المحتوى الرئيسى

الغريب.. يعود من الأساطير الإغريقية ليعلن أن الثورة مستمرة

09/16 17:11

ازدهرت الحركه المسرحيه في مصر بشكل كبير عقب احداث نكسه 1967م، وحتي منتصف السبعينات، خاصه داخل مسرح الجامعه، او ما يعرف بمسارح "الهواه"، وراي النقاد انها ابرزت خلالها نصوصها "الهم القومي اكثر من الهم الذاتي"، وهو ما ساعد علي تشكيل، وتكوين فكر عدد كبير من جيل تلك الحقبه.

وفي اوائل حقبه الثمانيات، من القرن الماضي، انتشر المسرح التجاري بشكل واسع، حتي انه خرج عن مساره المعروف بتقديمه عروض هادفه تساعد علي تشكيل وعي الجمهور، الي مسرح يعتمد علي التسليه الخاليه من القيمه المجتمعيه، كما ان البعض وصفه في فتره التسعينات بـ"الملهي الليلي"؛ بعد ان وقفت علي خشبته نجوم الرقص الشرقي في مصر.

ومع الوقت خفت نجم المسرح، وغاب عنه عشاقه من الجمهور، الي ان اندلعت ثورة 25 يناير؛ لتبث بدورها الروح في جسد المسرح الهامد، وتعيده للحياه مره اخري، ولكن الصعوبات التي واجهته والمتجسده في اليات الانتاج، جعلت خطوات انتشاره بطيئه بشكل كبير.

وجاء مهرجان المسرح القومي، في دورته الثامنه؛ ليتيح الفرصه لعدد كبير من الفرق المستقله، وفرق مسارح الجامعه، بالظهور وعرض مشروعاتهم الفنيه.

كان من بين هذه العروض المشاركه بالمهرجان، مسرحيه "الغريب"، لفرقه كليه التجاره بجامعه عين شمس، والتي اخذت عن اسطوره "اجاممنون"، التي كتبها  ابو المسرح اليوناني،"اسخيلوس"، ضمن مجموعته "ثلاثيه الاوريستا"، المكونه من مسرحيات، "اجاممنون- حاملات القاربين- الصافحات".

وتدور احدث العرض، داخل مدينه "ارجوس" الاغريقيه، عندما يعود الملك "اجاممنون" في موكب مهيب، بعد الانتصار الذي حققه بحرب  بطرواده؛ فتتامر زوجته "كليتمنسترا" عليه عقب وصوله، بوضع السم له في الشراب، انتقاماً منه بعد ان قتل ابنتها القريبه من قلبها،  "ايفيجينيا"، وتقديمها قرباناً للالهه.

 ولم تكتفي "كليتمنسترا" بقتله فقط، بل خانته مع ابن عمه "ايجستوس"، الذي تعاون معها علي قتل زوجها؛ ليتولي بعدها عرش البلاد.

وتشهد "الكترا"، ابنه الملك "اجاممنون" علي جريمه والدتها؛ فتقوم بتهرب اخيها، "اوريستيس"، وتظل طوال العرض المسرحي تبكي فراق والدها، وتنتظر عوده اخيها؛ لينتقم ويثار لابيه من والدتها وعشيقها.

عده مشاهد استوقتني عند مشاهده عرض "الغريب"، علي مسرح الطليعه بالعتبه، منها، انه علي الرغم من ان العرض يعد ضمن المسرح الكلاسيكي، الا ان الجمهور حضر باعداد كبيره، عجزت ارجاء قاعه صلاح عبد الصبور علي استعابها، حتي ان البعض اضطر الي الجلوس بين طرقات قاعه المسرح، او الوقوف طوال مده العرض الذي امتدت الي ما يقرب الساعه والنصف.

استطاع الفنان الشاب محمود جمال، مؤلف عرض "الغريب"، ان يكتب النص المسرحي، دون ان يخل باحداث القصه الاصليه، التي كتبت قبل الميلاد، وتناولها العديد من الكتاب بعد ذلك.

واستعرض جمال من خلال عمله الدرامي، الواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب، تحت سلطه الحكم السلطوي المستبد، من خلال اضافه عدد من الاسقاطات السياسه علي النص.

كما يطرح فكره "المخلص، او القائد، او المنقذ"، التي دائما ما يحلم بظهوره ابناء تلك المدن السلطويه؛ كي ياتي ويمنحهم حريتهم المسلوبه.   

تميز عرض "الغريب"، بجود موسيقي تصويريه حيه، وغناء اوبرالي، الفت خصيصاً للعرض، قدمها فرقه كورال جامعه عين شمس، بقياده محمود وحيد.

استطاع المخرج الشاب محمود عبد العزيز، ان ينسج من الادوات المتاحه لديه، مجموعه من اللوحات الفنيه، منها، استخدام ابطال "الغريب"، في تمثيل دور تماثيل الالهه في المعبد، وتجسيدهم في صوره"مساند" لعرش الملك، وشجره يستظل بها ابطال العرض، وكانه اراد ان يوجه رساله للمشاهد مفادها، "ان الشعوب التي تقع تحت وطئه الحكم المستبد، تظل خانعه، لمن يسلب حريتها".

هذا بخلاف الملابس والاضاءه، والمعارك الحربيه، التي استطاع ان يخلق منها صوره دراميه تشعر الجمهور انه حقاً داخل مدينه "ارجوس" الاغريقيه.

رغم مرور مئات السنين لم يتغير الواقع الذي عاشه سكان مدينه "ارجوس"،  عن ما يعانيه شعوب الدول القمعيه، التي لا تزال تنتظر المخلص والمنقذ حتي الان، يقول ابطال "الغريب"، "الايام تمر شبيه بعضها.. والمنتظر لا يجئ".

كان الحزن يخيم بظلاله علي قلوب سكان المدينه،فهناك  توجد طفله من سكان الشوارع، تستظل من الشمس تحت ظل صخره، وفي الشتاء تدفئ جسدها النحيل بما تبقي لها من ملابس باليه، اما الضحك فتحول الي كفر، والحب اصبح خطيئه، بعد ان قام كهان المدينه بمساعده الملك علي نشر الجهل والفقر بين الناس.

وعلي الجانب الاخر يوجد المهرج بملابسه الملونه، ولسانه الذي لا يعرف الكذب؛ ليبع الضحكه الحزينه، ونصف ابتسامه يصحبها الدموع، قائلاً، "هنا الماسي والملاحم، هنا الكوميديا والسخريه.. من يشتري".

كل هذه المشاهد يراها "الغريب"، او "اوريستيس"، -الذي عاد بعد غياب الي مدينته لياخذ بثار ابيه الملك "اجاممنون"-، في تعجب؛ ليعجز بعدها عن كتم صرخته، عندما تساله احدي بطلات العرض في تعجب من انت؟!، فيقول،"انا قادم من اسطوره.. اسطوره كاذبه.. يتنافس فيها الحمقي.. من اجل مجد زائف كاذب.. تسطره اوراق التاريخ باقلام من ماس.. واحبار من ذهب.. تاريخ يرصد  افلاك الملوك وانتصارات حروبهم..ولا مكان فيه لتلك الام التعسه التي غادرها ابنها  ليبحث لها عن حق لا تعلمه.. تاريخ لا يوجد في احرف كلماته دفئ.. لتدفئ تلك الطفله المسكينه  التي يقتلها البرد.. انا اسطوره التاريخ الذي تنتظر كتب التاريخ اكتمالها.. لتسطرها".

عبارات رددها سكان المدينه في صمت:

في موكب الملك قالوا، "عاش الملك.. وفي الصدور الدم ينزف صامتاً وعاجزاً.. ارجوس تحتضر.. والظلم يعبث فينا.. والسجون صارت ملجانا.. والدم غطي جدران البيوت.. ونموت في صمت اقوي من صمتها".

وفي مشهد قتل "اوريستيس"المزيف، قالوا،"جاء الامل.. ضاع الامل.. جاء المخلص ثم رحل.. جاء ليقتل فينا الامل.. عاش الملك.. عاش الملك".

يجلس "الغريب" في سجن المدينه، بعد ان القي القبض عليه، صامتاً، وسط دهشه الجميع، وتسائلهم عن حضوره الي هذه المدينه الظالمه لاهلها.

يدخل بعدها المهرج، ضاحكاً، فيضحك الجميع معه وعليه؛ ليكتشفوا بعهدها انه مطعون في صدره،و ضحكاته هذه جاءت ليودع بها الحياه.

وقبل ان يلقي المهرج حتفه، يقول، " من منكم يشتري قلبي وصدري والواني"، ويكمل حديثه، "الناس تنتظر المخلص.. ولا يبحثون عنه علماً بانه قابع امام اعينهم..  بداخل كل واحد منهم هو فقط مسجون في سجن مدينتهم ومحبوس بين ظلوعهم..والحكايه ان الحكايه دائماً لا تنتهي.. والناس لا يتغيرون.. يفيقون احياناً للحظه.. ثم في النوم مره اخري يغرقون".

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل