المحتوى الرئيسى

أبو القاسم حاج حمد وإعادة تأسيس الفكر الإسلامي

09/15 16:18

لماذا علينا اليوم ان نقرا ابو القاسم حاج حمد؟ كثيرا ما يتعرض المفكر او العمل الفكري للارشفه، اي ان يتم تصنيفه، ومن ثم الحكم القبلي عليه للتخلص من عناء معالجته او من تواضع التوقف عن تقييمه. ابو القاسم حاج حمد احد الاسماء التي يمكن ارشفتها بسهوله اكثر من غيره، احد المثقفين الرحل من الماركسيه الي الاسلام، يريدون التماس شرعيه جديده لاحلامهم الثوريه، او احد اصحاب القراءات الحداثيه للقران الذين يريدون ان يسقطوا افكارهم العلمانيه علي القران. قيل هذا بالفعل عن حاج حمد، لكن هذا المقال يطرح ابو القاسم باعتباره المشروع الاصدق في صفه التجديد، كونه يعيد قراءه النص قراءه لا تسقط حلولها المسبقه عليه، بل "تكشف" حلوله "المكنونه" فيه لاشكالات االحداثه والتراث، بل وغوامض النص نفسه التي لم يتمكن التراث التفسيري من اكتشافها؛ لكن كل ذل يتم دون انقلاب علي سلطه النص (او حاكميته).

ومحمد ابو القاسم حاج حمد هو مفكر سوداني ولد عام 1941 وعرف بنضاله السياسي ضد نظام عبود ودعمه للثوار في اريتريا. اصدر في عام 1979 عمله الاشهر العالميه الاسلاميه الثانيه اثناء اقامته في لبنان بعد تجربه وجدانيه طويله في ظل الحرب الاهليه اللبنانيه، وهي التجربه التي دفعته لدراسه العلاقه بين الغيب والواقع. استقبلت اطروحه العالميه باهتمام من قبل مؤسسات من بينها حركة الجهاد الإسلامي، فضلا عن المعهد العالمي للفكر الأسلامي الذي عمل حاج حمد كمستشار له، واصدر في مطلع التسعينات كتابه الهام منهجيه القران المعرفيه. استمر نضال حاج حمد السياسي المثير للجدل في علاقته باريتريا والامارات والسودان جنبا الي جنب مع اعماله الفكريه الي ان توفي في السودان عام 2004، فرحمه الله.

يقدم التجديد اليوم كمهمه حضاريه او رساله انسانيه، لكن حفرا اعمق وراء دوافع التجديد يكشف عن مازق نفساني يعانيه المسلم اليوم مع دينه. ففي ضوء ما يتلقاه من فهوم رسميه تراثيه للدين، بل ما يتناوله مباشره من النصوص الدينيه، يجد المسلم نفسه امام حشد من المقولات التي ترسخ شعورا بالاستلاب اللاهوتي للانسان، بدءا من مقاربه مفهوم العبوديه لله بمعني الاسترقاق الانساني، مرورا بنفي قيمه امكانات الانسان العلميه والتقنيه ومنجزه الحضاري، واحتقار المراه والذمي فضلا عن غيره من المشركين، وترسيخ سلطه ولاه الامور المفسدين، وتشريع الحدود الجسديه، ونفي حق الانسان في البحث والتساؤل؛ كلها سلوب تصير معها "المذاهب الوضعيه مع جزئيتها وقصورها تبدو اقرب الي الانسان المعاصر من منظومه تلك المفاهيم".

لكن كل محاوله للتجديد تبقي مسكونه بهاجس السلفيه، مما يجعله دوما تجديدا شكليا؛ ليس فقط لان التجديد نفسه يستبطن معني احياء الماضي، ولكن لان لان افتراض تجاوز الماضي يتولد عنه نفسه تساؤلا او مشكلا اخر: كيف يمكن ان نقول ان الاسلام لم يفهم علي وجهه علي مدي اربعه عشر قرنا حتي جاء اليوم من تفتق ذهنه عن ذلك؟!

الافتراض الممكن الباقي هو التخلص دفعه واحده من هذا الماضي كله، عبر ما يعرف بالتاريخانيه، سواء تاريخانيه نصيه تجعل النص الديني نفسه ابنا لبيئته، ومن ثم فاقدا لسلطته/حاكميته العابره للزمن والممتده الي عصرنا، او تاريخانيه حداثيه تقيم ما تسميه "قطيعه معرفيه" مع كل ما كان سابقا علي الحداثه ولا تستبقي منه الا ما تقبله تلك الحداثه. وفي كلتا الحالتين فان ما سيبقي لن يكون قائما بذاته وانما سيبقي كاثر متهدم نزوره لنستعمل بجماليته الفارغه من المضمون او ليثير فينا نوستالجيا لذيذه.

يرفض ابو القاسم التعامل مع القران كنص تاريخي، ليس فقط من منطلق ايماني، ولكن ايضا لعجز المناهج الوضعانيه عن تفسير الظاهره القرانيه ومضامين القران وبناه، مما يعني ضروره تواضعها امامه، وافساح المجال لمن يتعامل معه باعتباره نصا الهيا يتعالي علي التاريخ. ومن ثم فان القطيعه المعرفيه غير مقبوله بحسب هذا التصور "وذلك لان ما بيننا وبين التراث (ثوابت الاسلام). فكما لا يختلف ابن رشد مع الغزالي علي هذه الثوابت، كذلك نحن لا نختلف مع تلك الحقبه علي مستوي الثوابت".

لكن القطيعه المعرفيه تبقي مع ذلك مسوغه ما لم يكن لدي هذا النص ما يضيفه الي المعرفه البشريه اليوم، فاذا لم يكن لديه ذلك فان الابقاء عليه لا يضيف سوي زينه/ديكور للبناء المعرفي الحديث القائم سلفا باستقلال عنه. هنا تاتي اطروحه ابو القاسم التي تنطلق من سؤال "علاقه الغيب بالواقع". فبينما يقوم العلم المعاصر وفلسفته بتفسير الطبيعه تفسيرا عليا مغلقا تحتاج الظاهره الطبيعيه لفهم انسجامها وتطورها الخلاق، الامر الذي يستلزم احاله للبعد الغيبي (الامر والارداه والمشيئه الالهيه) الذي يكوّن مع القانون الطبيعي والارداه الانسانيه جدليه تصنع حركه التاريخ والواقع.

وبينما لم يكن الانسان قد توصل بعد الي تحليل الطبيعه والتاريخ لادراك هذا البعد الغيبي الكامن فيها، كان التدخل الالهي يتم بصوره مباشره تستلب الحريه الانسانيه والقانون الطبيعي، وهو الامر الذي يكشف عن نفسه في التجربه الموسويه. ففي التجربه الموسويه يستلب القانون الطبيعي في فرق البحر ونتق الجبل، وقد كانت قصه موسي عليه السلام في صغره وقصته مع العبد الصالح ارشادا لامكان التدخل الالهي الجدلي دون استلاب القانون الطبيعي. اما التجربه المحمديه فتمثل تجاوزا تاريخيا لا يعرف الخوارق الطبيعيه ولا ينتهك المبدا العلمي في اطراد القانون الطبيعي، بل يؤكد البعد الغيبي في حركه الواقع دون نفي لا لحريه الاراده الانسانيه ولا للقانون الطبيعي. هذه الافكار لا تمثل عصرنه مسقطه قسريا علي النص حيث انها علي العكس قد تسهم في تطوير اجوبه جديده علي كثير من مسائل فلسفه العلوم.

ان هذه الافكار تنتظر انضاجها عبر البناء الفلسفي المحكم، لكن هذا لا ينفي ابداعيتها وعقلانيتها، وهو الامر الذي انتقد علي ابو القاسم حيث كثيرا ما تم تقديمه باعتباره عرفانيا يطلق تاملاته الخاصه في القران. ولكن اذا كان لدي ابو القاسم حقا تاملاته العرفانيه، وهو امر لم يزل يختلط عند كبار الفلاسفه باطروحاتهم المنطقيه الصارمه، فان هذا كذلك لا ينفي عقلانيه اطروحات حاج حمد وامكان تاسيسها فلسفيا.

لكن كيف كان ليمكن الكشف عن تلك الرؤيه القرانيه من رحم المنظور السلفي نفسه؟ ان نفي حاج حمد للسلفيه ليس ادانه لها وانما شعور بعدم جدواها اليوم. فالعربي عندما تناول القران لم تكن ثمه دوافع ضمن "الخصائص المعرفيه لعصره" وضمن "تجربته الفكريه"، لتجاوز "المبني اللفظي للقران"، ومن ثم كان الاعتماد علي "القدوه والتطبيق النبوي" الذي يمثل خلاصات عمليه للمنهج دون ضروره استيعابه نظريا. اما اليوم فمع "التغير النوعي" الذي مرت به المجتمعات، وما قدمته المعرفه المعاصره من "محددات نظريه معرفيه" فتحت امكانات جديده لتصوراتنا لمعاني النصوص، ففي مقابل الخلق المفاجئ نشات مفاهيم التطور والتشيؤ، وفي مقابل مفهوم التعاقب نشا مفهوم الصيروره ، وفي مقابل التدخل المباشر نشا مفهوم الجدل.

الامر اذن ليس "الفارق في قدرات الذكاء بيننا وبين اسلافنا، ولكن في اختلاف الشروط المعرفيه الضابطه للانتاج الفكري وقياساته". عبر هذه "المحددات المعرفيه" الجديده صار بالامكان اعاده قراءه نصوص الاستلاب واستيعابها ضمن "منهجيه معرفيه قرانيه" تنفي ما فيها من استلاب لاهوتي للانسان والطبيعه. ولا يمكن ان يمر ذلك دون اشاره الي نظريه ابو القاسم عن "التوظيف الالهي للغه"، حيث يري ابو القاسم ان القران يجعل من المفرده القرانيه مصطلحا لا يعرف الترادف او الاشتراك اللفظي، وهو الامر الذي لقي دراسه كبيره ونقدا من بين اطروحات ابو القاسم، من بين تلك الانتقادات مقاله الفيلسوف التونسي ابو يعرب المرزوقي: "كيف نفهم اراء صاحب العالميه الاسلاميه الثانيه؟".

لم يكن من الممكن استيعاب مشروع ضخم ومتداخل، يجمع بين قواعد نظريه وتطبيقات معرفيه، ومثير للجدل، في مقال محدود، فكان المطلوب وحسب عرض الخطوط العريضه لمشروع ابو القاسم حاج حمد وابعاد فرادته، تمهيدا للاطلاع علي اعماله وبحثها.

علي عزت بيجوفيتش، ما بعد الاخوان والمسيري

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل