المحتوى الرئيسى

تركيا بحاجة إلى بناء محورٍ سياسي جديد

09/17 18:45

ترتكز ايديولوجيه وهويه الدوله التركيه علي خليطٍ من العلمانيه، الفكر القومي والنزعه الغربيه.

انتجت انتخابات السابع من يونيو/حزيران صورهً سياسيه شهدت تراجعاً في قوه الاحزاب الرئيسيه، بينما ازدادت قوه الاحزاب التي تركّز علي فكره الهويه. شهد حزب العدالة والتنمية المحافظ تراجعاً في حصته من المقاعد بنسبه 9% مقارنهً مع نتائج انتخابات 2011 العامه، فقد تراجعت نسبه مقاعده من 50% الي 41%.

كما شهد حزب المعارضه العلماني الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، تراجعاً ايضاً وان كان طفيفاً. بالمقابل، زادت الاحزاب الممثله للفكر القومي التركي والكردي من حصتها من الاصوات. ورغم ان هذه الزياده كانت طفيفه بالنسبه لحزب الحركه الشعبيه، الا انها كانت مدهشه بالنسبه لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي ضاعف من نسبه حصته من الاصوات. كانت نسبه الاصوات التي تحصل عليها الاحزاب الكرديه لا تتجاوز 6،5% في الانتخابات السابقه، لكن حزب الشعوب حصل علي 13% من الاصوات في انتخابات يونيو/حزيران.

رغم ان الحزب يرفض تصنيفه علي انه حزب كردي قومي، ويناضل لطرح نفسه كحزب يساري ليبرالي، الا انه لا يستطيع الفكاك من صفه "الحزب القومي الكردي" التي تلاحقه، فرغم النكهه اليساريه الليبراليه، يبقي ان الاغلبيه الساحقه من ناخبي الحزب هم من الاكراد. تتوافق هذه الصوره مع نزعه سياسيه بدات بالظهور منذ مده في تركيا، فقد شهدت السياسه التركيه اندماج محورين: العرقي والديني. يرتبط هذا الاندماج بقوه بالايديولوجيه المؤسسه للدوله التركيه وهويتها التي كانت مزيجاً من العلمانيه، الفكر القومي والنزعه الغربيه.

السياسه التركيه المتركزه علي الهويه

كنتيجه طبيعيه لهويه الدوله هذه، اعتُبر الفكر الاسلامي نقيضاً للفكر العلماني، والهويه الكرديه تهديداً للهويه التركيه للدوله، فيما اعتُبر الشرق الاوسط الذي يرتبط بهذه الايديولوجيه وهذه الهويه نقيضاً للميل التركي الي الغرب. وهكذا تم اقصاء الاسلام كايديولوجيه، الفكر القومي الكردي كهويه والشرق الاوسط كمجال جغرافي حيوي.

شكّلت هذه القراءه جوهرَ الايديولوجيه التركيه الرسميه الكماليه (الميته تقريباً الان)، كما رسمت حدودَ مركزها السياسي السابق. خلق فكرُ الهويه التركيه هذه فائزين وخاسرين، فعلي المستوي الديني، احتضن العلمانيون هذا الفكر بينما وقع الاسلاميون والمحافظون ضحايا له. ينطبق الامر علي المستوي العرقي، فبينما ايد القوميون الترك هذه الايديولوجيه بقوه، وقع الاكراد ضحايا لها ولذا قاوموها بشده ورفضوها. يشكّل الاسلاميون والمحافظون حالياً القاعده الاجتماعيه لحزب العداله والتنميه، بينما ينضوي العلمانيون في صفوف حزب الشعب الجمهوري. اما اولئك الذين يعتبرون ان المرجعيه الرئيسيه لهويتهم تعتمد علي الفكر القومي، فيصوتون لحزب الحركه الشعبيه او لحزب الشعوب الديمقراطي. تداخلت هذه الصوره خلال العقد الاخير، فاصبح الفضاءُ السياسي ساحهً لمطالب هويات متضاربه، واضحي تشكيلُ محورٍ سياسي معركهً شاقه.

المحور السياسي الكمالي في تركيا

تاريخياً، تكوّن المحور السياسي التركي حول اليمين الوسط واليسار الوسط. المشكله ان هذا المحور لم يكن ديمقراطياً تماماً ولم يعكس اولويه السياسه الديمقراطيه. جسّد المحور السياسي انقساماً بين القوي المنتخبه والقوي غير المنتخبه، بين الجيش ونُخبِ البيروقراطيه المدنيه داخل النظام. في هرميه السلطه هذه، كانت الاولويه للقوي غير المنتخبه. هكذا كانت الحال، بشكل او باخر، منذ تبني نظام الاحزاب المتعدده في تركيا (شكلياً في عام 1946 وعملياً في عام 1950، اذ جرت انتخابات عام 1946 حسب نظام التصويت العلني والفرز غير العلني للاصوات).

في ظل هذا الوضع، لم تكن احزاب يمين الوسط ويسار الوسط اقل شاناً من النظام العسكري-المدني الوصي علي الحكم فحسب، بل شكّلت ايضاً حاجزاً امام المطالب القائمه علي الهويه والايديولوجيه والتي انبثقت من الهامش السياسي والايديولوجي لهذا النظام نفسه. لقد فضّلت هذه الاحزاب الاجندات التي تدعو الي التطوير علي الاجندات التي تدعو الي الديمقراطيه، متجاهلهً مطالب الشعب. بينما كان يسار الوسط يحاول امتصاص وخنق الديناميكيه السياسيه للاحزاب اليساريه المتطرفه ومطالبها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان يمين الوسط يلعب الدور نفسه تجاه الاحزاب اليمينيه الاسلاميه والقوميه بدءاً من الستينيات.

حين واجه هذا النظام تحدياً واثبت عدم فعاليته، تدخل الجيش. لقد خدمت تدخلات الجيش وانقلاباته في اعوام 1960، 1971، 1980 و1997 نفس الهدف: الحفاظ علي المحور السياسي الذي تبنته النخبه الكماليه التابعه للجيش. لكن هذا النظام اثبت عدم فعاليته المطلقه في وجه مد التحول الديمقراطي المتنامي حول العالم الذي نجم عن نهايه الحرب البارده، وفي وجه موجات الديمقراطيه التي وصلت الي معظم البشر لاول مره في التاريخ، وهو ما ساهم في بروز الاحزاب المرتكزه علي فكره الهويه في التسعينيات، والتي طالبت بمزيد من الديمقراطيه، مزيد من الحقوق والحريات. شهدت المرحله نهضه الايديولوجيات الاسلاميه والقوميه الكرديه والتركيه.

كان نهوض السياسيين الاسلاميين والاكراد مشكلهً بالنسبه للنظام الذي اعتبر مطالب الاسلام السياسي والاكراد مسالهَ امنٍ قومي. اعتبرت هذه المطالب تهديداً وجودياً للنظام. لكن تَصوّرَ النظام لهذا التهديد ترسخ بوصول حزب الرفاة الاسلامي الي السلطه في انتخابات 1995. سبق هذا الانتصار فوزُ حزب الرفاه بالانتخابات البلديه لعام 1994، حيث فاز الحزب ببلديتيّ استانبول وانقره.

بالاضافه الي هذا، وبينما كانت الحرب بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في اوجها، تاسس اول حزب سياسي كردي، حزب العمال الشعبي، في عام 1990. لقد هزت هذه التطورات بنيهَ المؤسسه السياسيه التركيه وايديولوجيتها الرسميه. استجابت الدوله لهذه التحديات بانقلابٍ اخر- سمّي عمليه الثامن والعشرين من فبراير/شباط- في عام 1997 للاطاحه بالائتلاف الحكومي بقياده حزب الرفاه. فاقمَ الانقلابُ ازمه النخب السياسيه والايديولوجيه الرسميه التركيه. كانت شرعيه الدوله وايديولوجيتها الرسميه علي المحك، وكذا كانت شرعيه المحور السياسي المكوّن من اليمين الوسط واليسار الوسط، لان الشعب راي بوضوح ان الحزب المنتخب اُخضع من قبل الاحزاب غير المنتخبه والتي لا تستطيع الامتثال لمطالبهم الايديولوجيه.

البحث عن محور سياسي جديد

رغم ان المحور السياسي القديم تفكك في تسعينيات القرن الماضي، الا ان بناء محور جديد يحل محل المحور القديم لم يظهر بعد. لقد فكك حزب العداله والتنميه، الذي وصل الي السلطه في عام 2002، المحور السياسي القديم، لكنه لم يقدم بديلاً له. ساهم الصراع بين حزب العداله والتنميه من جهه، والتحالف العسكري-البيروقراطي ومؤيدي المؤسسه السياسيه القديمه الذين يؤمنون بامكانيه احياء النظام القديم من جهه ثانيه في عرقله تاسيس محور سياسي جديد. استمر هذا الصراع محتدماً حتي عام 2011. للاسف، القت مجموعاتٌ سياسيه مدنيه اخري، وخاصه حزب الشعب الجمهوري، بثقلها وراء هذه القوي غير الديمقراطيه وهو ما جعل تاسيسَ محور سياسي جديد مهمه غير قابله للانجاز. اخيراً، ان تاسيس مثل هذا المحور يتطلب الدعم الضمني من الاحزاب السياسية الكبري.

في هذا السياق، كانت انتخابات عام 2011 فرصهً لتاسيس محور سياسي جديد، اذ جسدت الانتخابات نصراً حاسماً لحزب العداله والتنميه. فاز الحزب بحوالي 50% من الاصوات، معلناً هزيمه النظام الذي كان يقوده العسكر. اصبح واضحاً انه لا مجال لاحياء النظام القديم. كان من المفترض ان الموت الصريح للنظام القديم سيمهد الطريق لبناء نظام جديد، نظرياً علي الاقل، لكن هذا لم يحدث.

المنافسه علي تحديد هويه تركيا

من المؤسف انه بدل بناء نظام جديد، شهدت تركيا منذ عام 2011 منافسهً محمومه بين الجماعات السياسيه والاجتماعيه لرسم المعالم الايديولوجيه السياسيه-الاجتماعيه للبلاد. بعد عوده الجيش الي ثكناته، وبعد تقليص قوه النظام البيروقراطي القديم، اصبحت السياسه هي اللعبه الوحيده المتاحه لرسم مستقبل البلاد. لاول مره منذ تاسيس تركيا الحديثه، بل ومنذ المرحله الاخيره من عمر الامبراطوريه العثمانيه، سيتم تحديدُ الفضاء السياسي التركي العام من قبل مدنيين ووفقَ سياسه ديمقراطيه.

بسبب افتقارها الي ثقافه التسويه والاتفاق، شعرت كل الجماعات الاجتماعيه-السياسيه ان كل ما تمتلكه علي المحك. كانت المعارضه العلمانيه الاكثر خوفاً من المرحله الجديده بسبب الهيمنه السياسيه لحزب العداله والتنميه، اذ لاول مره يشغل سياسيون من نفس الحزب منصب الرئيس، رئيس الوزراء وكل الحقائب الوزاريه. بعد تجريدهم من شبكه الامان السياسي (البيروقراطيه العسكريه-المدنيه) السابقه، ولانهم لم يمتلكوا القدره علي بناء قوه سياسيه تشكّل تحدياً لهيمنه حزب العداله الحاكم، تزايد شعور العلمانيين بعدم حضورهم في النظام السياسي. الحزب الذي تلقي معظم اصواتهم، حزب الشعب الجمهوري، اثبت انه يحتضر وانه غير قادر علي المنافسه وبالتالي لا يستطيع تمثيل مطالبهم وطموحاتهم السياسيه.

اعطت الطبيعهُ غير الفعاله للسياسه التقليديه، وتشديدُ حزب العداله والتنميه علي موضوع الهويه، بالاضافه الي اللغه القويه التي استخدمها رئيس الوزراء حينها، رجب طيب اردوغان، المجالَ لسياسه الشارع. رغم ان عوامل عده، مثل لغه اردوغان والاستخدام المفرط للقوه من قبل الشرطه وغياب اليه للوساطه، كانت سبباً للغضب الذي تفجر خلال احتجاجات Gezi Park، الا ان هذه العوامل لم تكن سبب الغضب الذي تراكم عبر السنين والذي تفجر اخيراً في تلك الاحتجاجات. كانت العوامل البنيويه التي اشرنا اليها سابقاً هي السبب الحقيقي وراء هذه الاحتجاجات.

حين ازداد انقسام البلاد بين قطبين، خاصهً علي المستوي السياسي، اصبح تشكيل محور سياسي جديد صعباً لان جميع الحسابات السياسيه تمحورت حول الانتخابات الثلاثه المتتاليه التي جرت بين عامي 2014 و2015. اعتُبرت هذه الانتخابات نقطه تحول حاسمه في اعاده تكوين تركيا. وصل التوتر السياسي الي قمته قبل الجوله الاولي من هذه الانتخابات الثلاث- الانتخابات البلديه في اذار من عام 2014- بيد انه تراجع تدريجياً بعدها. في الحقيقه، كان التوتر السياسي والانقسام اقل نسبياً قبيل انتخابات السابع من يونيو من عام 2015.

توضحت الصوره السياسيه المتوقعه بعد هذه الانتخابات الثلاث، واصبح واضحاً ان مخاوف المعارضه- مثل تغيير النظام السياسي الي رئاسي تنفيذي- في غير محلها. يشهد علي ذلك تخلي حزب الشعب الجمهوري عن ثيماته العلمانيه وعن طرح الحريات الدينيه كاشكاليه ليدخل في مفاوضات موسعه مع حزب العداله لتشكيل حكومه ائتلافيه. هذا يمنح تركيا فرصهً يجب ان تستغلها الطبقه السياسيه.

الخطر الذي يواجه السياسه التركيه الحاليه

رغم هذا السياق التوافقي، ثمه بعض الاتجاهات الاخري التي تدل علي صعوبه تشكيل محور سياسي جديد. الي جانب الطبيعه غير الديمقراطيه للنظام السياسي القديم، كان ثمه ايضاً قمعه للجماعات التي تتبني هويهً او ايديولوجيه معينه- سواء كانوا اكراداً، اسلاميين او اشتراكيين- واهماله لمطالب هذه الجماعات. لكن السياسه التركيه الحاليه تواجه خطراً من نوع اخر: ثمه الكثير جداً من هذه الجماعات، وهو ما يجعل النظام السياسي خليطاً من جماعات ذات هويات مختلفه بدل ان تكون مجموعه سياسيه متماسكه.

رغم ان منحَ الحريه للهويات التي تعرضت لقمع في وقت سابق هو تطور مرحب به، الا ان تركيا تواجه خطر الانقياد وراء سياسه الهويات المتعدده التي تعتبر المواضيع الاجتماعيه والسياسيه الاخري هامشاً، سواء من حيث الدور او الاهميه، بالنسبه لهذا الموضوع الرئيسي. ان خطر خلق سياسه هويات منعزله هو امر حقيقي وملموس، والنظر الي الوضع المعاصر لسوريا والعراق، او التفتت الذي اصاب يوغسلافيا والبوسنه، كافٍ لفهم الخطر المحدق بمجتمع منقسمٍ بين جماعات عرقيه، طائفيه ودينيه. هذه السياسه تستبدل الهويه الوطنيه بولاءات عرقيه، دينيه وطائفيه. علي سبيل المثال، تتلاشي اهميه كون المرء سورياً او عراقياً حين تقارن باهميه ان يكون المرء سنياً، شيعياً او كردياً، فغياب هويه سياسيه جامعه هو احد الاسباب الجوهريه لمصائب هذه الدول. ان خلق هذه الهويات المنعزله في اي دوله يتعارض مع خلق مجتمع سياسي مدني يتجاوز الهويات والولاءات الدينيه، العرقيه والطائفيه.

الخطر الاخر هو ان عوده القتال بين تركيا وحزب العمال الكردستاني قد يدفع تركيا الي الرجوع عن سياستها تجاه الهويات المختلفه. لم يناضل اي حزب اخر مثلما فعل حزب العداله في سبيل منح الحريه للهويات الاسلاميه والكرديه، لذا يجب ان يحذر من تبديد احد اهم منجزاته. بل عليه ان يمضي قدماً في سياسته تجاه حريه الهويات، وهذه المره عليه التركيز علي العلويين الاتراك.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل