المحتوى الرئيسى

يحكى أن "47" : المذبحة .. إذ تمنحك بعض الأمل!

09/18 18:19

تقريبا كنت اخر من دخل الطائره ؛ لاجد زميلي التونسي وزميلتي الفرنسيه وقد استبد بهما القلق خوفا ان تفوتني الرحله المنطلقه من باريس. "كيغالي" كانت وجهه الطائره ، اما ثلاثتنا فكنا نقصد مناطق الحرب في الكونغو الديمقراطيه ، علينا اذن ان نهبط اولا في العاصمه الروانديه ثم نتجه عبر الطريق البري الي مدينه "جوما" في شرق الجاره الكونغو، حيث تسيطر قوات المعارضه.

في ذلك الحين من شهر يونيو عام سبعه وتسعين، لم تكن لي اي علاقات مع هذه المنطقه، ولم اقم باي استعدادات او ترتيبات سوي تشكيل فريقي وشراء بطاقات السفر وركوب الطائره، وقبل ذلك بالطبع دراسه البحث الذي اُعد علي عجل بخصوص هذا الشان، اما المهمه فهي المراسلات الاخباريه المعتاده من مناطق الحرب، فضلا عن اعداد الحلقه الثالثه من البرنامج الجديد علي شاشه الجزيره "نقطه ساخنه".

بعد عده ساعات من اقلاع الطائره تقدم راكب مني ليصافحني بحراره، "سمعت صوتك فعرفتك، اعتدت مشاهده تقاريرك الاخباريه علي شاشه ام بي سي وقت الحرب في البوسنه"، سالني عن المهمه فشرحت له، وابدي دهشته عندما علم اننا سنزور رواندا، وسنزور الكونغو - التي كان اسمها حينئذ زائير- لاول مره، واننا في كل الاحوال لم نتخذ الترتيبات الكافيه، وربما لم نتخذ اي ترتيبات بالمره، بما فيها تامين مبيتنا في العاصمه الروانديه كيغالي.

حطت الطائره مساء، ولم يتركنا الرجل حتي وجد لنا فندقا مناسبا، وفي الصباح مر علينا ليدلنا علي الجهه الحكوميه التي يجب ان نقصدها لاستخراج الاوراق الرسميه، تلك التي تسمح لنا بالسفر الي مناطق المعارضه في الكونغو.

"كيغالي" في الصباح غير تلك في المساء، وفي كل حيز جمالٌ افريقيٌ مميز وخاص، لا يعكره سوي الشعور بانك تسير علي الارض التي شهدت ذبح ثمانمئه الف مواطن علي مدي مئه يوم، مذبحه بشعه ووصمه عار في جبين الانسانيه، صحيح انها وقعت قبل ثلاث سنوات الا انني صدقا اكاد اشعر بارواح الضحايا تحوم في المكان.

خمسه وثمانون بالمائه من شعب رواندا ينتمي الي اثنيه الهوتو غير ان اقليه التوتسي هي التي هيمنت علي حكم البلاد، الي ان اطاح الهوتو عام تسعه وخمسين بالحكم الملكي التوتسي ففر عشرات الالاف من التوتسيين الي اوغندا، وهناك شكلوا ما اطلق عليه الجبهه الوطنيه الروانديه، تلك التي كبرت حتي بادرت عام تسعين الي مهاجمه القوات الحكوميه الروانديه. واستمر القتال بين الطرفين الي ان وقع اتفاق سلام عام ثلاثه وتسعين.

الحكايه لم تنته هنا ، ففي ليله السادس من ابريل عام اربعه وتسعين اُسقطت طائره كانت تقل الرئيس الرواندي انذاك "جوفينال هابياريمانا" ونظيره البوروندي "سيبريان نتارياميرا" وقُتل جميع من كانوا علي متنها، فاعتبر متشددو الهوتو ان جماعه الجبهه الوطنيه التوتسيه المتمرده هي المسؤوله، وشرعوا في حمله منظمه لاباده كل من ينتمي الي قبائل التوتسي.

قتل الجيران جيرانهم، والازواج زوجاتهم، واحتُجزت الالاف من النساء واغتُصبن، وساعد علي ذلك ان بطاقات الهويه الشخصيه في ذلك الوقت كانت تتضمن الانتماء العرقي، فكان من السهل تحديد هويه المواطن التوتسي. واستمرت المذابح، لكن الجبهه الوطنيه الروانديه التوتسيه تمكنت لاحقا من السيطره علي البلاد ففر ما يقرب من مليوني شخص من الهوتو بعد ان قُتل الالاف منهم الي داخل جمهورية الكونغو الديمقراطيه التي تاثرت هي الاخري بما يجري، واندلعت بها الحرب بين المعارضه والحكومه والتي كنت بصدد تغطيتها.

المطار صغير جدا، واجراءات الدخول تسير ببعض البطء وبكثير من الابتسامات المرسومه علي وجوه ضباط الجوازات، حملت حقائبي استعدادا للخروج من منطقه الجمارك والدخول في صاله الوصول ومنها الي الخارج، غير انني وجدت نفسي فجاه في الشارع في مواجهه الصديق العزيز معاويه ومساعديه، المسافه جد قصيره بين الطائره والشارع.

البهجه تملا المكان في سبتمبر عام الفين وخمسه عشر، شتان بين زيارتي الاولي وزيارتي الاخيره هذه، سالت صديقي عن الامن، قال بوسعك الخروج في اي ساعه من الليل او النهار دون اي مخاطره، الشرطه تتواجد في كل النواحي، لكن وجودها لا يثير الشعور بالفزع، هي حاضره لفرض القانون الذي يتساوي فيه الجميع.

انتهزت الفرصه لاحكي لصديقي السوداني ومترجمته حبيبه الروانديه عن الفزع الذي تملكني وفريقي عندما كنت قبل اقل من عشرين عاما اقطع الطريق من العاصمه الروانديه كيغالي الي جوما في شرق الكونغو، كانت المذبحه قد مضت، لكن الناس حذرونا من السير علي الطرق خارج المدينه، قالوا لنا قد تخرج عليكم عصابات مسلحه من المزارع علي جانبي الطريق، وعليكم ان تحمدوا ربكم اذا اكتفت بسرقتكم.

في مقهي "بريوج" ومع اكواب الشاي بالنعناع استمر الحديث، نسبه الفساد تكون منعدمه، لا رشاوي مطلقا، معدلات النمو مرتفعه، مستوي الخدمات الصحيه رائعه اذا ما قورنت بالدول الافريقيه الاخري، اهتمام مميز بالتعليم، مدارس مجانيه، واولاد الفقراء والاغنياء تضمهم في تساوٍ الارائك المدرسيه ، الطرق اينما ذهبتُ معبده وتشغل النساء نصف عدد الوظائف في الاجهزه التنفيذيه، فيما تزيد نسبتهم في البرلمان عن ستين بالمائه من عدد اعضائه، ووفق القانون اصبح ممنوعا الحديث عن العرقيه، ليتحول الوطن الي بلد مسالم، لا مكان فيه لوطن المذابح والعنصريه.

في الطريق اشار معاويه الي بنايه قائلا "هنا يمكنك التقدم باوراقك لتاسيس شركه، لتحصل علي كل تصاريح العمل خلال مده لا تزيد عن ست ساعات"، اما انا فقد سرحت في عالم اخر، تثيرني فكره كيف تنهض الامم، كيف تحول هزائمها الي انتصارات.

"بول كاغامي" هو رئيس البلاد في ولايه ثانيه، لقد حوّل دولته الصغيره بعد عشرين عاما من المذبحه الي ما يطلق عليها الان سنغافوره افريقيا، ولتصبح واحده من اهم عشر دول افريقيه جاذبه للاستثمارات الاجنبيه. من السهل ان تراه في احد الاسواق بين الناس بصحبه حارسين، اولاده يذهبون الي المدارس الحكوميه، ويرفض منح قبيلته او عائلته اي امتياز خاص. ولدي هذا الرجل -الذي يصغرني بعام- اجتماع سنوي مع اعضاء حكومته يقضيه في الغابه، بعيدا عن كل الرسميات والاضواء، يجلسون علي الارض، ويقيمون ما جري، ويحاسب كل واحد فيهم علي ما انجزه في ولايته او قصّر فيه، او هكذا حكي لي محمد الحاج، السوداني الطيب الذي يقيم في البلاد منذ عام تسعين؛ باستثناء فتره قصيره عاد فيها الي السودان.

محمد منبهر بهذا الرجل الذي لا يحابي قبيلته او اصدقاءه، صاحب الرؤيه الشامله لمستقبل بلاده، ذو القبضه الحديديه التي يطيح بها بمن تسول له نفسه ولو بعض الفساد، او ربما بمن يخالفه علي حد قول معارضيه.

اكثر من مليوني شخص كانوا يقفون بدءا من عام سته وتسعين امام قاعات المحاكم المحليه، متهمين بالمشاركه في المذبحه، فيما مثل كبار المجرمين امام محاكمات شكلتها الامم المتحده في بعض الدول الافريقيه والاوروبيه.

ولان عدد المتهمين المتورطين في المذبحه ضخم للغايه، لجات الحكومه عام الفين وواحد الي تنفيذ نظام العداله التشاركيه، المعروف باسم غاتشاتشا، حيث تنتخب المجتمعات المحليه قضاه لاجراء المحاكمات للمشتبه فيهم بالمشاركه في المذبحه، وهكذا بدات المصالحه المذهله في بلاد الالف تل.

المدهش ليس في الاجراءات الحكوميه ، وانما في روح العفو والتسامح التي سادت الناس او غالبيتهم علي الاقل، وكانهم جميعا قد تعبوا من الدم، ويرغبون في المصالحه مهما كان الثمن، يرغبون في نسيان الماضي وايقاف عجله الذبح الدائره.

يقول الذين شهدوا الامر، "تجتمع القريه باكملها، وتبدا المواجهه ومن ثم المصالحه بين القتله والناجين من خلال الاعترافات والصفح، ويتفق احيانا علي بعض التعويضات مثل المساعده في حراثه حقل الضحيه لفتره من الوقت".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل