مخابرات كرة القدم

لست بصدد التافف مما جري من مخاز كرويه عربيه بين مصر والجزائر، ولا بصدد البكاء علي القومية العربية وما الت اليه جهالات الامه، وانما بصدد انظمه عربيه لا تستطيع ان تستمر في الحكم الا بجهل الناس وسذاجتهم، وبتفوق انفعاليتهم علي كل ما هو عقلاني. فما جري بين الجزائر ومصر ليس امرا غريبا علي الساحه العربيه، فقد سبق لجماهير اردنيه ان هتفت لشارون (سير سير يا شارون، انت بغزه واحنا هون) ضد الفلسطينيين داخل الملعب بسبب مباراه كرة قدم، وسبق ايضا ان توترت الاوضاع بين الجزائر ومصر قبل عشرين عاما بسبب الكره.

الكراهيه والحقديه لم تعد تقتصر علي الشعوب العربية، وانما امتدت لتشمل القُطر الواحد، ولتمزق وحده القطر الشعبيه

كره القدم ليست هي الوحيده التي تثير البغضاء والكراهيه بين الشعوب العربيه، وليست هي السبب في تمزيق الامه، او هي المظهر الوحيد للغباء او التغابي، او التغبيه لسلوك شعوب عربيه تتبادل الاحقاد والكراهيه دون ان تعلم لماذا، او بالاحري لان رجل السياسه لا يهنا له بال الا اذا بقيت الامه ممزقه. الكراهيه متبادله بين الفلسطينيين والاردنيين، بين المغاربه والجزائريين، بين السودانيين والمصريين، بين العراقيين والكويتيين، بين الكويتيين والفلسطينيين، بين اللبنانيين والسوريين، بين القطريين والنجديين، الخ.

حتي ان الكراهيه والحقديه لم تعد تقتصر علي الشعوب العربيه، وانما امتدت لتشمل القطر الواحد، ولتمزق وحده القطر الشعبيه. مصر تعاني من التوتر بين الاقباط والمسلمين، بين الصعيدي والبحيري؛ والسودان بين الشمال والجنوب، بين المسلم وغير المسلم، بين العربي وغير العربي؛ اليمن بين الحوثي وغير الحوثي، بين الشمال والجنوب؛ الاردن بين اربد والكرك، بين فلسطيني واردني؛ فلسطين بين غزه والضفه، حمساوي وفتحاوي؛ سوريا بين حلب والشام؛ لبنان بين الشمال والجنوب، بين السني والشيعي، بين مسيحي الشمال ومسيحي الوسط؛ العراق بين كل واحد والاخر، الخ.

يذكر كبار السن من امتنا العربيه كيف كانت مراكش تخرج في تظاهرات اذا اصاب ابن البصره مكروه، وكيف كانت وهران تتضامن فورا مع عمّان، والقاهره الهادره عندما تتاذي دمشق؛ وبغداد الثائره عند كرامه القيروان. ونحن نذكر كيف ان الموانئ العربيه تعطلت في بدايه الستينيات عندما رفض عمال ميناء نيويورك تنزيل حموله شحن مصريه لاسباب سياسيه، فاضطرت اميركا الي الانصياع لان كل سفنها في الموانئ العربيه تعطلت حركتها. ونحن نذكر تماما وقفه الامه مع مصر في حرب السويس، ووقفه العرب مع الجزائر في ثورتها ضد الفرنساويين. انا اذكر تماما كيف كنا نتسابق ونحن في المدرسه الابتدائيه علي تقديم التبرعات النقديه للجزائر، وكلنا كنا نتشوق للقتال من اجل الحريه. واذكر كيف كان الفلسطيني يحمل صندوق التبرعات فيمتلئ مالا من شارع واحد فقط في بيروت او الاسكندريه او الدار البيضاء، كان الناس يتبرعون بسخاء.

اغلب تلك الصور الجميله التي كانت تبشر بوحدة عربية حصينه ومنيعه انقلبت الان، لتستعد الشعوب والحكومات لخوض حروب عربيه عربيه من اجل مباراه كره قدم.

لم يكن من الممكن للظروف الموضوعيه التي تحكم الانظمه العربيه الا ان تفرز سياسات عربيه معاديه للامه العربيه ومن ضمنها سياسات التجهيل والاصرار علي التخلف بخاصه التخلف الاجتماعي، وبث الكراهيه والبغضاء بين الناس علي المستويين القُطري والقومي

الانظمه العربيه جميعها عباره عن انظمه استبداديه شهوانيه قمعيه، وهي تحكم بالحديد والنار، ولا تستطيع الاستمرار في الحكم الا ابقت الشعوب جاهله انفعاليه لا تستخدم عقولها. ونحن نعرف من التاريخ كيف يتبع المستبد دائما سياسات الكذب والتضليل، وسياسات فرق تسد من اجل ان يبقي متربعا علي كرسي الحكم. هذه الانظمه كانت تتحدث في الخمسينيات والستينيات عن الوحدة العربية في وسائل اعلامها، وكانت توهم الجماهير بانها تسعي حثيثا نحو بناء امه موحده قويه كريمه، وطالما كانت تتحدث عن التقدم في مختلف مجالات الحياه. لكن من الواضح انها كانت فقط تتساوق مع المزاج العام لجماهير الامه، وكانت في نفس الوقت تنفذ سياسات تمزق ولا توحد، تفرق ولا توحد. وهذه حقيقه لم تكن لتخفي علي الذين كانت لديهم القدره علي التحليل وربط العلاقات الجدليه المنطقيه، وكان من السهل تفسيرها بناء علي ماهيه الانظمه العربيه والتي يمكن تصنيفها كالتالي:

1- هناك انظمه عربيه صنعها الاستعمار البريطاني، او الغربي، عموما واقتطع لها جزءا من هذا الوطن الكبير لتبقي اداه بيده. هذه هي الانظمه القبيليه العائليه التي لا يمكن ان تكون مع الامه الا بقضايا ثانويه وشكليه لانها موجوده لخدمه الاستعمار وليس لخدمه الامه، واذا تناقضت مصلحه الاستعمار (ومعه اسرائيل) مع مصلحه الامه، فالاولويه لمصلحه الاستعمار؛

2- هناك انظمه عربيه لا تستطيع صرف رواتب موظفيها نهايه الشهر الا اذا حصلت علي المعونات الشهريه من الدول الاستعماريه الغربيه، او الا اذا قدمت لها الدول العربية الثريه باذن من الاستعمار بعض المال، وذلك مثل الاردن والسلطه الفلسطينيه واليمن ومصر الي حد ما، وموريتانيا؛

3- هناك انظمه عربيه لا تستطيع الاستمرار بدون حمايه عسكريه من الاستعمار الغربي، ومستقبلها مرهون باراده هذا الاستعمار ومعه اسرائيل؛

4- باقي الدول العربيه التي لا تندرج تحت اي من التصنيفات اعلاه عباره عن انظمه استبداديه لا تصلح للوحده والتقدم، وهي تتحول تدريجيا الي انظمه قبليه وراثيه.

لم يكن من الممكن لهذه الظروف الموضوعيه التي تحكم الانظمه العربيه الا ان تفرز سياسات عربيه معاديه للامه العربيه ومن ضمنها سياسات التجهيل والاصرار علي التخلف بخاصه التخلف الاجتماعي، وبث الكراهيه والبغضاء بين الناس علي المستويين القُطري والقومي. ولهذا ليس من المستغرب ان الانظمه السياسيه لها ضلع مباشر في اقتتال الشعبين الجزائري والمصري. النظامان المصري والجزائري فاسدان يهدران طاقات الامه وثرواتها، ويستفردان في الحكمين، ويقصيان اصحاب الاراء المخالفه والمعارضه، ويعتقلان المعارضين ويعذبان ويقطعان الاوصال. الشعب المصري يئن من الجوع والفقر وسوء الاحوال الصحيه والتعليميه، ومقابر امواته تغص بالاحياء؛ اما الشعب الجزائري الذي من المفروض ان يكون من الشعوب الثريه ما زال يعاني من البطاله ومن سياسه التجهيل والفرنسه. النظامان مستبدان، ومجالس الشعب لا تقوم بادوارها واغلب اعضائها يتلقون الرشي والهبات والامتيازات الخاصه من راس النظام، وهي عباره عن عاهات تثقل كاهلي الشعبين المصري والجزائري. فهل من مصلحه للنظامين باثاره الفتنه؟

كل نظام معني بتهييج الجماهير لسببين وهما: يحقق كل نظام من خلال هذا التهييج شعبيه لانه يظهر علي انه مع جماهيره ويدافع عما ينفعلون له، وبالتالي يحقق مكاسب ولو علي حساب الامه؛ والثاني هو الهاء الشعب بالمزيد عن الفساد الذي يُمارس والذي ينهب حقوق هؤلاء المنفعلين الذين يظنون انهم يصنعون خيرا

(لو) كان هناك منطق، لبادر قاده النظامين، علي الاقل علي مستوي وزيري الخاجيه الي تطويق هذا الغباء الذي حملته الجماهير الي الملاعب. كان من السهل جدا علي رئيس مصر ان يظهر علي الشاشه ليقول لشعبه ان الجزائر بلد الاحرار، وهي التي وقفت مع مصر في حرب تشرين الاول/ اكتوبر عام 1973، وهي التي امدت مصر بما احتاجته من سلاح وغذاء بعد حرب عام 1967، وان شعب الجزائر هم اهلنا واحبتنا، ومن ثم يقدم اعتذاره نيابه عن الشعب المصري. وكان من الممكن ان يظهر الرئيس الجزائري علي الشاشه ليقول لشعبه ان مصر هي التي احتضنت الثورة الجزائرية، وان الاعتداء الذي تم علي فريق الجزائر لا يمثل الا جهاله بعض الطائشين الذين يمكن ان يوجدوا في اي مجتمع. او كان من الممكن ان يعتذر لمصر عما جري في الخرطوم من اعتداء علي المشجعين المصريين.

لكن ما يثبت تورط النظامين هو عمليه استدعاء السفراء. اذا كان بعض الطائشين هم الذين اعتدوا، فلماذا استدعاء السفراء؟

واضح ان كل نظام معني بتهييج الجماهير لسببين وهما: يحقق كل نظام من خلال هذا التهييج شعبيه لانه يظهر علي انه مع جماهيره ويدافع عما ينفعلون له، وبالتالي يحقق مكاسب ولو علي حساب الامه؛ والثاني هو الهاء الشعب بالمزيد عن الفساد الذي يُمارس والذي ينهب حقوق هؤلاء المنفعلين الذين يظنون انهم يصنعون خيرا.

اجهزه المخابرات العربيه معنيه فقط بامن الانظمه العربيه ولو علي حساب امن الأمة العربية، وامن الشعب الذي تتجسس عليه.

هل سالك احد يوما عن اكثر الناس اساءه للناس في الوطن العربي؟ بالنسبه لي هم رجال المخابرات ذلك لان اجهزه المخابرات العربيه معنيه فقط بامن الانظمه العربيه ولو علي حساب امن الامه العربيه، وامن الشعب الذي تتجسس عليه. اجهزه المخابرات العربيه هي العسس، هي عيون الحاكم واذانه ومختلف احاسيسه، وهي التي تسهر علي راحه النظام واستمراره. لو سالتهم لقالوا لك انهم يحافظون علي امن الشعب، لكنهم والله لكاذبون. هم يحافظون علي امن النظام المستبد المتخلف الذي ينهب الثروات ويهدد امن المواطن، ويوزع بعض النعم علي اعوانه، وعلي راسهم مجندو المخابرات.

تجند الانظمه العربيه اعدادا ضخمه من ضعاف النفوس الذين لا تهمهم سوي مصالحهم الخاصه ليراقبوا الناس، وليتتبعوا اخبارهم ونشاطاتهم وعلاقاتهم، وليكتبوا التقارير حتي لو كانت ضد امهاتهم وابائهم، وهؤلاء هم الذين يشيعون الخوف والشك بين الناس، وهم الذين يعملون دائما علي نزع الثقه بين الناس ونشر الرذيله والمفاسد، وهم ايضا الذين يبثون الشائعات بمختلف اشكالها بهدف تضليل الناس، او بهدف حشد دعم للنظام. هم يتلاعبون بعواطف الناس وباحاسيسهم ومشاعرهم الوطنيه والدينيه من اجل تحقيق اغراض سياسيه تخدم النظام.

هل صحيح ان اجهزه المخابرات المصرية التي تنتشر في كل ركن وزاويه في مصر لم تكن تعلم عن نيه بعض عشاق كره القدم المصريه الاعتداء علي الفريق الجزائري؟ وهل صحيح ان المخابرات الجزائرية التي ساهمت، الي حد كبير، بحشد اعداد كبيره من الجزائريين للسفر الي الخرطوم لا تعلم عن نوايا بعض المشجعين الاعتداء علي المشجعين المصريين؟ من معرفتي في اجهزه المخابرات العربيه، لا تخرج مثل هذه الاعمال عن اجهزه المخابرات. توعز الاجهزه لاثنين او ثلاثه من افرادها لصناعه حدث ارعن، ومن ثم تتبع الجماهير بخاصه ان عددا لا باس به من الموجودين هم من اجهزه الامن علي كافه اشكالها وانواعها. اذا كان جهاز المخابرات العربي يهتم بماذا تطبخ ام فاطمه هذا اليوم، او علي اي مقهي يجلس ابو علي، او علي اي شخص القي ابو خيبان التحيه هذا الصباح، او علي اي جنب استرخي ابو حبطان الليله الماضيه، فالا تهتم بما يمكن ان تقوم به جماهير من الناس؟

دعوت مرارا وتكرارا المثقفين العرب للتجمع لنصبح قوه في مواجهه الانظمه واجهزه المخابرات، ولكي نتحرر فنبدا مسيرتنا نحو النهوض