المحتوى الرئيسى

مَجازُنا وما تبقى لنا

09/05 14:20

مضي افلاطون في طريق الشعر، قبل ان يتبع طريق اللوغس ويعتلي عرش الفلسفه. وانتهي به الامر، ان يرفض توسل الفلسفه بالخطاب الشعري، كما كانت عليه حالها في مرحله ما قبل سقراط.

وبدا التناقض لديه بين العقل والمخيله علي اشده، حيث وجد ان الفنانين تجّار اوهام، وان العقل وحده قادر علي بلوغ الحقيقه (القيم او المثل المطلقه). اما الفن/الوجدان، فانه حين يحاكي الواقع يشوّه المشوّه. لذلك تجرا علي وضع الفنانين، والشعراء علي راسهم، خارج اسوار المدينة الفاضلة. هؤلاء الشعراء، او الفلاسفه الذين ضلوا طريقهم، حسب تعبير هايدغر، لا مكان لهم في مدينه افلاطون المحتكمه الي العقل، ولا حاجه لهم في تحصيل السعاده.

ومع اننا لا نتفق مع الموقف الافلاطوني المتطرف بحق الشعراء، الا انه لا يمكننا تجاوز حقيقه التعارض بين العقل والوجدان. فالعقل فضاء للافكار، و هو حركه وانتقال دائمين، من حكم الي اخر، ومن مقدمات الي نتائج، ومن معلوم الي مجهول. يبحث العقل عن الوحده خلف الكثره، وعن العلاقات السببيه بين الاشياء، ليري الواقع من خلال العلاقه بين ظواهره (القانون) وفي انتظامه وتجانسه. اما الشعر فضاء تتداعي فيه الغرائز والعواطف والانفعالات، ويبدو فيه العالم ومضات، لحظات، كثره من الاشياء التي لا يجمعها قانون ناظم بل مصادفه وتلقائيه، فيسود الوصف ويغيب التفسير.

استمرت هيمنه الشعر علي الثقافه العربيه، حتي في العصور التي لعب فيها الاقتصاد القائم علي الفتوحات دورًا هامًّا في ازدهار المدينه العربيه، التي شهدت تطور اجناس ادبيه اخري، كالنثر باشكاله، عبّرت بدورها عن الانتقال من البداوه الي الحضاره، ناهيك بالتطور المادي والعلمي الذي بدا في اوجه. وقد عبر الجاحظ (ق3هـ)،عن التوجه لتكريس الشعر سيدًا، في رسالته عن مناقب الترك حين راي ان العرب " قد وجهوا قواهم الي قول الشعر، وبلاغه المنطق، وتثقيف اللغه، وتصاريف الكلام".

وما تزال اجناس الثقافه الادبيه المختلفه، لا سيما الشعر، مهيمنه علي المشهد الثقافي العربي، انتاجًا واستهلاكًا. ولسنا بحاجه الي كثير عناء حتي نلاحظ كم تنعكس شعريتنا وشاعريتنا في رؤيتنا للعالم وسلوكنا فيه. فما زلنا مسكونين باللغه علي حساب معالجه الواقع، وبجماليه اللفظ وبلاغه العباره علي حساب الدلاله ودقه المعني. لذا يغيب العقل الوضعي لصالح سياده العقل القِيَمِي، ويغيب الاستدلال لصالح الحدس، والشك لصالح الوثوق. وبدل ان نفهم الواقع موضوعيًّا لتغييره والتاثير فيه، نضفي عليه عواطفنا وننتظر ان يمتثل لرغباتنا، فتغدو الحقيقه ذاتيه متلونه وفق مقتضيات الامزجه وجريان الاحوال.

وبغض النظر عن مدي جوده كل ما ينتج علي انه شعر، فاننا نتساءل: من اين لنا هذا الكم الهائل من الشعر والشعراء؟ اليس لاننا عاطفيون اكثر مما يلزم؟ اليس ذلك سببًا كافيًا لتاول سياستنا فنونًا في الخطابه، وقضايانا ضربًا من حماسه، وتعليمنا القاء وحفظًا، وعلومنا لغه وفقهًا، واقتصادنا بركه وتوكلًا، وتُبني مواقفنا من النظره الاولي حبًّا وكرهًا؟ واذا كان جلّنا شعراء فمن اين لنا بالعلماء؟

لا يعني ذلك اننا نتبني موقفًا سلبيًّا من الشعر في حد ذاته، بوصفه احد اشكال التعبير والابداع الانسانيين، واحد الاجناس الثقافيه والتنويريه. وربما كان لمعظمنا محاولاته الشعريه، لا سيما في مراحل الصبا والمراهقه، عبر من خلالها عن عواطفه وانفعالاته المتنوعه من حزن وشوق وهيام وغيرها، لكن ادركنا مبكرًا ايضًا، ان التعبير عما يختلج صدورنا وقراءه ما يدغدغ عواطفنا، لا يكفي لمعالجه قضايانا ومشكلاتنا اليوميه. وهي حالنا اليوم مع همّنا الثقافي العام، حين يتعلق الامر بقضايانا ومشكلاتنا الكبري العالقه والمعلقه.

لا شك ان الشعر والفن عمومًا احد اشكال الوعي، لكن ان يُختزل وعينا شعرًا وفنًّا فتلك هي المشكله. و اذا اخذنا بعين الاعتبار انه حتي وقت قريب كانت حصه الفرد العربي من القراءه (6) دقائق سنويًّا، واذا كان معظم ما ينتج ويقرا عربيًّا، هو الادب والشعر، فاي حيز بقي لانتاجنا المعرفي الفكري والعلمي؟ وكانك امام "رساله الغفران" لصاحبها ابي العلاء المعري، وقد تجسدت واقعًا، حيث لا تجد عند اهل الجنه ولا عند اهل النار وما بينهما، سوي الشعر قرضًا وتداولًا، ولا تكاد تجد بين كل هؤلاء واولئك من هم اصحاب علم او سياسه.

هل انجزنا ما يكفي في مستوي الدلاله الحقيقيه لنغرق حتي الاذنين انتاجًا واستهلاكًا في الدلاله المجازيه وما فيها من فائض في السرد والمحسنات والمفردات؟ الم يقل النفّري يومًا: "كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العباره"؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل