المحتوى الرئيسى

إندونيسيا.. التجربة الأكثر إعجازًا بين النمور الآسيوية

09/03 12:49

اما لماذا هي الاكثر اعجازا.. فلانها كانت هي الاكثر تخلفا.. ففي منتصف القرن الماضي عندما نالت استقلالها عن هولندا كان متوسط دخل الفرد السنوي بها هو ٥٠ دولارا بينما كان المتوسط في الهند ١٠٠ دولار وفي مصر ٢٠٠ دولار.. وقد وصف احد الكتاب الغربيين اندونيسيا في ذلك الوقت بانها «مستنقعات يسبح فيها العراه وتعج بالناموس والحشرات الناقله للامراض وتتفشي فيها الامراض المستوطنه والاوبئه».

يضاف الي ذلك الموقع الجغرافي الصعب فهي ارخبيل مكون من سته الاف جزيره ماهوله بالسكان واكثر من عشره الاف جزيره غير ماهوله.

وتمتد عبر ثلاث مناطق زمنية وتمتد عبر مساحه تقطعها الطائره النفاثه في ست ساعات.. ولك ان تتخيل مقدار الصعوبات التي تواجه بسط سيطره الحكومه علي هذا الاتساع وضبط الامن في هذه البقاع التي لا يمكن الوصول اليها الا من خلال البحر او الجو.

وفضلا عن ذلك فان عدد السكان يربو علي المائتي وثلاثين مليون نسمه، والتركيبه السكانيه متعدده الاعراق والاجناس واللغات.. وقد ظلت اندونيسيا «او ما كان يعرف قبل الاستقلال بجاوه وسومطره» ظلت بدون لغه قوميه حتي عام ١٩٢٨ عندما قررت حركه وطنيه مدنيه اعتماد لغه الملايو كلغه قوميه في اندونيسيا.. لذلك فان اللغه الاندونيسيه يتعلمها الاطفال في المدارس وليس في البيوت التي يتحدثون فيها باللغات القبليه.

الاسلام كان له الفضل الاكبر في توحيد هذه القبائل وهذه اللغات واللهجات بالاضافه الي الشعور الوطني الذي ارهفته الرغبه في مقاومه الاستعمار والاحتلال الهولندي.

وقد قاد سوكارنو هذه الحركه الوطنيه التي سرعان ما تحولت الي حركه مقاومه مسلحه لمقاومه محاولات هولندا اعاده احتلال اندونيسيا، واعلن سوكارنو استقلال البلاد في ١٧ اغسطس ١٩٤٥.

ودار قتال ضار مع قوات الغزو الهولنديه والبريطانيه التي نجحت في احتلال جاكرتا واوهمت العالم ان حركه سوكارنو هذه ما هي الا «مذياع في الادغال» لذلك كانت الحركه الوطنيه في امس الحاجه الي الاعتراف الدولي ولو من قبل دوله واحده.

وقد كان.. فقد كانت مصر هي اول دوله في العالم تعترف باستقلال اندونيسيا الامر الذي اعتبرته هولندا عملا عدائيا، وقد قررت مصر اعطاء هذا الاعتراف زخما عمليا وقانونيا وذلك من خلال ايفاد مبعوث خاص لابلاغ الحكومه الوطنيه بهذا القرار وصدرت التعليمات لقنصل مصر في بومباي محمد عبدالمنعم «المعروف جدا في اندونيسيا حتي هذه اللحظه» بالتوجه الي ادغال اندونيسيا في طائره داكوتا مستاجره وفي رحله محفوفه بالمخاطر.

ولم تكتف مصر بذلك بل وجهت الدعوه لوفد اندونيسي الذي استقبل في مصر بحفاوه شعبيه ورسميه بالغه تجاوزت حدود المراسم المعتاده حيث قام الملك فاروق باقامه مادبه رسميه علي شرف الوفد، وقامت الحكومه بتوقيع معاهده صداقه مع اندونيسيا، وهي اول معاهده دوليه في تاريخ اندونيسيا.

وعندما وصلت الي جاكرتا بعد خمسه واربعين عاما علي هذه الواقعه وجدت الكثيرين يذكرون محمد عبدالمنعم مبعوث الحكومه المصريه بل ان اسم «مستر مونعم» معروف لدي العامه، وعندما حل العيد الخمسين لاستقلال اندونيسيا قررت الحكومه الاندونيسيه منح اسمه اعلي اوسمه الدوله وكذلك اسم المرحوم محمود فهمي النقراشي واسم المرحوم عبدالرحمن عزام امين الجامعه العربيه الاسبق الذي سعي لاستصدار قرار من الجامعه العربيه للاعتراف الجماعي باندونيسيا.

وهكذا تري ان لمصر رصيدا ضخما لدي الشعب الاندونيسي يضاف الي رصيد الاسلام والازهر ولا يمكن لمن لم يزر اندونيسيا ان يعرف مقدار وقيمه الازهر لدي الشعب الاندونيسي التي تكاد تبلغ درجه التقديس، والإسلام في إندونيسيا معتدل بوجه عام.. والتطرف العنيف مستجلب من الخارج والغلو في الدين يكاد ينحصر في منطقه «اتشيه» في الطرف الشمالي من جزيرة سومطرة، وبالرغم ان المسلمين يشكلون ٩٠٪ من السكان بينما يتوزع العشره بالمائه الباقيه علي المسيحيين والهندوس والبوذيين واللادينيين، الا ان جميع الاديان تعامل رسميا علي قدم المساواه.. ففي وزاره الشئون الدينيه يوجد وكيل وزاره يختص باحد الاديان، كما ان رئيس الدوله يشارك في الاحتفالات الرئيسيه لجميع الاديان وفضلا عن ذلك فهناك الفلسفه الرسميه للدوله التي تسمي «البانشا سيلا» وتعني المبادئ الخمسه التي يلتف حولها المجتمع الاندونيسي بكل طوائفه التي تدرس في المدارس ويبدا كل احتفال رسمي بتلاوتها التي تضم مبدا الايمان بالاله الواحد ومبدا الوحده من خلال التنوع.

لعل هذا التماسك المجتمعي هو اهم عناصر الطفره التنمويه التي حققتها اندونيسيا التي قفزت بمتوسط دخل الفرد من ٥٠ دولارا عام ١٩٥٠ الي ٤٤٠٠ دولار حاليا واصبح اقتصادها الثامن عشر دوليا من حيث الناتج المحلي والخامس عشر من حيث القوه الشرائيه واصبحت عضوا في مجموعه العشرين التي تضم الاقتصاديات الرئيسيه في العالم وهي تعتبر اكبر اقتصاد في جنوب شرق اسيا.. صحيح ان اندونيسيا تمتلك موارد طبيعيه هائله من النفط والغاز والنحاس والذهب، وكان لارتفاع اسعار النفط في السبعينيات اكبر الاثر من دفع نمو الاقتصاد القومي، الا ان الطفره الحقيقيه جاءت في الثمانينيات من خلال القضاء علي الروتين الحكومي من خلال سياسه الـDeregulations اي تبسيط اللوائح، فبعد ان كانت صادرات النفط تمثل ٨٠٪ من الصادرات، اصبحت الان الصادرات غير النفطيه هي التي تمثل ٨٠٪ من مجموعه الصادرات دون ان تقل صادراتها النفطيه، ويكفي ان تعلم ان ميزانها التجاري مع امريكا مثلا يحقق فائضا يتجاوز الثمانين مليار دولار.

بقي موضوع مهم.. يهم البلدين.. ارجو ان يتطرق اليه الرئيس السيسي في زيارته التاريخيه لهذا البلد الشقيق، وهو موضوع تنقيه التراث الاسلامي ولا اقول تجديد الخطاب الديني لانه اذا ظل التراث الاسلامي علي حاله فلن يتغير الخطاب الديني.

والحل يكمن في تطبيق الاستراتيجيه الثقافيه للعالم الاسلامي التي اصدرها مؤتمر القمه الاسلامي التاسع في داكار عام ١٩٩١ ولم تُفعل حتي الان بالرغم من صدورها بالاجماع.. اي انها تحمل موافقه رؤساء مصر واندونيسيا وجميع دول العالم الاسلامي.

والاستراتيجيه الثقافيه هذه تطالب بتنقيه التراث الاسلامي من خلال اعاده النظر في هذا التراث دون وجل ودون محظورات ودون اضفاء هاله التقديس عليه، فلا شيء مقدسا سوي وحي السماء اي القران وهذا بنص قرار القمه الاسلاميه الذي يضيف بان الامم التي لا تراجع تراثها وتاريخها مراجعه نقديه لن يكتب لها التقدم والازدهار.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل