”، ولكن التجاهل لا يزال سيد الموقف. بيد ان الخطه نجحت هذه المره، ففي مصر رتب احد الصحفيين مقابله مع مروان وساله مباشره عن رايه في مزاعم بريغمان، فاجاب مروان: “الكتاب الذي كتبه بريغمان ليس سوي قصه بوليسيه غبيه”.

يتذكر بريغمان قائلًا: “جرحتني كلماته. عملت علي اخراج هذا الكتاب لاربعه اعوام، فكيف يجرؤ علي ذلك؟” ليس هذا كل ما في الامر لبريغمان، وهو الذي يؤمن ان مروان “ارتعشت جفونه” ما دفعه الي نفي الامر ووصف الكتاب بالخيالي، وكان من الابدي ان يهدد بمقاضاه الكاتب للتشهير به، وعليه فان بريغمان يعتقد ان مروان اعطاه تاكيدًا اخر بصحه فرضيته. يقول بريغمان: “الصحفي الساكن بداخلي كان يعرف ان لديه سبقًا صحفيًّا، فليس هناك معني ان لم اكشفه”. اختلطت مشاعر السخط والانتصار لدي بريغمان، وفي الاسبوع التالي وافق علي اجراء مقابله مع صحيفه الاهرام العربي الاسبوعيه المصريه. تقابل مع الصحفي في مقهي ستاربكس بويمبلدن (بالقرب من مطعم ناندوز، الذي سيستقبل فيه بعد سنوات خبر وفاه مروان)، وصرح بريغمان خلال المحادثه باسم مروان باعتباره الجاسوس، وقال خلال تلك المقابله: “ينبغي ان احافظ علي سمعه اسمي باعتباري مؤرخًا”.

في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الاول عام 2002، كان قد مر سبعه ايام علي نشر مقابله بريغمان في اسرائيل، وكان الرجل في حديقه منزله يزيل اوراق الشجر التي سقطت في بدايه فصل الشتاء، عندها صاحت زوجته تدعوه ان يدخل الي المنزل ليستقبل مكالمه هاتفيه. وعندما رفع بريغمان الهاتف الي اذنيه سمع علي الطرف الاخر صوتًا غليظًا ذا لكنه عربيه يقول: “انا الرجل الذي كتبت عنه”، فرد بريغمان قائلًا: “كيف يمكنني التاكد من ذلك؟” فرد الصوت ببساطه قائلًا: “لقد ارسلت الي الكتاب وعليه اهداء…”.

بدا الاثنان علاقه متلجلجه. بريغمان كان يتصل بسكرتاريه مروان في القاهره عندما يريد التحدث معه. يقول بريغمان: “كنت ارسل اليها فاكس لاُعرف هويتي، وبدورها تقوم بتمريره الي مروان في لندن، الذي يتصل بي بعدها بدقيقتين”، يضيف بريغمان ان مروان في العاده كان يتصل ولا يقول شيئًا وينهي المكالمه ثم يعاود الاتصال بعدها بدقائق، ويصف الاكاديمي ذلك قائلًا: “امور جواسيس”. كان مروان دائمًا يقدم نفسه لبريغمان انه “موضوع كتابه”، كما حذر بريغمان من ان كل مكالماته مسجله بواسطه اجهزه الاستخبارات المصريه والبريطانيه. علي عكس ما توقع بريغمان، لم يكن اشرف مروان غاضبًا منه. فيضيف المؤرخ: “اعتقد انني اربكته. رجل اكاديمي علي غير المتوقع، يخرج ويقول اشياءً… كان يبدو منطقيًّا، وكان يدرك ان سره اصبح معروفًا. انه كان ذكيًّا وفاتنًا، فقد غير من وجهتي، لكنه ايضًا شخص يمكن ان يكون قاسيًا للغايه. وكما تري، لقد استخدم سحره وغير من وجهتي لاصير دفاعه. وفجاه لم ارَ ذلك الجاسوس المراوغ، بل الشخص الذي يعاني من مشاكل في القلب، الشخص الذي يعاني من الضغط وكل الاشياء الاخري”. يسترجع بريغمان بذاكرته ان كثيرًا من المكالمات كانت طويله، ويقول: “لم يكن لديه شخص ليتحدث اليه عن كل هذه الاشياء، فلا يمكن للمرء ان يتحدث عن الجاسوسيه مع زوجته وابنائه”.

واخيرًا سال بريغمان عن امكانيه ان يكتب السيره الذاتيه لمروان، لكن الاخير تجاهل الامر. يقول المؤرخ: “انه اراد ان تموت القصه بلا سيره ذاتيه”، وهو ما يعد امرًا مربكًا في ظل ادعاءات ضياع مذكراته، فلماذا يبدا مروان في كتابه سيرته الذاتيه ان اراد ان تُنسي حكايته؟ اخبرني بريغمان قائلًا: “السؤال الذي يساوي مليار دولار هو: هل عمل مروان علي الكتاب من الاساس؟ ربما كانت هذه هي طريقته من اجل ان يقطع الطريق امام محاولاتي لكتابه نسختي من القصه”. ومع مرور الاشهر، كان مروان يطلب نصائح بريغمان فيما يتعلق بعمليه الكتابه، حتي انه طلب من بريغمان ان يحرر الكتاب عندما ينتهي منه–  وهو ما جعل الاستاذ الجامعي اكثر تشككًا. يضيف بريغمان قائلًا: “كنت اساله من حين الي اخر عن اسم الكتاب وعن موعد الانتهاء منه؟ وعما اذا كان سيكتبه بالعربيه ام الانجليزيه؟ واجابني وقتها انه سيكون بالانجليزيه فالعرب لا يقرؤون”.

بعد وفاه مروان، اصبح هاجس بريغمان هو ايجاد دليل علي وجود تلك المذكرات. ولذا فقد اتصل بكل ارشيف في المملكه المتحده والولايات المتحده ليري ما اذا ترك مروان اي نسخه من المذكرات، ولم يستقبل سوي رد واحد من ماري كاري، امينه مكتبه بالارشيف الوطني بواشنطن، التي ارسلت بريدًا الكترونيًّا طويلًا الي بريغمان تؤكد فيه ان مروان قد زار الارشيف مرتين، في يناير ومارس عام 2007، وكلا المرتين لم يُعلَن عنهما من قبل. وساعدت كاري مروان في البحث عن اسمه بقاعده بيانات احدي الملفات الحكوميه الامريكيه التي رُفعت عنها السريه. وظهر اسمه في نسخه من محادثه بين هنري كيسنجر ووزير الخارجيه المصري السابق اسماعيل فهمي، تعود الي منتصف السبعينيات، والتي خلالها كان الثلاثه الرجال يتباحثون حول صفقه سلاح. مروان كان يمشي ممسكًا بعصا، ولم يذكر ابدًا ايه مذكرات. وفي المره الثانيه ارسل مروان الي كاري صندوقين شيكولاته )جودايفا( بعد ان غادر الارشيف ولم يعد مره اخري. واخبر بريغمان الشرطه انه يعتقد ان هناك كتابًا، لكنه اصبح غير مقتنع الان؛ فعلي الرغم من الطلبات المتكرره، لم ير كلمه واحده علي الاطلاق.

لم يتقابل الرجلان وجهًا لوجه سوي مره واحده في اكتوبر 2003، في البدايه دعا مروان بريغمان لمقابلته بفندق دوريتشيستر. يقول بريغمان: “يعد الدوريتشيستر كابوسًا للاسرائيليين امثالي”. (ففي نفس الفندق اطلقت مجموعه فلسطينيه منشقه النار علي السفير الاسرائيلي لدي بريطانيا في يونيو 1982، ما تسبب في بدء الحرب في لبنان، وهي الحرب التي قاتل فيها بريغمان برتبه ضابط مدفعيه). طلب بريغمان ان يتقابلا بدلًا من ذلك في فندق الانتركونتيننتال في طريق بارك لين. وكان مروان يخشي علي حياته بالفعل، فقد اخبر بريغمان ان كتاب هوارد بلوم الذي نشر في عام 2003 عن حرب يوم الغفران، والذي ذكر اسمه صراحهً باسم “الملاك”، واورد تفاصيل حول كيفيه بدء الجاسوس في عمله مع الاسرائيليين، ما كان الا “دعوه من اجل اغتيالي”. العلاقه بين بريغمان ومروان كانت عن بعد لكنها كانت قائمه، ويعتقد بريغمان ان مروان اراده ان يروي نسخه الحكايه التي اراد الاخير ان تخرج للعلن. ومع ذلك فان صداقتهما كان بها خيوط من الموده؛ فيقول بريغمان ان مروان كان وحيدًا. وتحولت العلاقه بينهما في عام 2007 الي “علاقه اكثر دراماتيكيه” حسبما وصفها بريغمان وذلك تواترًا مع رسائل البريد الصوتي الملئيه بالذعر التي كان يرسلها مروان اليه.

وعلي الرغم من ان بريغمان عرّض حياه مروان لخطر محتمل بعد ان كشف انه هو “الملاك”، فلم تكن كلماته سوي كلمات يتفوه بها فم مؤرخ، ولم تؤكد ايه سلطه عليا صحه المعلومات، وهو ماحدث بعد ذلك بفتره قصيره في اسرائيل. فقد اضحي مروان موضوع الساعه باحدي القضايا التي شغلت محكمه رفيعه المستوي في اسرائيل، وهي القضيه التي كان طرفاها اثنين من كبار الضباط الاسرائيليين، وهما اللواء زيرا (الذي اخبر محرر كتابه بريغمان بهويه مروان) والقائد السابق لجهاز الموساد تسفي زمير الذي اتهم زيرا بتسريب هويه مروان الي الصحافه. وعلي الصعيد الاخر طلب زيرا مقاضاه زمير للتشهير به. واستمرت القضيه لفتره طويله الي ان حكم القاضي ثيودور (وهو رجل صعب المراس، علي حد وصف بريغمان) في الخامس والعشرين من مارس/ اذار 2007 بان زيرا قد سرب هويه “الملاك” لاشخاص غير مصرح لهم بمعرفه تلك المعلومات. وخرجت القضيه للعلن بعدها بثلاثه اشهر، بتاريخ 14 يونيو. وخلال ثلاثه عشر يومًا من هذا التاريخ، كان مروان في عداد الموتي.

عندما راي بريغمان تقارير القضيه التي ذكر فيها القاضي صراحه ولاول مره اسم مروان باعتباره “الملاك”، كاتَبَ المؤرخ مروان علي الفور محذرًا اياه من ان حياته قد تكون في خطر. وارسل بريغمان، الذي حذره مروان من الاتصال به مره اخري، بالخطا الي عنوان الجاسوس القديم، فيقول: “في العاده يعاود الاتصال بي خلال 48 ساعه، لكنني لم استقبل منه ايه مكالمه لاسبوع”، وعندما استقبل مروان الرساله في نهايه الامر ترك ثلاث رسائل صوتيه مليئه بالفزع علي البريد الصوتي لبريغمان، وكلها كانت خلال ساعه واحده. يضيف بريغمان، لم يعرف احد شيئًا عن تلك الرسائل، فقد كانت تلك هي المره الاولي التي تحدث خلال خمسه اعوام تعارفي به”.

هذا ما يقودنا الي المشهد الذي كان فيه ارون بريغمان ينتظر مكالمه اشرف مروان بمكتبه في نفس اليوم الذي توفي فيه الجاسوس، وهذا يقودنا الي السبب الذي جعل بريغمان يشعر بالذنب الشديد. كتب بريغمان عن ذلك: “لقد كنت بطلًا عظيمًا عندما كشفت هويته، لكنني اصبحت شيئًا صغيرًا للغايه بعد ان توفي”.

قال بريغمان بهدوء هذه المره: “انظر، باعتبارنا صحافيين فاننا نسعي بجهد الي كسر صندوق الحقائق الي الحد الذي يجعلنا ننسي ان ثمه اشياء من حولنا. عائلتك وعائلته، نحن في النهايه بشر. ثم بعد ذلك تستحيل الشخصيه التي علي الورق الي صوت مسموع، تستمع الي صوت انفاسه، وصوت شكواه من مشاكل قلبه. اذن فمن هو الشخص الذي كنت تنظر اليه علي انه الجاسوس الخارق الذي صنع من ذهب وكل هذه الحكايات الاخري؟ هذا ليس حقيقيًّا، هو مجرد بشر”.

هل قفز مروان من شرفته، ام تمت مساعدته علي القفز؟ اخبرني بريغمان قائلًا: “ليس من الضروري ان احدهم قد دفعه جسديًّا، يمكن لاي شخص ان يخبره ان لديه ولدين، وان اراد ان يتركهما بلا اذي فعليه ان يقفز… قد يكون الامر هكذا، لكن التحقيقات لم تقرر شيئًا”، كما لم تتمكن من تحديد ايه دوله او ايه منظمه خلف تلك الدفعه، وهل كانت دفعه جسديه ام نفسيه؟

يقول المؤرخ: “انا لا اعرف، ربما يعرف البريطانيون شيئًا ما، انه هنا في مكان ما”.

ان كان البريطانيون علي علم بشيء ما، اذًا فهم لم يغضوا الطرف عن الامر. وقد حددت الشرطه هويه الرجلين اللذين كانا يقفان في شرفه مروان حينما سقط ليلقي حتفه، لكنهم لم يعلنوا عن اسميهما ابدًا، فكل المعلومات المرتبطه بحياه مروان او وفاته تخضع، حتي 30 يوليو 2015،  لسته استثناءات علي الاقل من قانون حريه تداول المعلومات، بما في ذلك:

باب 23 (الفقره الخامسه): المعلومات المرتبطه بالاجهزه الامنيه.

باب 24 (الفقره الثانيه): الامن القومي.

باب 27(الفقره الرابعه): العلاقات الدوليه.

وكان الرئيس المصري انذاك، محمد حسني مبارك، هو الرئيس الوحيد الذي وجه اصابع الاتهام الي جهه بعينها (حيث رمي الكره في ملعب الليبيين). وان كانت مصر هي الدوله التي تقف وراء مقتل مروان، فانهم بكل تاكيد جعلوها تبدو عكس ذلك. وكانت جنازه الجاسوس في القاهره فخمه، حيث زُين النعش بالعلم المصري والنياشين العسكريه لمروان. كما حضر جمال مبارك الجنازه. حتي ان الرئيس المصري اصدر بيانًا قال فيه: “اعتقد بل لا اشك في ولاء ووطنيه مروان لمصر وللعروبه”.

لكنه ايضًا ما لم يفعله تسفي زمير، القائد السابق لجهاز الموساد، فقد اخبرني زمير في مقابله بشقته في تل ابيب رتبها لنا يوري بارجوزيف، ان مروان كان جاسوسًا مخلصًا لصالح الاسرائيليين “من اجل المال ومن اجل ذاته”. ولا يزال زمير وهو في التسعين من عمره تلازمه وساوس وفاه عميله السابق؛ فقد كتب في مذكراته التي تحمل عنوان )بعيون مفتوحه) (With Open Eyes): “لا يمر عليّ يوم واحد بدون ان تعذبني نفسي بسبب التساؤلات حول ما اذا كان في استطاعتي حمايته بشكل افضل”.

وفي اوقات التحقيقات قالت مني زوجه مروان انها تعتقد ان عملاء الموساد هم الذين قتلوا زوجها، لكن الامر لا يبدو محتملًا لسبب واحد، هو ان قتل عميل سابق بعد ان انكشفت هويته قد يبدو عقبه تقف امام تجنيد عملاء جدد. حتي وان صدقت اسرائيل ان مروان كان عميلًا مزدوجًا يعمل لصالح المصريين، فمن الافضل الا يفعلوا شيئًا، ومن خلال صمتهم هذا يمكنهم ان يلمحوا انه كان مخلصًا لهم. ومع كل هذا الجدل الدائر حول ماهيه الجهه التي عمل لها مروان، نفقد في تلك الامواج المتلاطمه السؤال الاهم: من كان مروان؟

في اواخر يونيو، بعد سته اشهر من محاولاتي الاولي للاتصال بعائله مروان، استقبلت ردًّا من احمد الابن الاصغر للجاسوس الراحل. (وكان لدي محامي العائله البريطاني، جون هاردينغ، نسخه من الرد) وافق احمد علي مقابلتي خلال زياره قام بها الي لندن قادمًا من منزله بالقاهره في اوائل شهر يوليو/ تموز. وفي  يوم اَحَد من نفس الشهر استقبلت بريدًا الكترونيًّا بعد منتصف الليل مباشره يخبرني ان اكون متواجدًا بردهه احد فنادق غرين بارك في اليوم التالي.

وصلت في الميعاد المحدد، وبعدها بخمس عشره دقيقه دخل احمد من الباب الدوار واوما لي بالخروج. رجل وسيم وجذاب، وغير حليق اللحيه، في الرابعه والاربعين من العمر، ذو صوت رنان من اثر التدخين (يرفع سيجارته، بالتزام فرنسي، من نوع فيليب موريس بين كل جمله مقصوده ليدخنها) جلسنا في الخارج باحدي المقاهي المجاوره. سحبت هاتفي من جيبي من اجل تسجيل محادثتنا، مع شعوري بالقلق من عدم ظهور اصواتنا بسبب ابواق السيارات والطبول الهوائيه المحيطه. فردّ احمد قائلًا: “اعتقد ان كلينا سوف يسجل هذه المحادثه”، ثم وضع هاتفه بجوار هاتفي.

يتذكر والده دائمًا بصيغه التفضيل، فيقول ان مروان كان “اطيب رجل”، و”اكثر الاشخاص انسانيه”، و”مفعمًا بالحياه”، و”مرحًا للغايه، ولا يفقد اعصابه الا بصعوبه جدًّا”. كما كان  شخصًا “متانيًا” للغايه. انتقل احمد مع والده الي لندن في التاسعه من عمره، قبل عام من اغتيال السادات (وهو علي عكس ما ورد بكثير من التقارير). كل ما يتذكره احمد عن والده في هذه السنوات الاولي من حياته، انه يسافر ويقرا كثيرًا. كان احمد ووالده قريبين للغايه من بعضهما، كانا يتكلمان معظم الايام، احيانًا اكثر من مره. كانا يتحدثان عن كره القدم. يقول مروان الابن الاصغر: “كان شخصًا حكيمًا، وكنت استمتع بالحديث معه”.

وكان احمد في اجتماع بالقاهره عندما توفي والده. اتصلت به السكرتاريه الخاصه به تساله ان كان علي ما يرام، فلم تدرك انه لم يعرف بعد. اخبرها احمد انه في اجتماع واغلق الهاتف. وفي نهايه الامر، استقبل رساله من الاخ الاكبر تقول: “بابي في ذمه الله”. وصل احمد الي لندن في السادسه من صباح اليوم التالي.

سالتُه عن حالته العقليه بسبب كل هذا التشوش، وهل اراد ان يعرف ما حدث؟ فرد سريعًا: “نحن نعرف ماذا حدث، فما حدث واضح للغايه”. بدا الرد غريبًا في القضيه التي لا تزال مشهوره بعدم وضوحها.

فبادرته بالسؤال: “ماذا حدث؟”، فرد قائلًا: “انه امر حتمي ان اكون حريصًا في اختيار كلماتي”، وبعدها بلحظه اضاف قائلاً: “كان هناك تحقيق، وكثير من الادله عُرضت في هذا التحقيق، والقاضي قال انه يرفض فرضيه ان والدي انهي حياته بيديه. وليس ثمه دليل لدعم هذا علي الاطلاق، اذن فما لم يحدث يبدو واضحًا”.

استكمل قائلًا: “والان لكي تتحدث بلسان ما لم يحدث، عليك ان تمتلك عددًا من الادله. والطريقه التي تطورت بها الامور اشارت الي انه ليس هناك اي شخص يمكن ان يشار اليه باصابع الاتهام. لكن ما لم يحدث كان واضحًا، وكان امرًا هامًا لتسويه القضيه. من اجل عقيدتي، وعائلتي، ومن اجل التاريخ ايضًا”.

فقلت له بكل تاكيد معرفه ان والده لم ينتحر يفتح الباب امام اسئله جديده، وهذه الاسئله تزعجني، فهل وجد السلام مع هذا الغموض؟

رد احمد قائلًا: “انا لم اقل انني في سلام، لكنني قبلت ما حدث، قبلته…”.

تخلل الحديث لحظه صمت صعبه وطويله، ثم استطرد الحديث: “لقد قبلت حقيقه ان والدي لم يعد هنا، وهو امر واقع. هل افتقده؟ نعم. هل اتمني لو قضينا وقتًا اطول سويًّا؟ نعم. كان صغيرًا، صغيرًا للغايه. لكن هذا ما حدث. ما هو الامر الاخر الذي يمكننا فعله؟ لن نتمكن من ايجاد اسم لاتهامه بارتكاب الجريمه. في بعض الاوقات ينبغي علي المرء ان يتقبل حدود امكانياته”.

“ينبغي عليّ ان اختار الكلمات…”.

“لاننا نتحدث عن… انظر، انا اب ولدي اطفال”.

“هل انت قلق من ان يحدث تداعيات، حتي الان؟”.

“دائمًا ما يكون ثمه عواقب لما يفعله او يقوله الاشخاص، ومع هذا، فان الامور تمت تسويتها في المحكمه. تمت تسويتها داخليًّا. تمت تسويتها في المجتمع. التاريخ يكشف فقط، ومن اجل هذا اخترت ان اكون حريصًا”.

لحظه توقف اخري تخللت الحديث، ثم رد قائلًا: “شخص راي ان من مصلحته فعل ذلك، كان لديهم اسباب ليفعلوا ذلك. من السهل النظر للامر: من هذا الشخص؟ ماذا فعل؟ ثم تجد نفسك في مواجهه جبل من الفرضيات”.

استطرد قائلًا: “وكما يقال، ان لم تستطع رؤيه شمس الظهيره، هذا لانك لا تريد ان تراها، لكنها موجوده هناك في الافق”.

في منتصف المحادثه رن جرس الهاتف، ومني عبد الناصر كانت هي المتصل، فتوقف تسجيل احمد، ثم ارسل مكالمه امه سريعًا الي البريد الصوتي. وبعدها بقليل اتصلت مره اخري، فاعتذر احمد ورد عليها بالعربيه. وقف ثم تمشي حتي نهايه الشارع خارج مدي انصاتي. جلست متسائلًا عن السبب الذي دفع احمد لمقابلتي، فانا صحفي اجنبي. تخيلت ان مني، التي كانت تعرف عن المقابله بكل تاكيد، كانت تتصل به لتساله عما اذا كانت الامور تسير علي ما يرام، ولكي تتاكد انه لم يقل شيئًا قد يعرضهم للخطر. ثم تذكرت شيئًا قد قاله بريغمان منذ عده اشهر عن احساس السلام الذي شعر به بعد ان اُفشيت اسراره، فقد قال لي: “انت في خطر عندما تمتلك المعلومات بداخلك، وبمجرد ان تكشفها فلن تعد ذا اهميه بعد ذلك”، ربما الامر كذلك.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل