المحتوى الرئيسى

حق العودة وحق كسر السياج

09/06 20:49

تساءل الفتي عماد (12 عاماً) مستغرباً، عندما راي امه تجهز بعض الشطائر لتناولها اثناء المسيره التي تزمع العائله المشاركه فيها يوم 15/5/2011، الي حدود فلسطين المحتلة مع جنوب لبنان "لماذا الطعام؟ لن يكون لدينا وقت لتناوله، السنا ذاهبين اليوم لنستشهد في فلسطين؟"

الرساله التي حملها هذا الفتي وامثاله، اعطت لذلك الحدث طعماً مختلفاً، فقد شكلت مسيرات العوده الحاشده التي اتجهت الي حدود فلسطين المحتله سنه 1948 (او ما صار يُعرف بـ"اسرائيل") علامه فارقه في التعامل الفلسطيني مع ملف حق عوده اللاجئين الفلسطينيين الي ارضهم.

الجموع التي خرجت في وقت واحد في لبنان وسوريا والاردن والضفه الغربية وقطاع غزة، والشهداء الذين ارتقوا وهم يحاولون اختراق السياج الحدودي، عبروا عملياً عن ثلاثه مؤشرات مهمه:

الاول: تحويل قضيه حق العودة من قضيه نظريه الي برنامج عملي، والانتقال من التحدث عنه بطريقه عاطفيه او قانونيه الي سلاح يفرض نفسه علي الارض. وربما اعطي ذلك رساله طمانه للدول المضيفه القلقه من موضوع التوطين، ان اللاجئ الفلسطيني متمسك بارضه، وان بقاءه مرهون فقط بامكانيه عودته.

الثاني: انتقال قضيه العوده الي الجيل الثالث من اللاجئين، بشكل قوي وحيوي، يؤكد ان هذه القضيه لم ينسها اصحابها، بل انهم باتوا اكثر استعداداً للموت في سبيلها، وفي استخدام وسائل وادوات جديده مؤثره، وان كانت مُكلّفه، لم يستخدمها حتي اباؤهم واجدادهم.

المسيرات الاخيره تعطي مؤشرات جديده علي امكانيه عوده الحيويه لدور فلسطينيي الخارج، في تبني برامج والقيام باعمال كانت في نطاق ما هو محظور 

"كانت الاعداد الكبيره المشاركه من فئه الشباب العمريه رساله قويه وحاسمه، فقد مثلت الاغلبيه الواسعه للمشاركين، وقدَّمت كل الشهداء والجرحي تقريباً.

لم يحصل ما تمناه قاده الكيان الصهيوني ان "الكبار سيموتون، وان الصغار سينسون". وبقدر ما انعشت هذه الرساله امال المعنيين بحق العوده، بقدر ما اصابت الجانب الاسرائيلي بالقلق والاحباط.

الثالث: ان مركز الثقل في العمل الوطني الفلسطيني تحوَّل منذ سنه 1987 (منذ بدء الانتفاضه المباركه) الي الداخل الفلسطيني، واستمر كذلك حتي الان؛ بعد ان كان متركزاً بشكل اكبر خارج فلسطين.

غير ان المسيرات الاخيره تعطي مؤشرات جديده علي امكانيه عوده الحيويه لدور فلسطينيي الخارج، في تبني برامج والقيام باعمال كانت في نطاق ما هو محظور ومستبعد طوال الاعوام الخمسه والعشرين الماضيه.

ولعل ما يعين علي ذلك، حاله التحول التي يشهدها العالم العربي، والتي قد تفتح افاقاً اما لتوفير فضاءات استراتيجيه مؤيده للمقاومه او مؤيده لتفعيل برامج حق العوده؛ كما قد ترتخي قبضات الانظمه علي الحدود مع الكيان الاسرائيلي (راغبه او راغمه) بسبب سياساتها الجديده او بسبب مشاكلها الداخليه.

ان يعيش الانسان في بيته وعلي ارضه وبحريه وكرامه، هو احدي البديهيات والمسلمات التي يُجمع عليها البشر علي كافه اديانهم واجناسهم، كما تجمع عليها الشرائع والقوانين الدوليه. وهو حق تتم ممارسته بشكل طبيعي لا يقبل النقاش في كل مكان في الكره الارضيه. ويشكل حرمان الفلسطينيين من حقهم في العوده الي بيوتهم وارضهم الوضع الشاذ الوحيد في العالم.

ومشكله اللاجئين الفلسطينيين هي الاقدم من ناحيه قضايا اللاجئين التي لم تُحل حتي الان، فهي تعود الي سنه 1948. وفي الوقت الذي يستطيع فيه الروانديون والارمن والافغان والبوسنيون العوده الي منازلهم، فليس بامكان اللاجئ الفلسطيني العوده بعد مرور نحو 63 عاماً علي تشريده.

وقضيه اللاجئين الفلسطينيين هي الاكبر من ناحيه عدد اللاجئين قياساً بمجموع الشعب؛ اذ يقيم خارج فلسطين التاريخية نحو خمسه ملايين و750 الف لاجئ، كما يقيم في الضفه الغربيه وقطاع غزه نحو مليون و800 الف لاجئ من فلسطينيي 1948، اي نحو سبعه ملايين و550 الفاً من اصل 11 مليوناً و 100 الف هم مجموع الشعب الفلسطيني في مطلع سنه 2011، اي ان اكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني هم من اللاجئين.

وماساه اللاجئين من جهه ثالثه هي الاكثر، من بين كل القضايا، التي حصدت قرارات دوليه من الامم المتحده تؤيد حقهم في العوده. فمنذ صدور قرار رقم 194 وحتي الان، تم تاكيد هذا القرار بقرارات متجدده وباشكال مختلفه اكثر من 120 مره. وهو حق العوده لفلسطين المحتله سنه 1948، وليس متعلقاً بالضفه والقطاع فقط.

حق العوده بكل ما فيه من قوه وبساطه ووضوح واجماع هو حق مُعطَّل بسبب غطرسه القوه التي يمارسها الاسرائيليون، وبسبب الدعم الاميركي والغربي

"هذا الحق بكل ما فيه من قوه وبساطه ووضوح واجماع هو حق مُعطَّل بسبب غطرسه القوه التي يمارسها الاسرائيليون، وبسبب الدعم الاميركي والغربي للموقف الاسرائيلي، ولانه يتم التعامل معهم كدوله فوق القانون.

لم تهتز شعره لدي الاداره الاميركيه عندما نفذت العصابات الصهيونيه 34 مذبحه وقامت بتهجير اكثر من 800 الف فلسطيني (من اصل مليون و390 الف فلسطيني) سنه 1948 قسراً من ارضهم.

ولم تنشغل اميركا وحلفاؤها طوال الفتره الماضيه بتطبيق اي من شعاراتها وقيمها المرتبطه بحقوق اللاجئين، ولم تكن معنيه بحل مشكله اللاجئين الفلسطينيين، بقدر ما كانت معنيه بحل مشكله الاسرائيليين في مواجهه استحقاق حق العوده.

المنطق الاسرائيلي يتحدث عن ان تطبيق حق العوده سيعني نهايه المشروع الصهيوني وفقدان "اسرائيل" صفتها اليهوديه، وانه لا معني لتنفيذ مشروع تسويه سلميه اذا اصرّ الفلسطينيون علي هذا الحق. ولكن هل كان هناك اي منطق عندما كان ياتي مهاجرون يهود من اشتات الارض تحت حمايه البنادق البريطانيه، ليقيموا في فلسطين غصباً عن اهلها وليتضاعف عددهم 13 مره (من 50 الفاً سنه 1918 الي 650 الفاً سنه 1948).

وهل كان هناك منطق في اقتلاع شعب فلسطين وتهجيره من ارضه التي عاش فيها اكثر من 4500 عام، ليحصل اليهود علي غالبيه مزوره ممهوره بدماء واشلاء الفلسطينيين. وهل المنطق ان يحرم الفلسطينيون من مجرد حق العوده (كاي مدنيين يعودون لمساكنهم بعد انتهاء الحرب) لمجرد ان المشروع الصهيوني فشل في توفير اغلبيه يهوديه، هذا اذا سلمنا جدلاً "بحق" هؤلاء اليهود في الهجره والاقامه في فلسطين؟

المسيرات التي حدثت في 15/5/2011 لم تتميز فقط بمشاركه شبابيه واسعه، وانما بمشاركه كافه الفئات العمريه، وبمشاركه اللاجئين في عدد من الاقطار والاماكن في وقت واحد، وباتساع نسبه المشاركه. وربما كان ابرز ما فيها هو ما لم يخطط له منظموها، وهو اختراق السياج الحدودي، ورفع العلم الفلسطيني عليه.

في لبنان تجاوز عدد المشاركين ثلاثين الفاً، ووفق تقديرات بعض منظمي المسيره فان العدد وصل الي نحو 55 الفاً، بينما لم يستطع الالاف القدوم لعدم توفر وسائل المواصلات. والمعنويات كانت عاليه قبل المسيره واثناءها وبعدها، بالرغم من ان معظم المشاركين ساروا علي اقدامهم من خمسه الي 16 كيلومتراً (وبينهم اطفال ونساء وشيوخ).

تُري؟ هل انكسر بُعبع الحدود؟ وتعرَّت "القدسيه" المزوره للاسيجه التي تحيط بفلسطين؟ وهل وضع الفلسطينيون يدهم علي سلاح كانوا يخشون استخدامه لسنوات طويله، ربما لسبب قسوه الانظمه العربيه (المتباكيه علي حق العوده والمرعوبه من التوطين)، الي جانب السلوك المنتظر من الاسرائيليين.

كسر الفلسطينيون السياج، وتحقق انتصار معنوي, ولكن بقي السؤال قائماً: هل كان الامر مجرد موقف؟ ام انه سيتحول الي برنامج عمل؟

"كسر الفلسطينيون السياج، وانكسر جدار الخوف الذي بنته "اسرائيل" كما بنته الانظمه العربيه. وتحقق انتصار معنوي. ولكن بقي السؤال قائماً فهل كان الامر مجرد موقف؟ ام انه سيتحول الي برنامج عمل؟

انه سؤال ما بعد السياج. فهل يمكن تحقيق تعبئه جماهيريه واسعه، تستخدم "سلاح الجموع" تخترق الحدود وترفض الخروج تنفيذاً لحق طبيعي في العوده يلقي الدعم الشعبي والقانوني العالمي؟ وتضع موضوع اللاجئين سياسياً واعلامياً علي نار ساخنه؟

والي اي مدي ستوغل "اسرائيل" في دماء الفلسطينيين المُصرِّين علي العوده؟ وهل يمكن الاستفاده من تجربه مبعدي مرج الزهور الـ 415 الذين ابعدتهم "اسرائيل" اواخر 1992، ولكنهم بصمودهم وثباتهم واصرارهم علي البقاء علي الحدود، كسبوا المعركه السياسيه والمعركه الاعلاميه، كما كسبوا معركه حقهم في العوده الي فلسطين فعادوا بعد نحو سنه من ابعادهم؟!

ليس الامر مجرد تفكير رغائبي واحلام يقظه، ولكن من حق اللاجئين، الذين تمّ تضييع وتجاهل قضيتهم لاكثر من ستين عاماً، ان يفكروا من خارج "الصندوق"، وان يخرجوا عن الاطار التقليدي للمبادرات والمواقف التي هي اقرب للمُسكِّنات، منها الي حلول فعاله جاده.

الجانب الاسرائيلي عبَّر عن قلقه وارتباكه من مواجهه مسيرات مشابهه لتلك التي حدثت يوم 15/5/2011. واعترف بالاثمان الباهظه التي يمكن ان يدفعها اذا ما اصرَّ علي استخدام قوه السلاح في منع جموع الفلسطينيين من كسر السياج الحدودي؛ وهي اثمان تحمل تبعات سياسيه واعلاميه وقانونيه كبيره.

احداث النكبه في داخل "اسرائيل" وعلي حدودها تثبت ان الصراع ليس علي حجم "اسرائيل"، وانما علي وجودها

"والفلسطيني الذي يصرّ علي العوده وبيده صك ملكيه ارضه (الكوشان) ومفتاح بيته، يعيد طبيعه الصراع مع المشروع الصهيوني الي جوهره، ويكشف ان الامر ليس مجرد اختلاف علي حدود 1967، وان القضيه تكمن في ذلك الانسان الذي جري اقتلاعه وتهجيره وتهميشه وحرمانه من ابسط حقوقه، فضلاً عن انها تكشف عن الوجه القبيح لكيان غاصب قائم علي شقاء الفلسطينيين والامهم.

ولذلك، لم يبتعد موشيه يعلون، وزير الشؤون الاستراتيجيه في الحكومه الاسرائيليه، كثيراً عن الحقيقه عندما قال ان احداث النكبه في داخل "اسرائيل" وعلي حدودها تثبت ان الصراع ليس علي حجم "اسرائيل"، وانما علي وجودها. كما ان القائد العسكري الاسرائيلي للمنطقه الشماليه قال ان ما حدث هو مقدمه لاحداث مستقبليه، وان المهله المتبقيه لاستخلاص العبر قصيره جداً.

يظهر ان الفلسطينيين امام ثلاثه احتمالات للتعامل مع الحدث:

1- الاكتفاء بما جري في 15/5/2011 واعتباره نقطه مضيئه، وموقفاً جريئاً، يضاف الي مواقف وتاريخ الشعب الفلسطيني في الصمود والنضال.

2- التاسيس لعمليه تسخين سياسي منهجي واعٍ، يلتقطها الشباب الفلسطيني والفصائل الفلسطينيه لابتكار وسائل ضغط سياسيه واعلاميه وقانونيه جديده في مجال حق العوده.

3- تجاوز حدود "المعقول" او "المعتاد" حتي الان، والاندفاع باتجاه عمليه تجييش شعبي في مناطق اللجوء، وخارج الحسابات التقليديه، لتسعي جموع اللاجئين لفرض واقع جديد من خلال كسر السياج او علي الحدود، بحيث تصبح القضيه محط انظار العالم، ولا يمكن تجاوزها. وهو امر مرتبط اولاً بارتخاء القبضه الامنيه العربيه علي الحدود، قبل غيره من الامور.

لن يخوض هذا المقال كثيراً في اللغط الذي حدث حول الاستثمار السياسي الذي حاولت بعض الاطراف تحصيله من خلال السماح للاجئين بتنفيذ المسيرات، خصوصاً في لبنان وسوريا.

فحتي لو كان هناك استفاده سياسيه تحققها هذه الاطراف فان ذلك لا يعني الاندفاع باتجاه الغاء المسيرات، اذ ان المكاسب التي يحققها اللاجئون انفسهم هي اكبر بكثير مما يحققه اي طرف اخر، وان نقاط الاتفاق والتقاطع مع ايه قوي ينبغي ان تكون محفزاً للعمل، لا سبباً في تعطيله.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل