المحتوى الرئيسى

مثقفُ السلطة فيما مضى

09/05 14:20

من الثابت تاريخيًّا ان السلطات الحاكمه بدءًا من الحضارات البشريه الاولي الي الان، قد افرزت من لدنها واصطنعت لنفسها ايديولوجيات خاصه بها وثقافات تتعلق بها وتتمحور حول اثارها السياسيه وحتي الدينيه والاجتماعيه. فقد كانت السلطه الحاكمه هي صانعه الايديولوجيه والثقافه سواء بشكل مباشر ام لا. والامر برمته منوط بخصوصيه السلطه وطبيعتها. فاذا كانت السلطه تدّعي انها الهه او وكيلتها (ملكيه مطلقه)، فمن المؤكد انها ستكون صانعه الايديولوجيه والفكر والثقافه المرتبطه بها حصرًا. وهو امر كثر تجليه في الحضارات القديمه، كميزوبوتاميا (العراق) ومصر الفرعونية. لكن في مصر الفرعونيه كانت مفاعيله اقوي مما في بلاد الرافدين. فالفراعنه (مدّعو الالوهيه) هم الذين نشروا افكارهم و ايديولوجياتهم الخاصه بهم وصبغوها بصبوغهم وضبعوا بها شعوبهم. فكل ما ينتج من فكر وثقافه، يكون سابحًا في فضاءات السلطه والسلطان. يضاف الي ذلك ان التركيبه الاجتماعيه في تلك المجتمعات قد اسهمت بشكل واسع في تعميم ثقافه السلطه الحاكمه والتي سنصطلح تسميتها (ثقافه السلطان).

اذن فتركيبه النظام هي: نظام الملك الاله - نظام المعبد التابع له - نظام المجتمع الذي علي دينه - نظام العبيد الخاضع و المملوك له. وهنالك نمط ثقافي واحد سائد في المجتمع، و ان غلب عليه الطابع الديني، ولا مجال لايه تعدديه ثقافيه فكريه الا ضمن تلك المنظومه السلطانيه.

وما عزز هذا الوضع، ان الفكر الديني الوثني الطاغي انذاك، كان يجعل من حاله او مفهوم (الملك الاله) امرًا طبعيًّا اعتياديًّا مقبولًا يحمل صفه المنطقيه العقليه، لدرجه ان غير ذلك، يصبح مستهجنًا مرفوضًا بالعرف الاجتماعي. وقد عبّر القران الكريم عن هذه الحاله او الظاهره، بتصوير الحادثه التي يقابل بها النبي موسي فرعونَ ويدعوه الي الايمان بالله رب العالمين، فيبادر فرعون متسائلاً بدهشه {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء : 23]. هو قال: ما رب العالمين ولم يقل: من رب العالمين. (من) هي للاستعلام عن شخص، بينما (ما) استعلام عن مفهوم وفكره غير معلومه. يعني ببساطه، الرجل قد استعصي عليه المفهوم، وكانه يقول: ما معني رب العالمين؟! وهذا يدل علي غياب المفهوم كليه عن فرعون الذي هو راس الهرم السياسي الديني.

والسؤال الذي يُطرَح هنا: اذا كان هذا قد غاب عنه هذا فما بالنا بالذين هم ادني؟!.

فاذا كان السلطان هو صانع الدين والفكر والثقافه، ومن رحمه ومنظومته تخرج المنظومه الفكريه الشامله فهذا بكل بساطه يعني ان المثقف والمفكر في تلك الحضارات هو مثقف السلطان، شاء ام ابي، دري ام لم يدرِ، اعجبه ذلك ام لم يعجبه. حتي لو حاول وجرب النفاذ من افكار هذه المنظومه، لما استطاع ذلك، ليس هذا فقط، بل هو لا يعي حتي، وجود منظومه فكريه اخري غير هذه المنظومه، حتي يفكر بالفزع اليها ويترك منظومته الاولي. اذا كان ربه والهه هو نفسه لا يعرف ذلك وقال متسائلاً باستغراب: ما رب العالمين؟!.

اذن يصح القول: ان الشكل السائد للمثقف الاول في الحضارات البشريه كان مثقف السلطه والسلطان.

في فتره الجاهليه وصدر الاسلام وما بعد، برز مثقف السلطه والسلطان، بصوره الشعراء. وظهر حصرًا من خلال التناقض الذي كان يعتمل في صدر العربي اتجاه السلطه والمُلكْ. فهو الذي كان يانف من نظام السلطه والملُك ويتمرد عليه ويثور في وجهه وينقلب ضده لاتفه الاسباب واقرب الفرص، ويهجوه هجوًا لاذعًا في اشعاره ليحط به الي الدرك الادني ويجعله اسفل سافلين.

لكنه هو الذي كان في الوقت نفسه يشتهي هذا النظام ويتملقه ويمدحه في اشعاره رافعًا اياه الي المراتب العليا جاعلًا اياه في اعلي عليين، واسمًا اشخاصه واصفًا اياهم بصفات الخوارق الطبيعيه واضعًا اياهم في مرتبه اعلي من مرتبه البشر ممجدًا بطولاتهم الفوق طبيعيه مبررًا لهم اعمالهم وصنائعهم.

لقد اشتهر فطاحل الشعراء في الجاهليه بكونهم شعراء سلطان ايضًا. ومن الشعراء هؤلاء (الاعشي - النابغه الذبياني - الحطيئه - طرفه بن العبد.. الخ) الذين كانوا يتكسبون من الشعر وياخذون الصله والعطاء من الملوك. وبدورهم استجلب الملوك هؤلاء الشعراء واستقدموهم لايوانهم وحضرتهم. فكانوا يدنونهم ويجزلون لهم الاعطيات كونهم كانوا يدركون تمام الادراك ما للشعر من تاثير في نفوس العرب قبائل وافراد، ومدي انتشاره في البوادي والقفار.

لكن بالرغم من ذلك كله، فان مثقف السلطه في الجاهليه، كان بنظرنا، يمثل حاله شاذه لا يُعتد بها، ولا يمكن اعتبارها من ضمن المنظومه الفكريه لمثقفي السلطه الافتراضيه كما هو الان، وذلك لاسباب عده منها:

ـ عدم سواد الامر السياسي بعواهنه ومقوماته الافتراضيه في المجتمع الجاهلي، والافتقار الي منظومه سياسيه شامله متكافئه مع ما هو الحال عليه في الدول المجاوره. فنظام الملك المتعارف عليه مجازًا في تلك الفتره، كان اشبه بنظام قبلي منه بنظام مُلك سياسي. فهؤلاء الملوك المزعومين كانوا في احسن الاحوال، مجرد رؤساء لامهات قبائل تضم اليها بطون وافخاذ مرتبطه بها. وليس لانظمه سياسيه متقدمه كالفرس و الرومان.

ـ تزلف الشعراء واضرابهم، لهؤلاء الملوك، لم يكن من منطلق الدعايه لايديولوجيه عقائديه، بل كان اعلي سقفه لاغراض الفخر القبلي والحصول علي المال والاعطيات من نوق وابل واموال وغيرها. فضلاً عن ان الشاعر في معظم الاحوال كان يحافظ علي كرامته امام ممدوحه واحيانًا يفخر بنفسه امامه.

ـ قصائد المدح المبالغ فيها، كانت غالبًا في حضره الممدوح وليس في غيابه، فما ان يغيب الشاعر عن ناظري الملك او صاحب الرياسه ويغادره، حتي ينسي كل ما مدحه به، واحيانًا ينقلب عليه ويسبه ويهجوه بالفاظ لاذعه مقذعه، يصل في بعضها الي انتهاك العرض (معنويًّا) وهي قضيه تفقد مفهوم (مثقف السلطه) مصداقيته ومقوماته الكامله.

هذه الصوره لمثقف السلطه البدائي، تطورت في العصرين الاموي والعباسي وما بعدهما حيث اضحي هنالك نظام سلطه وسياسه، ومنظومه كامله مرتبطه بهما. فتطور مفهوم مثقف السلطان واصبح يشكل كيان ومنظومه خاصه به اكثر تعريفًا حتي لعامه الجمهور. وظل مقتصرًا علي الشعراء الذين شكلوا ما يسمي (شعراء السلطان). كيف لا وقد وطد السلطان سلطته من خلال صراعه مع خصومه، وانتصاره عليهم بشفار سيوفه ونصال حرابه وسنابك خيله. ولم يصل الي سلطانه هذا وخلافته تلك الا بعد ان اعصوصبت الحروب واشتدت الدماء بينه وبينهم. فقد راينا كيف ان الامويين لم يصلوا الي السلطه ويوطدوا سلطانهم الا بعد حروبهم المضنيه مع الطالبيين ومع الزبيريين والخوارج. كذا الامر بالنسبه للعباسيين الذين لم تَؤُلْ الخلافه والمُلك اليهم الا بعد ثوراتهم علي الامويين وحروبهم الطاحنه معهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل