الإعداد للنهوض بعمليات التنمية
تناولنا في السابق بعض الامور المتعلقه بتمكين الدوله من شؤون التنميه، وركز اخرها علي قضيه المصطلحات. وساحاول هنا اعداد قائمه جرد للمشاكل وطرح لمحات سريعه لكيفيه معالجتها توضيحا للصلات التي يجب الحرص علي وضعها في الحسبان. ويعالج القسم الاول الملابسات العامه لاربع مراحل مر بها الفكر التنموي خلال ما يقارب قرنا من الزمان. فحتي منتصف القرن الماضي: ركز الفكر الكلاسيكي علي غايه مشتركه هي بناء الانظمه واعداد الترتيبات وسن التشريعات ورسم السياسات التي تكفل رفع مستوى المعيشة للشعب بصفه عامه، وبالتالي توفير ما يلزم لذلك من سلع وخدمات. وعني علم الاحصاء الاقتصادي باعداد وتحليل المقاييس التي تبين مدي الارتقاء به وتوفير الرخاء والرفاهيه وما يلزم لذلك من بيانات عن نصيب الفرد (او بالاحري الاسره)منها وتكاليف الحصول عليها، او ما يسمي تكاليف المعيشه (وكثيرا ما يجري خلط بين المستوي والتكاليف في المعالجات الدارجه)، وبحكم ان هذا يقود الي الاهتمام بالمنتجات من السلع والخدمات، وبحجم وقيمه الاستهلاك النهائي فقد طغت المعالجات الاقتصاديه سواء من حيث النشاط الانتاجي او استقرار الاسعار ومن ثم الاسواق، وتوفير الاستثمار اللازم للتوسع في الدخل القومي من خلال اضافه طاقات انتاجيه جديده. وبالتالي جري التركيز علي تدبير التمويل الراسمالي من مدخرات محليه او استثمارات اجنبيه. ونظرا لاهميه هذه الاحتياجات تواري الهدف المعيشي وانشغل الفكر بخلق المناخ الملائم لحركه رؤوس الاموال وازاله العقبات امام المستثمرين، وطنيين واجانب. وغالبا ما لم تحظ امكانيات رفع تشغيل الطاقات القائمه بالاهتمام، وتصدرت قضايا توازن المدخرات والاستثمارات وتوازن ميزان المدفوعات الكلي قائمه الاهتمام، وهو ما كنت اعبر عنه بان الاستثمار «شر لابد منه» ويجب وضعه في القاعده لا الصداره.
وخلال العقدين التاليين للحرب العالميه الثانيه حدثت تغيرات جذريه في اداره الشؤون الاقتصاديه وظهرت معالجات جديده قادتها الدول المحاربه وهي الراسماليات الكبري المتحكمه في مصير باقي العالم عن طريق الاستعمار والهيمنه علي المبادلات التجاريه والماليه الدوليه. وكانت الاداه الرئيسيه هي «البنك الدولي للانشاء والتعمير» الذي نصت اتفاقيته علي انه مؤسسه دوليه تهدف الي «المساعده في اعمار وتنميه اراضي الدول الاعضاء فيه بتيسير استثمار رؤوس الاموال لاغراض انتاجيه، بما في ذلك احياء الاقتصادات التي دمرتها الحرب او سببت اضطرابها، واعاده تحويل مرافق الانتاج للوفاء باحتياجات السلم وتشجيع تنميه المرافق والموارد الانتاجيه في الدول الاقل تقدما». غير ان الترجمه العربيه (الشاميه)سمت الشق الاول reconstruction «انشاء» وصحته «اعاده انشاء» بينما سمت الشق الثاني «تعمير» والمقصود به ما جري العرف علي تسميته «التنميه». من جهه اخري حددت الفقره الاولي من الماده 55 لميثاق الامم المتحده هدفها بانه «تحقيق مستوي اعلي للمعيشه وتوفير اسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي» (economic and social progress and development). وهكذا دخل مصطلح تطور وتطوير بجانب النمو والتنميه في قاموس المصطلحات، وهو ما يتفق والرباعيه التي تناولناها سابقا والتي يمكن تلخيصها في الجدول التالي:
النمو الكمي growth نمو بفعل قوي ذاتيه باتباع سياسات اقتصاديه
التقدم development تقدم تتوفر الياته ذاتيا اجراءات للفضاء علي التخلف
وبينما لجا شقا اوروبا الغربي والشرقي الي بناء تكامل اقليمي لتعويض ما فقدتاه خلال الحرب، فُرض استعمار جديد علي الدول الاخري، بما فيها ما حصل علي استقلاله من الاستعمار القديم، واعتبر من الدول المتخلفه، وهو مصطلح كان مقصورا علي مناطق متخلفه في دول متقدمه مثل وادي التنيسي الامريكي. وبدءا من الستينات سميت ناميه developing واطلق علي ادناها مستوي «افل الدول نموا» lestــdeveloped.
غير ان تلك الفتره شهدت في نفس الوقت المزايا التي حصلت عليها الولايات المتحده في تعاملها الاقتصادي مع اوروبا الغربيه بمساعداتها الاقتصاديه متجنبه الدمار الذي سببته الحرب التي دارت خارج اراضيها واحكمت سيطرتها علي اقتصاد اوروبا الغربيه في فتره اعاده التعمير واستكمال سوقها المشتركه. فبدات معالم تهاوي النظام النقدي الدولي الذي اصرت علي السيطره عليه، وهو ما توقعه الاقتصادي الترويحي/ الامريكي روبرت تريفين مهندس اتحاد المدفوعات الاوروبي الذي ساعد اوروبا علي اعاده قابليه عملاتها للتحول والتخلص من هيمنه الدولار وحربه 5 يونيو 1967 وايدت رفع اسعار البترول والتحول الي النقوديه فتحولت السبعينات الي ركود تضخمي غير مسبوق وهو ما اوقف عجله التنميه في العالم الثالث، واغرقها في مديونيه طويله الامد، وتلا ذلك معاناه اوروبا الشرقيه من مشاكل ادت الي انهاء المنظومه الاشتراكيه، وواصل العالم الثالث البحث عن تنميه بديله.
وجاءت المرحله الرابعه بتطورات ساهم فيها تسارع وتيره الثوره التكنولوجيه وانتهاج حمايه الملكية الفكرية، فتعقدت مشاكل التنميه، وسيظل العالم يواجه تطورات تتلاطم فيها امواج العولمه. ودعا كل ذلك الي البحث عن استراتيجيات جديده للتنميه لا تتوفر الادوات المحكمه لصياغتها، خاصه في ظل تراجع منظومه عدم الانحياز ومحاوله قياداته البحث عن مناهج مختلفه بالتعاون مع دول امريكا اللاتينيه وروسيا والدول المتحوله عن النظام الاشتراكي.
وعلينا الان ان نتوصل الي حلول لعدد من القضايا في بحثنا عن منهج تنموي جدير بالاعتبار:
• استيضاح المقصود بالمصطلحات المستخدمه بما يناسب مواصفات المجتمع.
• الاتفاق علي المرمي goal الذي تنشده الجهات المسئوله في سعيها الي رفع مستوي المعيشه وتحقيق متطلبات دعم الاستراتيجيه العامه.
• توصيف البنيان الاقتصادي والاجتماعي وبيان مواطن الضعف والقوه ومتطلبات تعزيز القدرات: المؤسسيه للجهاز الاداري وقطاع الاعمال والموارد البشريه والماليه والماديه.
• توفير قاعده المعلومات والبيانات والتاكد من صحتها والقيام بتحليلها علي نحو يبين معايير اختيار التدابير المناسبه وصولا بالمجتمع الي الغايات المرجوه باقل تكلفه وافضل عائد بالاعتماد قدر الامكان علي قدراته الذاتيه واقل تدخل من الدوله او من الخارج، اي حسن توجيه اجهزته والعمل علي تحقيق الاعتماد علي النفس.
• اعاده بناء الجهاز الحكومي لرفع كفاءته في تولي اعباء التنميه ذات المنظور المستقبلي والتخلي عن قيود النظم المستمده من خبرات اكتسبت في فتره ضعف مستوي التنميه. ويلاحظ ان هذا من متطلبات التخلص من قيود البيروقراطيه التي كانت سببا في تعثر محاولات بناء نظم اشتراكيه فتحولت الي راسماليه دوله.
• وضع حسابات دقيقه للتخلص من درجه الاعتماد علي الخارج سواء في موارد التمويل او في اكتساب المعرفه لاسيما الاساليب التكنولوجيه.
Comments