كتّاب: «أحلام فترة النقاهة» خلاصة إبداع نجيب محفوظ.. وإضافة لمسيرة السرد العربى «2»

في الحلقه السابقه نشرنا ردود افعال علي نبا استعداد «الشروق» نشر جزء ثان من «احلام فتره النقاهه»، وبخاصه نشر خطاب د. يحيى الرخاوي للمهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، والذي شكر فيه المعلم قائلا: «شكرا، واحتراما، وتحيه، ودعاء، جزاكم الله عن شيخنا، ومصر، والثقافه خيرا. تقديرا لثقتكم الغاليه، وبعد نشر التحقيق المهم المنشور في جريدة الشروق عن هذا العمل المهم «احلام فتره النقاهه»، وخصوصا ما جاء فيه علي لسان الحاج صبري، اكرمه الله، قمت بما شرفت بتكليفي به وقرات العمل قيد الطبع، وحمدت الله، واشكركم مره اخري علي هذه الثقه، وهذه الفرصه». وفي السطور التاليه ننشر بقيه اراء الكتاب والادباء حول «احلام فتره النقاهه»: د. شاكر عبدالحميد، زير الثقافه الاسبق، والناقد الكبير د. صلاح فضل، والروائي ابراهيم فرغلي، والكاتب الشاب وجدي الكومي.

شاكر عبدالحميد: الاحلام حكمه ابداعيه بديعه لكل ما كتبه محفوظ

في احلامنا فقط نكون صادقين. هذا ما قاله الفيلسوف الالماني «نيتشه»، اما جلجامش فيطالب في اسطورته الجبل ان ياتي لصديقه «انكيدو» بحلم مطمئن فيقول له: «يا ايها الجبل يا موطن الالهه ارسل حلما لانكيدو، ابعث اليه بحلم مطمئن». وفي سياق اخر يقول «نينورتا» اله الابار في هذه الاسطوره: «ثم اني لم افش سر الالهه، فقد عرفه الرجل الحكيم في الحلم»..

هكذا كان نجيب محفوظ، فيما اعتقد، يبحث خلال فتره النقاهه، عن حلم مطمئن؛ حلم مطمئن له ولوطنه، كما انه كان قد وصل الي اعلي مراتب الابداع والشهره وتحقيق الذات والحكمه. وهكذا كانت احلامه هذه تسعي وراء طمانينه مفتقده، وتجسد ايضا حكمه راسخه تراكمت لديه في وعيه ووجدانه عبر كثير من الخبرات والسنين والكتابات.

فطالما اهتم محفوظ في عمله بالملاحظه والادراك والالتقاط والتحليل والرصد والتجسيد للجوانب الخفيه من النفس البشريه.

وقد ادرك محفوظ ذلك ورصده هذا علماء ونقاد بارزون منهم، تمثيلا لا حصرا: يحيي الرخاوي، عز الدين اسماعيل، فرج احمد فرج، وابراهيم فتحي، وغيرهم.

كما ان الكثير من عناوين محفوظ تعكس هذا الولع لديه بالجانب الخفي من النفس البشريه، ومنها تمثيلا لا حصرا: همس الجنون، السراب، المرايا، رايت فيما يري النائم.

الحلم بشكل عام قد يمثل ذاكره للنهار تتجلي خلال الليل، هذا راي «فرويد». وعند يونج الحلم اداه للتنبؤ بالمستقبل، والحلم كذلك اسلوب مواجهه لاوجاع الحياه وامراضها. ووسيله ايضا للنقاهه من هذه الاوجاع والامراض.

وقد عكست «اصداء السيره الذاتيه» هذه الوظائف الثلاثه للحلم: ذاكره الماضي، والتنبؤ بالمستقبل، واسلوب مواجهه للاوجاع والامراض.

وفي هذا السياق اتوقع ايضا ان يكون الترحيب والفرح والاحتفاء كبيرا من القراء عامه والنقاد والدارسين ايضا بصدور الجزء الثاني لـ «احلام فتره النقاهه» عن دار الشروق في زمن اصبح فيه الولع بنجيب محفوظ، وكل ما يمثله علامه مميزه للمزاج المصري ونموذجا وقدوه تدعو الي الفخر لدي كثير من المصريين والعرب ايضا.

في هذه الاحلام يقدم لنا نجيب محفوظ عالما موازيا رمزيا ليليا لعالم الحياه النهاريه الحاليه والماضيه الخاصه به وبالاخرين؛ لحياته وذكرياته وامنياته وعلاقاته ورغباته واحباطاته وافراحه واحزانه. وفي هذه الاحلام نجد تداخل الامكنه والازمنه والبشر والانفعالات والذكريات ونجد عالما خصبا يموج بالحركه، فنجد وسائل نقل: الترام والدراجات والقطارات والطائرات والسفن، وكذلك الحركه الخاصه بالراوي او السارد من خلال المشي في الشوارع او عبر الاحلام. في احد الاحلام الذات تعبر عن رغبتها في الطيران من السعاده بلا اجنحه، ونجد الاماكن والمكاتب والقصور وغرف المستشفيات. ومن بين هذه الاماكن يبرز البيت وتبرز الرغبه في العوده اليه في كثير من الاحلام، حيث نجد هنا رغبه غلابه متكرره دائمه البحث عن البيت الاليف والمالوف الذي يبعث الشعور بالطمانينه ورغبه ايضا مصاحبه في الابتعاد عن تلك البيوت المخيفه الموحشه غير المالوفه او الاليفه. وهنا البيت يرتبط رمزيا بوطن امن مستقر لا ذلك الوطن الذي يتصارع فيه الجميع عليه حتي يتحول الي ما يشبه الجثه الهامده او الهيكل العظمي.

وهكذا نجد في احلام كثيره لدي محفوظ بيوتا تخلو من البشر والحركه والحميميه لكنها تزخر ايضا بالذكريات والامنيات والرغبات. وترتبط الاماكن في الاحلام ايضا بالانفعالات ومنها تمثيلا لا حصرا: انفعالات القلق والحزن والحيره والضيق والشرود الذي يتحول الي حسره ورعب شامل.

نادرا ما تكون الذات موجوده في الاحلام بمفردها، وانما ثمه اخر: الحبيبه الجميله الغائبه والتي غالبا ما تكون قد ماتت، وهناك الام والاصدقاء والمعلمون وافراد الاسره وبعض الزعماء» خاصه سعد زغلول ومصطفي النحاس، وبعض النقاد.

وهناك رغبه مستمره في العوده الي مرحله الشباب والقوه والماضي والامن النسبي في مواجهه حالات الشك والحيره والالتباس وغياب اليقين بشكل عام. الاب غائب تقريبا في الاحلام، اما الام فحاضره في اكثر من حلم. وغياب الاب قد يرتبط بغياب السلطه او القيد او الرقابه او الحمايه والطمانينه بشكل عام في حياه اليقظه. هناك اختفاء لشخصيات وظهورهم مره اخري، وعوده الموتي لتصحيح اخطاء ارتكبوها او ارتكبها غيرهم. هذه ليس مجرد احلام فقط بل فيها كوابيس فتره النقاهه ايضا، هناك موت وخوف وقلق، وبيوت تحترق وجرائم وحيوانات متوحشه وفزع ليلي. بنيه الاحلام متماسكه ونهايتها مفتوحه غير مغلقه لكنها تقبل تاويلات عده، حالات من الترقب والارهاص الخفي بما قد يكون موشكا علي الحدوث بشكل عام، فهي تعكس حاله من البحث عن حلم مطمئن للناس جميعا ولكل المجتمع المصري، وتجسد ايضا حكمه ابداعيه جميله لكل ابداعات محفوظ واحلامه بشكل خاص.

ابراهيم فرغلي: نجيب محفوظ لا ينتهي!

احلام فتره النقاهه في تقديري هي واحده من اهم النصوص في الادب العربي المعاصر، لانها بقدر ما تبدو نصوصا تخييليه علي تخوم الاساطير والحكمه والعجائبيه، فانها تبصر الواقع وتراه بشكل يكشف مدي قوه البصيره التي يمتلكها نجيب محفوظ. ففي هذه النصوص المكثفه المتوازنه بدقه بين مضمونها ودلالاتها، يبدو انه يتغول في غابات خياله بعيدا الي ذكريات الطفوله والصبا فيما هو يغزل لنا ممرا سرديا بديعا بين رؤاه وبين حيواتنا نحن، لكي نري بها واقعنا.

انظر مثلا ما يقوله عم نجيب في واحده من احلامه:

«الشارع الجانبي لا يخلو من ماره واناس في الشرفات، والسيده تسير علي مهل، وتقف احيانا امام معارض الازياء. يتعرض لها اربعه شبان دون العشرين، تتجهم في وجوههم وتبتعد عن طريقهم، ينقضون عليها ويعبثون بها، تقاوم والناس تتفرج دون اي مبادره. الشبان يمزقون ثوبها ويعرون اجزاء من جسدها. السيده تصوت مستغيثه. راقبت ما حدث، فتوقفت عن السير، وملكني الارتياع والاشمئزاز، وودت ان افعل شيئا او ان يفعله غيري، ولكن لم يحدث شيء. وبعد ان تمت الماساه وفر الجناه، جاءت الشرطه، وتغير المكان، فوجدت نفسي مع اخرين امام مكتب الضابط، واتفقت اقوالنا. ولما سئلنا عما فعلناه كان الجواب بالسلب، وشعرت بخجل وقهر، وكانت يدي ترتجف وهي توقع بالامضاء علي المحضر».

كانه شهد معنا الوقائع المخزيه التي صحبت الثوره وربما قبلها وصولا لما يحدث اليوم من وقائع تحرش مخزيه بالمراه المصريه تعبر عن حال من البؤس النفسي والانحطاط (لا يوجد وصف اخر لفعل التحرش بالمناسبه)، الذي بلغه قطاع لا يستهان به ممن يطلق عليهم رجال او شباب في مصر. كان محفوظ يعرف ان سلبيه الشعب المصري امام مسئولياته تجاه نفسه وشرفه وحقه لا يمكن الا ان تسفر عن وقائع انتهاك كهذه.

وصحيح انه تم الاحتفاء بالاحلام عبر نشرها مسلسله مطولا في نصف الدنيا والكتابه الاحتفائيه عنها بعد نشرها في كتب، لكني لا اظن ان هناك دراسه نقديه موضوعيه خاضت فيها بشكل عميق يتناسب مع اهميتها. واظن ان دراسات من هذا النوع ستكون قادره علي كشف الكثير من حيث المضمون والدلالات الرمزيه من جهه، ومن حيث الاسلوب ايضا خصوصا وانني فهمت ان عم صبري الذي كان الاستاذ نجيب يقوم باملائه هذه النصوص بعد ان فقد القدره علي الكتابه يقول ان محفوظ كان يحفظها ثم يمليها عليه.

بالتالي فان قرار الشروق نشر مجموعه الاحلام الجديده، خبر جيد، لانه بالاضافه لانه سيضم نصوصا جديده من المهم ان يطلع القارئ المصري والعربي عليها خصوصا ان الاستاذ نجيب كان قد اعدها للنشر، فانه قد يكون فرصه جيده لاهتمام النقاد بدراسه هذه النصوص بشكل فيه من الجديه ما يتناسب مع جدتها واضافتها لمسيره السرد العربي المعاصر.

الصديق سيد محمود رئيس تحرير صحيفه القاهره قال لي مره ونحن نتحدث عن سيده الغناء العربي ام كلثوم انها لا تنتهي، وانا بدوري اقول ان نجيب محفوظ لا ينتهي، ليس لان اعماله لم تقر اجيدا رغم كل هذا الصخب والضجيج، بل لان جيلا جديدا واعدا سوف يقراها بروح مختلفه ويضيف لنا دلالات جديده لم ننتبه لها، كما ان مثل هذه النصوص الجديده التي اكتشفت بعد ما يناهز عشره اعوام علي رحيله تاكيد اخر لانه لا ينتهي، طابت روحه اينما كان.

صلاح فضل: محفوظ في احلامه سكب عصاره خبرته المتجوهره

اسس محفوظ بعبقريه النمل الدءوب ديوان الروايه العربيه وانتزع شرعيتها من يد الجيل السابق عليه بانتاجه المتواصل ومشروعاته المتراكبه، كان يعرف انه ابن ثقافه تقدس نشوه الشعر وتعشق وجيز الكلمات وماثور الحكم، وكان هو نفسه يمتلك طاقه شعريه فذه عرف كيف يوزعها بعدل علي مواقفه وتقنياته وكلماته، وامتص بجذره الممتد في عروق الادب شعريه الكتابه وفلسفتها منذ الجاحظ حتي طه حسين، والتمس غذاءه المبكر في اغوار الاثار الفرعونيه التي فتنته، فشرع في احتضانها بوعيه الانساني المعاصر ورؤيته الماديه العلميه للتاريخ.

ابتكر محفوظ الاسلوب الشفاف الذي لا تشعر بكيانه اللغوي ولا تصدم بجسده المجازي، فهو يذيب طيات الدهن البلاغي المتراكم في اعطاف التعبير، ليصب نموذجا زجاجيا صافيا يشف بشكل مباشر عن الشخصيات والمواقف والنبرات والاصوات، دون ايه شائبه تشعرك بجسمها الحامل لهذه السوائل الملونه، فيعيد تشكيل العبارات العاميه بترتيب نحوي بسيط يدخلها منظومه اللغه العربيه الموحده، القادره علي التوصيل بكفاءه عاليه وانكار واضح للذات.

تحول نجيب محفوظ ـ في اعماله التاليه للمرحله الواقعيه وهو ابن الثقافه العربيه المفعمه بعبق الشعر والتكوينات البلاغيه الساحره ــ الي صياغه اسلوب ثالث مختلف عن تجاربه السابقه في الاسلوبين الفخيم والشفيف، عندما اخذ ينقش شعريته الخاصه في لون من الارابيسك المكثف المتميز، بلغ ذروه اتقانه في درته الكبري الحرافيش، التي لم يكتف فيها باعاده اكتشاف شعريه اللغه العربيه، بل غازل اسرار الشعر الفارسي المنشد في التكايا، لاضفاء مسحه صوفيه رائقه علي المواقف المصوره، وصولا الي المرحله الرابعه في اسلوب محفوظ وهي الاخيره عمليا، والخلاصه المقطره لعتاقه تجربته الجماليه في اللغه، فهي المرحله الماسيه لا لانه كان قد بلغ فيها ثلاثه ارباع قرن من الزمان في عمر كتابته فحسب، ولكن؛ لانها تتوهج بتلك القطع الفريده النادره، المفعمه بالحكمه والاشارات الرمزيه والالوان الباهره المتعدده، التي اصبحت فيها الكاس جسد الفن الثمين وقيمته الغاليه باكثر مما يتراءي فيها من شراب. ويتجلي ذلك في «احلام فتره النقاهه» واصداء السيره الذاتيه، التي سكب فيها عصاره خبرته المتجوهره، وكما تكون اللالئ نتيجه عبقريه لفعل الزمن، حتي في محنه العظمي، وتفاعل المواد وتراكم الوعي الجمالي بايقاعات الحياه واللغه، فان محفوظ في هذا التبلور الفائق قد عبر طبقات اللغه المصريه جيولوجيا، منذ عصر الفراعنه والعروبه حتي العصر الحديث، ليعكس فيها نضره الروح ونعيم الفن الجميل.

وجدي الكومي: كثيرون يثيرون الضجيج.. قليلون يعيش ابداعهم

من حسن حظنا كقراء مصريين وكمحبي للكتابه ان يعاد اكتشاف عمل عظيم للمبدع الكبير الراحل نجيب محفوظ ــ اقصد هنا اكتشاف باقي العمل العظيم الذي صدر بالفعل قبل رحيله ــ والذي جاء في شكل ومضات قصيره، تلغرافيه، تدق في هدوء وحزم في ان علي قالب السرعه والتكثيف الادبي، والايجاز المطلوب، وتحقق المشهديه الادبيه، وتختصر رؤي في كلمه، الاحلام واحده من انجازات نجيب محفوظ الكبري في فن السرد، والتي كتبها في السنوات الاخيره من حياته، وان تكتشف ابنتاه الان اكثر من مائتين وخمسين حلما كتبهم الراحل، ولم يتم جمعها في كتاب، فهذا اقل ما يوصف بانه كنز ادبي خالص.