المحتوى الرئيسى

الوقت والزمان في التصور الإسلامي: هل يمكن إدارة أوقاتنا؟!

09/12 17:20

لا يزالُ المسلمُ يلتمس معاني الحياه في كتاب الله وسنه رسوله (صلي الله عليه وسلم)، وفي قصص الماضين والمعاصرين علّه يجد سلوته، ويلتمسُ ضالته، ويهتدي الي ما يبحث عنه، وموضوع مثل "اداره الوقت" مهم في هذا العالم السريع المتقلب؛ ذلك ان عمر الانسان يفني في غمضه عين وهو لا يزال يُؤمّل من الحياه ما ينفع به دنياه فضلا عن اخراه، فلا يبقي امامه الا النظر في استثمار عمره فيما ينفعه ويفيده، وقليل من يروم ذلك ويراه من هذا المنظور!

ولاجل هذا المعني العظيم، اقسم ربنا في كتابه العزيز بالزمن في مواضع عديده منها قوله تعالي: ﴿وَالْعَصْرِ (1) اِنَّ الْاِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 1، 2]، وقوله ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ اِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 4]، وقوله ﴿وَاللَّيْلِ اِذَا يَغْشَي (1) وَالنَّهَارِ اِذَا تَجَلَّي﴾ [الليل: 1، 2]، وقوله ﴿وَالضُّحَي (1) وَاللَّيْلِ اِذَا سَجَي﴾ [الضحي: 1، 2]، وهي في جُلّها قَسَم، فلولا انها عظيمه في ذاتها، مهمه في شانها ما اقسم ربنا بها، فهي ايات من اياته البيّنات.

ان الزمان ممتد والانسان فانٍ، حقيقه مؤكده لا تحتاج الي دليل، بيد ان اولئك الذين نحملهم علي اعناقنا كل يوم فنواريهم الثري، وهم الاحباب والاقرباء والاصدقاء والاخلاء تؤكد اننا كلنا راحلون، وان ساعه الفناء قادمه لا محاله، ففي القبر يغيب الزمان، ويرجع الابناء والاخوان والمال العزيز، ويبقي العمل، والعمل كان ميدانه الزمان المنقضي، والزمان نسبي سريع فاتك، كانه الوقود الذي يتكئ الانسان من خلاله علي سيارته الانيقه ليصل به الي مبتغاه، فاذا فني الوقود في سلوك مسالك الخطيئه والذنوب والمعاصي، وفي النوم والكسل وامراض النفوس؛ لم ينجُ الانسان في صحراء الحقيقه، وبيداء التنافس للاخره، ولم يجد ماء زلالاً يبقيه ليكمل طريقه ولو لهثًا!

لقد بيّن صلي الله عليه وسلم ان الامل اقوي من الزمان، وان هذا الامل الذي ياخذ الانسان من الواقع الي الخيال ضرب من ضروب الخطر، ومسلك وعر لا يقدر احد علي النفاذ فيه، ذلك ان الاجل اسرع من الامل! ففي الحديث الذي اخرجه البخاري في صحيحه: "خطّ النبي صلي الله عليه وسلم خطا مربعا، وخطّ خطا في الوسط خارجا منه، وخطّ خططا صغارا الي هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الانسانُ وهذا اجلُه محيطٌ به - او قد احاط به - وهذا الذي هو خارجٌ املُه وهذه الخُطط الصغار الاعراضُ، فان اخطاه هذا نهَشَهُ هذا، وان اخْطَاه هذا نَهَشَهُ هذا"[1] ، وفي روايه انس – رضي الله عنه – فيما اخرجه البخاري ايضًا في ذات الباب قال: "خَطَّ النَّبِيُّ (صلي الله عليه وسلم) خُطُوطًا، فَقَالَ: (هَذَا الامَلُ، وَهَذَا اَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ؛ اِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الاقْرَبُ)".

لقد مثّل "النبيُّ (صلي الله عليه وسلم) املَ ابن ادم واجله واعراض وحظوظ الدنيا التي لا تفارقه بالخطوط، فجعلَ اجله الخط المحيط، وجعل امله واعراضه وحظوظه خارجه من ذلك الخط، ومعلوم في العقول ان ذلك الخط المحيط به الذي هو اجله؛ اقرب اليه من الخطوط الخارجه منه، الا تري قوله: (صلي الله عليه وسلم) في حديث انس: (فبينا هو كذلك اذ جاءه الخطُّ الاقربُ) . يريد اجله؟! وفي هذا تنبيه من النبي (صلي الله عليه وسلم) لامته علي تقصير الامل، واستشعار الاجل خوف بغته الاجل، ومن غُيّب عنه اجله فهو حري بتوقعه وانتظاره خشيه هجومه عليه في حال غره وغفله، ونعوذ بالله من ذلك، فَلْيُرِضْ المؤمنُ نفسه علي استشعار ما نُبه عليه، ويجاهد امله وهواه ويستعين بالله علي ذلك، فان ابن ادم مجبول علي الامل كما قال (صلي الله عليه وسلم) في الباب بعد هذا: (لا يزال قلبُ الكبير شابًا في حبِّ الدنيا وطول الامل)"[2].

بل كشف النبي (صلي الله عليه وسلم) في حديث نبوي شريف ان سؤالاً من الاسئله الاربعه الكبري التي سيُسال عنها العبد يوم القيامه تتمثل في عمره وكيف استغله او اضاعه، قال (صلي الله عليه وسلم): "لا تزول قدما العبدِ يومَ القيامهِ حتي يُسالَ عن عُمرِه فيما افناهُ، وعن عِلْمِه ما عَمِل فيه، وعن ماله من اين اكتسبَه وفيما انفَقَه، وعن جَسَدِه فيما ابلاه"[3].

ومن هنا كان الاستثمار في الوقت انفع للانسان العاقل اللبيب الذي يري هذه الحقيقه ويفهمها، يعلم انه راحل عما قريب، مهما طال به الامد والامل، فلا يجد امامه الا استثمار عمره فيما ينفعه، يمتثل امامه قوله تعالي: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَاِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي وَاتَّقُونِ يَا اُولِي الْاَلْبَابِ﴾ [البقره: 197] فيعلم ان التقوي زاد القلوب والارواح، منه تقتات، وبه تتقوي وترف وتشرق، وعليه تستند في الوصول والنجاه، واولو الالباب هم اول من يدرك التوجيه الي التقوي، وخير من ينتفع بهذا الزاد!

وان انت انعمتَ النظر، وتاملت في حديث النبي r وسيرته؛ رايته ينصح اصحابه بالظفر باعمارهم، واوقاتهم، لقد نصح r ابن عمر - رضي الله عنه-  فيما يحكيه لتلميذه مجاهد، قال: "اخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: كُنْ في الدنيا كانك غريبٌ او عابرُ سبيلٍ، وعد نفسك في اهل القبور. فقال لي (اي لمجاهد) ابن عمر: اذا اصبحتَ فلا تُحدّث نفسك بالمساء، واذا امسيتَ فلا تحدث نفسك بالصباح، وخُذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فانك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا !"[4].

وهو ذات المعني الذي نصح به رسول الله (صلي الله عليه وسلم) صحابي اخر من اصحابه، قائلاً: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"[5]، ففي هذا الحديث ذكر النبي (صلي الله عليه وسلم) العُمر مرتين، مره في الشباب وهي قمه منحني العمر في الطاقه والقوه والقريحه والنشاط، وفي الفراغ، وهو ضياع الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد!

ومن ثم، لم تكن اداره الوقت والعمر في التصور الاسلامي تعني ان يخلد الانسان الي الجبر منتظرًا المنيه بلا عمل، وان يغلق علي نفسه بابه متعبدًا لله، كانه من اولئك العبّاد الاولين، والرهبان الاقدمين الذين كانوا يُغلقون علي انفسهم صومعاتهم فلا يكاد يعرفهم احدًا، فالوسطيه التي امتازت بها هذه الامه الاخيره تعني التوازن، ففي الحديث الذي اخرجه احمد في مسنده ورواه من طريق انس رضي الله عنه عن النبي r انه قال: "ان قامت الساعهُ وبيد احدكم فسيلهً فان استطاعَ ان لا يقومَ حتي يغرسها فليفعل"[6].

ومن هنا كان لزامًا علينا ان نغوص اكثر لنعرف ما هو الوقت؟ وكيف يمكن ادارته؟ وهل يمكن حقًا ان يتحكم الانسان في وقته؟!

لقد ذكر فيلسوف الماني عاش في القرن الثامن عشر الميلادي ان "الوقت ليس سوي توالي الحوادث، لا وجود له بنفسه، بعباره اخري ليس الوقت ماده كائنه بذاتها لها اي قيمه لوحدها، وانما هو ماذا يحدث من خلاله، وماذا حدث وسيحدث في المستقبل؟ هذه هي النظره الواقعيه للوقت"[7]. اما ما اعتمده كثير من الباحثين في اداره الوقت من معني؛ فهو ما جاء في القاموس الاميركي المشهور وابستر الذي يقول بان "الوقت هو سلسله متصله من احداث يتبع احدها الاخر في الماضي مرورًا بالحاضر الي المستقبل".

اذن، الوقت هو ماده الحياه، ولا يمكن ادّخاره، ولا يمكن توقيف مروره علي احد، ولا يمكن تعويض الضائع منه، ويُصرف بانصبه متساويه بين البشر: 24 ساعه في اليوم لكل فرد، فاذا كان الوقت الان يشير الي الساعه الواحده ظهرًا واشعرُ بالنعاس، ااستطيع تغيير هذا الوقت ليكون منتصف الليل؟ ثم بعد نوم وراحه اُكمل نهاري مثلاً؟! ان اداره الوقت هي بخلاف ذلك بلا ريب، فالانسان لا يستطيع التحكم بالوقت ذاته، بل بما يقوم من خلاله، ويؤكد علي ذلك خبراء اداره الاعمال والوقت، ومنهم صاحب كتاب "كيف تكون عمليًا اكثر" هذا المفهوم فيقول: "بالطبع الوقت لا يمكنك ان تديره، فالوقت يوجد كمجموعه من المقاييس التي تُسجل بدوران الارض حول محورها، وحول الشمس، فمسيرها ثابت لا يتغير، فلا يمكنك تسريعها ولا ابطاؤها ولا توقيفها تمامًا، وكما يُقال في المثل: ان الوقت لا ينتظر انسانًا، اما الشيء الوحيد الذي يمكننا ان نديره فهو استغلالنا للوقت"[8]، ولذلك يقول ماريل دوجلاس احد اشهر من كتبوا في اداره الوقت: "توقف عن الاهتمام في كيفيه توفير الوقت، لكن ركز جهودك في كيفيه صرفه"[9].

من هنا كانت جل الكتابات التي تتناول "فن اداره الوقت" تركز علي قائمه عمل شامله منظمه تنطلق من ضروره ان يضع الانسان لنفسه خطه بادئًا بالاولويات، واليات تنظيم هذه الخطه، ووضع الوسائل التي تُعِينُ المرءَ علي الاستفاده القصوي من وقته في تحقيق اهدافه.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل