وائل نصر الدين يكتب: التأثير الفارسي في العقل الأخلاقي العربي | ساسة بوست

منذ 1 دقيقه، 2 سبتمبر,2015

مجرد ان بدات في قراءه كتاب ( العقل الاخلاقي العربي ) عرفت السبب الذي جعل الجابري ـ رحمه الله ـ احدث دويا في مسار الثقافه العربيه اقوي من دوي مدافع نابليون وهي تدمر حصون مدينة القاهرة في الحملة الفرنسية اواخر القرن الثامن عشر الميلادي , و هذا الكتاب في رايي هو اهم كتب الجابري مطلقا بعد كتاب بنيه العقل العربي فقد توصل الجابري الي السر الاعظم في الحضاره العربيه والاسلاميه وهو ان العلماء المسلمين من اصول فارسيه من امثال الماوردي والغزالي وابن قتيبة الدينوري لم يدفنوا اباهم اردشير، بل قاموا باعاده انتاج النظريات الاخلاقيه الفارسيه، ولكن بعد اسلمتها .

يقول الدكتور محمد عابد الجابري ( العقل الاخلاقي العربي هو عقل متعدد في تكوينه، و لكنه متوحد في بنيته ) اي ان العقل العربي الاسلامي منذ عصر التصنيف ( عام 130هـ ) الذي تلا عصر الفتوحات مباشره برز ( الموروث الفارسي و الموروث اليوناني و الموروث الصوفي ( الغنوصي ) و الموروث العربي الجاهلي و الموروث الاسلامي ) كمكونات رئيسه واساسيه في الرؤيه الاخلاقيه للحضاره العربيه و الاسلاميه، والعجيب ان كلا من هذه المكونات كان امتداداً لثقافه حضاريه قديمه اخذ كل منها موروثه ووضع بصمته في العقل الاخلاقي العربي .

يبحث دكتور محمد عابد الجابري في هذا الكتاب الاختلاف بين كلمه ادب وكلمه اخلاق ويكتشف الدكتور الجابري مفاجاه كبري: هي ان كلمه ادب تستخدم في الاثار المترجمه عن الفارسيه وكلمه اخلاق تستخدم في الاثار المترجمه عن اليونانيه!

يقول صاحب زهره الاداب ( الاداب عشره: ثلاث شهرجانيه و ثلاث انوشروانيه وثلاث عربيه وواحده اربت عليهن فاما الشهرجانيه فضرب العود و لعب الشطرنج و لعب الصولج، واما الانوشروانيه فالطب والهندسه والفروسيه، واما العربيه فالشعر والنسب وايام الناس، واما الواحده التي اربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس في المجالس ).

و تحدث الدكتور الجابري عن ازمه القيم التي احدثت دويا في عهد سيدنا عثمان بن عفان، وعن الغنائم التي عجز الناس عن استيعاب ارقامها، وعن الطريقه التي اختار بها الفاروق عمر بن الخطاب ولاته علي الامصار، وعن طريقته في تقسيم الغنائم التي كان يقدم بها اقرب الناس الي النبي صلي الله عليه وسلم من اهل السابقه في الاسلام فتكدست في ايديهم الثروات، واما من لا يملكون قبائل والمستضعفين في زمن الدعوه الاول كمثل سيدنا عمار بن ياسر وابي ذر الغفاري فكان نصيبهم من العطاء قليلا بالنسبه لجهادهم و نضالهم من اجل الدعوه الاسلاميه، وبالنسبه لاشراف قريش الطلقاء الذين اسلموا يوم فتح مكه المكرمه فحدث الانقلاب في القيم من الخصاصه والشده في عهد الصديق ابي بكر والشده علي الاغنياء والاشراف واجبارهم علي المقام في المدينه المنوره، الي فيضان الدنيا في عهد ذي النورين، وظهور المنكرات مثل: لعب الحمام وظهور السكاري والاستهتار بالاموال، فالجاريه تباع بوزنها من الفضه، والفرس الاصيل يباع بعشره الاف درهم، و البعير بالف درهم، والنخله الواحده بالف درهم، فمهدت هذه الظواهر لنشوء الفتنه الكبري .

فظهر الصراع بين قيم العهد الاول و هم انصار سيدنا الكرار علي بن ابي طالب، وانصار العهد والفكر الجديدين من اهل الشام وانصار سيدنا معاويه بن ابي سفيان، وانتصر التيار الجديد علي القديم، و كان اول درس تلقاه العقل العربي في الاخلاق والسياسه علي يد معاويه هو الفكر الجبري، وان سبب الهزيمه كان القضاء والقدر لا اكثر ولا اقل، وجاء الدرس الثاني بعد الدرس الاول بخمس وعشرين سنه: هو درس الطاعه علي يد مروان بن الحكم و اسرته، و ترسخ الدرس علي يد الكاتب المبدع عبد الحميد الكاتب الذي اراد ان يقيم القلم مكان السيف، و مع سوء حظه في انه جاء في وقت متاخر غير انه استطاع عبر رسائله البليغه ترسيخ قيم الطاعه في العقل العربي والاسلامي.

فرح بالدروس الامويه بنو العباس، واعادوا انتاج دوله بني اميه عام 134هـ مع بعض القداسه الدينيه بنفس الادوات والسياسات فقد ورث العباسيون من خصومهم الامويين عقلا اخلاقيا تحتل فيه الطاعه القيمه المركزيه والجبر التبرير المثالي، فمجرد ان صعد ابو جعفر المنصور الي كرسي السلطه صرخ في الناس وقال ( انما انا سلطان الله في ارضه اسوسكم بتوفيقه وتسديده وتاييده وحارسه علي مال اعمل فيه بمشيئته وارادته واعطي باذنه وجعلني قفلا ان شاء ان يفتحني فتحني لاعطائكم و قسمه ارزاقكم وان شاء ان يقفلني اقفلني ).

فتحولت الدوله العربيه من دوله قبليه خاليه من الطابع الديني في زمن بني اميه الي دوله توظف الدين من اجل تبرير قيمها واثبات شرعيتها وتوطيد وحدتها في زمن بني العباس .

و في الفصول التاليه لدراسه نظم القيم في العقل العربي يكتشف دكتور الجابري مفاجاه كبري اخري: هي تاثير الملك الفارسي اردشير في العقل الاخلاقي العربي، فعند دراسه تاريخ وسيره هذا الملك العظيم نكتشف ان وصيته التي اشتهرت بعهد اردشير هي العمود الفقري للمنظومه القيم السياسيه في العقل العربي: فالملك اردشير هو الذي استطاع توحيد بلاد فارس وجعل الدين المجوسي الزرادشتي هو الدين الرسمي للدوله الكسرويه، اوصي الملوك من بعده بعدد من الوصايا ابرزها ( واعلموا ان الدين والملك اخوان لا قوام لاحدهما الا بصاحبه؛ لان الدين اس الملك وعماده ، ثم صار الملك حارس الدين فلابد للملك من اسه ولا بد للدين من حارسه ) مع ان اردشير الملك المجوسي صاحب الوصيه قالها لولده ليتعلم من بعده كيفيه توظيف الدين في ابقاء الملك والسلطان اخذها بعض الفقهاء كصاحب احياء علوم الدين ونسبها للحكماء ونسبها بعضهم للصحابه وصالحي التابعين.

ومثال معاصر هذه الوصيه المجوسيه العجيبه نسبها حزب التحرير الاسلامي في بعض منشوراته لابي حامد الغزالي ونسبها فضيله المرشد العام للاخوان المسلمين محمد بديع للامام علي بن ابي طالب! في رسالته في شهر يونيو 2010م ، و تصوروا هذا الاختراق الفارسي للعقل الاسلامي منذ 14 قرنا وحتي الان.

و يقرر اردشير لولده في الوصيه اهميه التحالف مع رجال الدين فيقول ( ياولدي ليس اقوي من الاطاحه بالملك من الدين ) ويقول اردشير لولده ايضا ( ان راس ما اخافه عليكم مبادره السفله اياكم لدراسه الدين وتلاوته والتفقه فيه فتحملكم الثقه بقوه السلطان علي التهاون به فتحدث رياسات متسترات فيمن قد وترتم وجفوتم وحرمتم واخفتم وصغرتم من سفله الناس والرعيه وحشو العامه واعلموا انه لن يجتمع رئيس في الدين مسر ورئيس في الملك معلن في مملكه واحده الا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك؛ لان الدين اس والملك عماد وصاحب الاس اولي بجميع البنيان من صاحب العماد ).

و يقول اردشير المجوسي ( واعلموا ان سلطانكم علي اجساد الرعيه ولا سلطان لكم علي قلوبهم واعلموا انكم ان غلبتم الناس علي ما في ايديهم لم تغلبوهم علي ما في عقولهم )، انظروا الي خطوره هذا الكلام وتاثيره الكبير علي مسار التاريخ الاسلامي ككل ولتعلموا خطوره هذا العهد الكسروي الاردشيري يروي صاحب كتاب الفاضل ان الخليفه عبد الله المامون امر مؤدب الواثق بالله بان يعلمه كتاب الله عز وجل فان فرغ علمه عهد اردشير فان فرغ علمه كتاب كليله و دمنه، وتاثيرات اقوال اردشير علي قرار المامون العباسي بتعذيب الامام احمد بن حنبل وافتعال ازمه ما سمي بقضيه خلق القران التي اراد بها ان يكسر شوكه احمد بن حنبل دون ان يرفع من قيمه اهل الاعتزال؛ لانه كان جبريا وهذا ما ناقشه دكتور الجابري في كتابه: المثقفون العرب والتراث من محنه احمد بن حنبل الي نكبه ابن رشد.

وهناك ملك مجوسي اخر هو الملك انوشروان يروي عنه ابو الحسن العامري انه قال ( ان الله تبارك وتعالي خلق الملوك لتنفيذ مشيئته في خلقه ولاقامه مصالحهم وحراستهم فلذلك نقول انهم خلفاء الله في ارضه، ولمعني اخر جعلهم عالين غير مامورين وحاكمين غير محكومين )، وكلام انوشروان هذا خطير ايضا؛ فقوله ان الحكام هم ظل الله في ارضه وانهم ينفذون المشيئه، وردت علي لسان ابي جعفر المنصور في خطبه البيعه في صدر هذا المقال، وقوله ان الحكام عالين حاكمين غير محكومين تذكرني بافعال يزيد بن عبد الملك الذي صدق ان الخلفاء ليس لهم ثواب ولا عقاب.

يقول الملك المجوسي انوشروان ( ان قوام الملك انما هو بالدين فان ضعف الدين ضعف الملك ويجب عليهم ان يقووا اركان الدين، وان يبينوا اركان الفقه فان الفقه هو القائد للقول بالاخره و يجب عليهم ان يقيموا العدل الذي به صلاح الدين والمملكه فان العدل اساس الملك و هو سبب عماره الارض و الجور سبب البوار و الخراب).