المحتوى الرئيسى

"فاجعة" الانتخابات البرلمانية في الجزائر

08/30 11:26

جرت الانتخابات البرلمانيه كما اُريد لها ان تكون: جزائريه بكل المقاييس، و"عاديه" الي اقصي درجه ممكنه، فليست نسخه من الربيع العربي، وهي الي العهد القديم اقرب، حيث النتائج معلومه سلفا والتزوير لا غني عنه، لكن الجديد فيها اليوم هو انها اقرب الي الفاجعه بالنظر الي رياح الثورات والتحولات العاتيه التي تجتاح المنطقة العربية من مشرقها الي مغربها.

فقد استهدف مهندسوها احداث حاله من الصدمه النفسيه وتحطيم الامال في اي تغيير ولو كان جزئيا، واهانوا فيها حتي شركاءهم في الحكومه منذ اكثر من خمس عشره سنه، ونعني بهم الاسلاميين المشاركين في كل المواعيد الانتخابيه منذ التسعينيات من القرن الماضي، وفي مقدمتهم حركة مجتمع السلم (التي يراسها ابو جره سلطاني)، حيث ابقوها في المرتبه الثالثه مع تراجع في عدد المقاعد البرلمانيه.

وحققت فيها جبهه التحرير الوطني (حزب الرئيس والسلطه) اغلبيه مثيره للجدل، واحتل فيها التجمع الوطني الديمقراطي (حزب رئيس الحكومه) المرتبه الثانيه، واما الاسلاميون المشاركون فلا هم تقدموا ولا هم حافظوا علي مقاعدهم، واخفقوا في جني ثمار الحصاد المغاربي التي اينعت في تونس وليبيا والمغرب، في توزيع باهت للنسب، لا مفاجات فيها ولا اثر لعدوي الربيع العربي في نتائجها، ولا شك انها خساره مدويه للاسلاميين عاكست طموحاتهم وامانيهم، وهي نتاج جمله عوامل، اهمها ضعفهم وانقسامهم وانقطاعهم عن التواصل الشعبي.

وبدت السلطه مقتنعه بنسبه الانتخابات كما اعلنتها (43%)، ورات فيها -علي ضعفها- انتصارا علي دعاه المقاطعه، واستفتاءً علي اصلاحاتها ونهجها. وتساءل الكثيرون في قلق وحيره: هل يعقل في زمن الثورات العربية وموجات التغيير ان يتصدر حزب الرئيس والسلطه -الذي حكم البلاد منذ الاستقلال- قائمه المنتصرين في الانتخابات البرلمانيه الاخيره في الجزائر؟ وكيف نفسر حيازه حزب الرئيس الحاكم ممثلا في جبهه التحرير الوطني 136 مقعدا قبل موجات الربيع العربي (في انتخابات 2007)، في حين ارتفعت حصته الي 220 مقعدا في الانتخابات البرلمانيه الاخيره، بعد التحولات السياسيه الكبري التي شهدتها دول الجوار، وكذا اصلاحات الرئيس في الوقت الذي توقع فيه الكثيرون غلبه الاسلاميين علي المقاعد، او علي الاقل حصولهم علي نسبه معتبره مجاراه لتحولات الربيع العربي. وماذا يعني هذا بالنسبه للحكم؟ وما الذي تغير في البلد؟

(1) ارادتها مراكز السيطره ان تكون انتخابات "عاديه" لاثبات قدره النظام ومجموعات اصحاب المصالح المرتبطه به علي الصمود والتحدي، في رساله واضحه المعالم: لا يرهبنا ربيع ولا شتاء، والبقاء للاقوي امنيا ونفوذا وتاثيرا.

احاديث التزوير والتحفظات علي بعض الممارسات المشبوهه في العملية الانتخابية لا اهميه لها ولن تغير من الوضع شيئا، لان التزوير الحقيقي استهدف الاراده الشعبيه قبل هذا بالترهيب والوعيد، وحجم الضغط الرهيب ودغدغه العواطف بخطاب الرئيس عشيه الانتخابات، وتوظيف المال السياسي لشراء الذمم والاصوات والتاثير في نتائج الانتخابات.

لا تملك مراكز السيطره في الجزائر الا سلاح المال والامن والتخويف والتهديد للتاثير في توجهات الناخبين، او بالاحري من بقي من الناخبين، لان الاكثريه لم تصوت وثارت علي طريقتها بالمقاطعه في صمت وهدوء.

نتائج الانتخابات البرلمانيه الاخيره رساله لمن يهمه الامر: ان لا رحيل للنظام ولا تغيير في تركيبته، وهو باق ويستمد استمراره من الاراده الشعبيه التي اختارت حزب الرئيس في المؤسسه التشريعيه، التي لا وزن لها مؤثرا في منظومه السلطه، بالنظر الي طبيعه النظام الرئاسي وصلاحيات الحاكم الكبيره الممنوحه له دستوريا، وتضخم اجهزه الاستعلامات.

(2) النظام الجزائري علي اتساع دوائره ومحيطه مسكون ومولع بقصه الخصوصيه والتميز: الجزائر ليست كغيرها، ولن تتاثر لا بالقريب ولا بالبعيد، وما يجرب هنا وهناك من تحولات وثورات ليس اكثر من مخطط لاشاعه الفوضي، او تحول عابر متاخر سبقتهم اليه الجزائر في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

هذه العجرفه في التعامل مع الاحداث وتحولات دول الجوار نفخ فيها الاعلام المحلي الموجه وصنع منها ملاحم وبطولات، وسوَق لمؤامرات ومخاطر خارجيه كبيره "تهدد الدوله الجزائريه ومواقفها الثابته ورؤيتها الثاقبه"، فالتصويت في هذا الظرف العصيب هو حمايه للبلد من التهديدات وتحصين له من التدخلات الاجنبيه، في لغه باليه موغله في القدم والانغلاق.

(3) اغراق الساحه السياسيه بالاحزاب، حيث اعتمدت وزاره الداخليه اكثر من عشرين حزبا في غضون شهر واحد، في محاوله لاحداث زخم سياسي والتفاف علي القوائم وتمييع للعمليه الانتخابيه. واكثر هذه الاحزاب من صنع مخابر اجهزه السيطره، حيث اكسبتهم الخبره والتجربه علي امتداد اكثر من عشرين عاما قدره ليس فقط علي بسط الهيمنه وانما علي صناعه ديمقراطيه وتعدديه علي المقاس، المهم ان لا يحدث شيء خارج ما هو مبرمج ومحسوب ومتوقع، والايهام بان كل شيء خاضع للسيطره ضمانا لاستمرارها في الحكم وتحصينا لقلاعها من رده فعل شعبيه تستهدف نفوذها.

(4) حتي وان تحقق للسلطه ما ارادت في هذه الانتخابات البرلمانيه وفقا لما خططت له مخابرها، فان الفراغ الذي حكمت به وصنعته لم يُملا الي الان، والنتائج الهزيله للاسلاميين بمختلف احزابهم كشفت عن ضعف مريع في اداء قادتهم السياسيين المشاركين في العمليه الانتخابيه، وعجزوا بهذا عن ملء الفراغ واقناع من صوتوا بقدرتهم وخطابهم. فما انجزه النظام الحاكم في هذه الانتخابات ليس دليلا علي قوته ومناعته بقدر ما يعكس ضعف القوي السياسيه المنافسه علي كسر هيمنته وتغوله.

(5) استفاد الحزب الحاكم الفائز بالاغلبيه في البرلمان القادم -ممثلا في جبهه التحرير الوطني، ويليه التجمع الوطني الديمقراطي- من مقاطعه فئات واسعه من الشباب الساخط علي الاوضاع والسياسات وانواع الفشل، وحافظ علي وعائه الانتخابي المشكل اساسا من مجتمع كبار السن والنساء والمستفيدين من حكمه، والمناطق السكنيه التي تكثر فيها نسبه الاميه خاصه في جنوب البلاد. فما راي فيه المقاطعون ثوره صامته بالامتناع عن التصويت، استثمره حزب الرئيس وشريكه في السلطه (حزب رئيس الحكومه التجمع الوطني الديمقراطي) في جني اصوات من انتخبوا.

وحكم التسلط والتحطيم النفسي لا يمكنه ان يتغلب الا بقدر ما يكون الناس مشتتين ومنقسمين، وهو احد مصادر قوه السلطه القابضه علي مقدرات البلد، وعليه فلا بد للقوي التي قاطعت -وكذا التي شاركت ومورس عليها التزوير- من تجاوز حاله الانقسام والشتات، وان يبادروا للتحرك المنظم المسنود شعبيا خارج النطاق المرسوم، ولا يتوقع عاقل ان تبادر السلطه للتنازل عن بعض صلاحياتها او تمكين المجتمع مما يتقوي به علي مواجهه حكم الهيمنه والاستبداد، والتجاوز لا يتحقق بالمطالبه والبيانات والاحتجاج في القاعات المغلقه، بل لا بد له من ممارسه وعمل جماعي شعبي مؤثر.

(6) اكتساح الحزب الحاكم لنتائج الانتخابات البرلمانيه يمكن الرئيس والمجموعه الحاكمه من تمرير اي مشروع يعزز قبضه التسلط، وان كانت حركه الاحتجاجات العماليه والنقابيه والشعبيه قد اضعفت الي حد ما قدره مراكز السيطره علي التحكم، فاحكام القبضه علي المؤسسه التشريعيه تسوغ السياسات والاوضاع لكنها لن تؤثر في حركه الغليان الاجتماعي، وهو ما يفرض علي القوي المعارضه والمقاطعه التلاحم في معترك الاحتجاجات الشعبيه وتوسيع حركه الرفض والضغط، وبقدر سعتها وشمولها لمختلف الوان الطيف الشعبي والسياسي من دون استئثار تيار او تنظيم بقيادتها وتوجيهها، بقدر ما تكون اكثر فعاليه وتاثيرا.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل