المحتوى الرئيسى

بالصور: ''عشش السودان''.. الإقامة الجبرية على أنقاض ''خراب الديار''

08/27 17:04

لسنوات طويله مكثوا في مكانهم، ارتضوا قله ''العيشه'' وذات اليد، مثل الاف القاطنين للمناطق العشوائيه في مصر، علي امتداد السكة الحديد اتخذوا بيوتهم، عشش من خشب او طين بشارع رئيس في الدقي، تغير كثير منها بفعل الزمن الي مساكن من الطوب، لكنها لم تفقد الاسم ''عشش السودان''، تكيفوا مع حياه لا يعلموا ان اختاروها ام اختارتهم، اُجبروا علي التعايش مع خطر القطارات، الحمامات المشتركه، الخصوصيه المنتهكه في ''عشش'' متلاحمه جوار بعضها البعض، كانوا اخر اهتمام لاصحاب السلطه والمسؤوليه، ولما حظوا به بعد وعود كثيره بالتغيير، جاءهم ايضا ''جبرا''، مغموس بالاهانه، وتناسي الحقوق التي لم يحظوا بها يوما، مخيرين بينه وبين الشارع.

قبل عامين بدا تنفيذ خطه تطوير عشش السكه الحديد –كما هو مدون بالاوراق الرسميه للمنطقه- ظهر في محيطهم اساس عقار متعدد الطوابق، مميز لونه الاصفر عند اول حدود المنطقه، في اتجاه الذاهب لكوبري المشاه بمنطقه البحوث، والتي بدات في ابريل 2013، وتم تسليم 30 شقه بالمرحله الاولي، في هدوء لم يلتفت له احد، غير ان اهالي المنطقه تفاجئوا بالصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي بقدوم نائب محافظ الجيزه، ومسؤولين من الحي، بجانب قوه امنيه لتسليم 75 شقه بالمرحله الثانيه، لم يمر الامر؛ اذ تم بالقوه -وفقا للاهالي- اخلاء عدد من العشش والبيوت المتواجده، كما هو متفق عليه في مشروع التطوير، بتسليم الشقق وازاله المباني القديمه، لكن بعض الاهالي لم يحصل علي سكن بديل.

امتلاك سكن جديد، يعني دخول الفرحه علي اهل بيته، لكن ذلك لم يحدث، غادرت رباب عبد الرحيم الشقه الجديده وجلست مع والدتها ببيتها في المنطقه الخلفيه للمساكن الجديده، ففضلا عن خلو السكن الجديد من المياه والكهرباء حسب قولها، غير ان الطريقه التي انتقلت بها لم تدع لها اي فرصه للسعاده، بغتًه في الصباح الباكر، طرق مندوب من الحي بابها، اخبرها بلغه امره، ان تغادر غرفتها، وتستلم الشقه رقم 25 بالدور الخامس، طالبت ''رباب'' ان يمهلوها فرصه تجميع اغراضها وابناها الاثنين وزوجها غير ان الرد جاءها ''لو الضهر جه ومستلمتيش الشقه مش هنسلمها لك''، علي عجل لملمت ما طالت يداها من اغراض وضعتها جوار السور، خاصه بعد توجه البلدوزر لهدم بيتها القديم ''يا دوب لميت الهدوم وحبه حاجات''، فيما اندفنت غيرها من الاغراض ''التليفزيون والتسجيل وحاجات تانيه اتهدم عليها''.

الحال لم يكن افضل داخل منزل عائله ''رباب'' الصغير ذو الباب الخشبي، المحكم الغلق بقفل حديدي، من مياه ادخلت بعد معاناه، وسقف يهربون منه الي داخل الغرف بالشتاء، واطفال اعتادت اللعب مع الكلاب المنتشره بالمنطقه، غير ان التعامل المفرط في القوه، لم تجد له ''رباب'' تبرير، فيما تري والدتها ''ام دعاء'' ان الحكومه والناس كلاهما ارتكب خطا، فالاولي بالتعامل السيء، وعدم تحري العدل في توزيع الشقق علي مَن يستحقها اولا، والطرف الثاني في تشبثهم بالحصول علي اكثر من شقه.

علي اريكه خشبيه، هي كل ما تبقي له، بجانب حطام اريكه اخري، وثلاجه صغيره، جلس مرتضي عبد الصادق يكتم قدرا من الهم، بادي علي ملامحه المسن، ''مين اللي هيمسح دمعنا ويهون حزن القلوب من اللي شفناه من يومين؟'' تساءل الرجل الستيني، الذي يعد اكبر مَن يحتضنه الجمع المفترش الارض سنا، مكث ليحرس ما بقي له، فيما تنام زوجته وابناءه بشقه المحافظه، ''عبد الصادق'' احد مَن دُون اسماءهم بكشوف الحي لاستلام الشقه ذات الـ45 متر، مجبرا اضطر الرجل للاستلام ''قالوا لي لو ممضتش علي الاستلام هنخلي غيرك يسكن''، فضلا عن اخباره ان هناك مندوب اخر من الحي قادم ـبورقه بها اسماء جديده، كان رفضه محاوله لايصال الازمه، فتلك الامتار التي جاءت باسمه، لن تستوعب عائلته المكونه من زوجه وخمسه ابناء اصغرهم بالصف الثاني الثانوي ''الشقه جت ليا باسمي، لكن الهدد كان لكل البيت اللي في اوض ولادي''.

لم يتعد وقت الظهيره، حتي انهار كل شيء، ما كان باستطاعه ''عبد الصادق'' المقاومه، دلف بعد توقيع الاستلام، لتجميع اشياءه واهل بيته من منزلهم ''جم فجاه محدش قال حاجه عشان ناخد فرصه نلم حاجتنا''، داخل غرفته ذات الثلاثه امتار، بالبيت البالغ مساحته 126 متر، اخذ الرجل المسن يحاول لملمه بعض الملابس، حين استشعر هدم الجدار، فخرج مسرعا دون شيء، ليتفاجا بالبلدوزر المحطم لكل ما يعترض طريقه، والامن المطلق لقنابل الغاز المسيل للدموع ''ابني اتصاب في رجله.. عسكري ضربه بالعصايه اللي معاهم دي''.

طالما سمع ''عبد الصادق'' عن تطوير المنطقه لسنوات طويله، حمل منزله المبني بالطوب رقم 73/4، لكنه لا يعلم سبب التعامل الذي لاقوه ''بنسمع عن الرفق للحيوان، الللي بيضرب حمار بيدفع غرامه وممكن يتحبس.. لكن هنا اللي بيضرب بني ادم بياخد عليه مكافاه''، منذ عام 67 ويقطن الرجل الستيني بالمنطقه، ''من وقت النكسه'' كذلك يحفظ تاريخ اقامته بالمكان، الذي شهد ميلاد ابناءه، وتزوج بها ثلاثه منهم.

''حاربت في 73.. اللي ضربونا بقي كانوا فين وقتها'' باسي يقول ''عبد الصادق'' واصفا ما حدث بالظلم ''ناس مالهاش حق اخدت شقق وناس تانيه اترمت في الشارع واضربت''، يري هموم جيرانه فيهون همه بالحصول علي شقه تاوي اهل بيته، يلوم علي الحكومه، والرئاسه المنتخبه ''انتخبنا السيسي وقلنا هيخلي باله من الفقير والغلابه.. لكن لسه بنتعامل زي الحيوانات''، لا يستطيع الرجل نسيان الوجع، الذي اصاب اهالي المنطقه في تلك الساعات ''كان يوم مطلعتلوش شمس''.

بين الركام، كان حازم عبد الراضي، لم يغفل يوما عن السعي ''علي اكل العيش''، ارزقي يعمل الشاب العشريني مثل اغلب اهل المنطقه ''ببيع عصير تمر هندي وبرتقان''، يوم بيوم ياتي ببعض جنيهات ينفق بها علي زوجته، ويساعد والدته بجانب اخيه، في غرفه صغيره يسكن وزوجته، واخري خلفها تقيم والدته وشقيقه، ''كانت طين وبانيناها اسمنت مسلح بعد ما المطر هدها'' تقول والده الشاب، الذي يقيم واهل بيته منذ اول امس بالشارع، لا يملكون سوي الملابس التي يرتدونها.

لم يتخيل ''عبد الراضي'' يوما ما حدث ''في الاول كانت اوضه ورا اوضه تستلم الشقه''، لكن ذلك لم يحدث مع المرحله الثانيه التي انتهت قبل 6 اشهر؛ اذ تفاجا اهل ''عشش السودان'' بتسليمها صباح امس الاول دون معرفه سابقه، ما كان اسم الشاب ابن الـ22 عاما في كشف الاستلام، غير انه لاحظ عشوائيه الاستلام ''احنا رقم 74.. لاقينا ارقام 69، 68، 67، واللي بعدي 73،71،77،76 خدوا شقق وفي ناس خدت اكتر من شقه''، فيما لم تنل اسره الشاب وما بين الارقام المستلمه السوي هدم ماواهم، الذي يسكنون به لسنوات طويله.

''اللي مجاش اسمه في الكشف ميطلعش من اوضه'' كذلك سمع ''عبد الراضي'' من مندوب الحي، فبقي في مكانه، لكنه وجده ينهار فوق راس عائلته، ليصبح طريح الشارع هو وزوجته الحامل، ووالدته المسن، عاجزا عن الذهاب لجلب الرزق وترك اهله، لا يجد سبيل سوي لملمه ما تبقي من اخشاب، يصنع بها ''كشك'' صغير ياوي اسرته، حتي ايجاد حل، يتذكر تلك الساعات قبل الهدم، فرغم قسوتها كانت مريحه بالنسب له ''الواحد كان عايش نايم مبسوط رغم العيشه.. كان البيت بالنسبه له فيلا''، فيما ظل مؤشر الطموحات ينخفض من حلم بحجره تضمه واسرته، الي تمني تحقيق ما صرخ به في وجه مسؤولين الحي والامن ''سيبوا لي العشه ومش عايز شقه''.

علي امتداد شريط السكه الحديد، كانت تتراص البيوت ذات الطوب الاحمر، والغرف الخشبيه، حتي قبل نحو عامين، بعد بدء عمليه ''التطوير''، فالانتهاء من بناء العقار كان يعني تنفيذ المرحله الاولي لتطوير منطقه عشش السودان، الذي اعلنت عنه وزاره التنميه المحليه في ابريل 2013، وشيئا فشيئا خلت مساحه من العشش وحلت محلها العقارات المقامه.

بجانب تلك العقارات، كان ''العُفار'' يملا المكان، لا تزال للاتربه وطاه علي ملابس ''صباح''، المعروفه في منطقه عشش السودان بـ''ام عماد''، بعد ان باتت اول ليلتها خارج عشتها الصغيره، من اخشاب وخوص كانت لكنها ترتبها بنفسها، تشعر معها بقيمه المنزل الكبير، ''كسروا حاجتي كلها تحت الهدم''، لم يكن من نصيب السيده الخمسينيه، التي تعيش برفقه ابنها الكبير، شقه جديده من العماره المجاوره لعشتها، ظلت اكثر من عامين تشاهد اعمال بناء العمارات الجديده بجوار عشش السودان، ليكون نصيبها في انقاض ومرتبه في الشارع.

اوراق العوائد –المبلغ المدفوع مقابل السكن- كما تقول ''صباح'' لا زالت تحتفظ بها في ثيابها، تخرجهم في لهفه لتؤكد لمن يستمع الي استغاثتها ان مَن يقيمون بالمنطقه ليسوا ''بلطجيه'' كما يصفهم البعض، لا تملك السيده الا ان تاخذ مكانا في احد العشش التي رحل احد سكانها، ولم تُهدم، او البقاء في منزل ابنتها، رغم ضيق المسكن ''هتقل علي بنتي لغايه ما الحكومه او اي مسؤول يساعدنا''.

بين ساكن حصل علي نصيبه بشقه جديده، واخرون ينتظرون ادوارهم، كان وضع زكريا السيد، الذي تقع عشته في اخر صف العشش امام العمارات الجديده التي سلمها محافظ الجيزه لعدد من السكان، غير انها تحولت الي كوم من الاخشاب، فيما تجلس زوجته بالشارع، تهدم مكان اقامه ''السيد'' هو الاخر دون وجود بديل، بل وزاد عليه حصوله قدر من الضربات التي ينالها المعترضون علي هدم ماواهم ''الحكومه امبارح كانت بتضرب في الناس والحريم، واضرب علينا غاز، هي دي الحكمه اللي مع الشباب؟ بيجيبوا الشباب الارض''.

لم تُفرق الضربات بين مَن يعترض طريق هدم ''العشش''، الجميع نالهم المصير، حتي بعد انخفاض سقف معارضتهم، بمنع الهدم حتي يخرج النساء والاطفال، وما كان بنصيب احمد عبد الحارث مختلف عن جيرانه ''انا امين شرطه واتضربت عشان بحوش عن واحده ست هددت انها تولع في نفسها والعشه'' يقولها الرجل الثلاثيني، الاستياء يتملكه كجيرانه، فمنذ مولده ويسكن بالمنطقه، يعيش مع عائلته باحدي الغرف، التي لا تتعدي امتار قليله، لم يات اسمه بكشوف المستلمين لاحدي الشقق الجديده، لكن تضرر اهل بيته الذي توقف البلدوزر لطفا من الله قبل ان يدهس مسكنهم، تصدي الاهالي يراه كان دافع لتوقف المزيد من الهدم.

''اللي معاه فلوس دفع للحي عرف ياخد شقه لكن اللي معهوش اداس عليه''، يقول ''عبد الحارث'' مشيرا الي وجود تجاوزات حدثت في توزيع شقق هذه المرحله، وهو ما يبرر تواجد اشخاص ينامون بالشارع، بعد هدم سكنهم، وهو ما لم يستمع اليه احد، بل كانت القوه هي الصوت العالي في التعامل ''نزلوا في الناس ضرب غاز وخرطوش فالناس ردت بالطوب.. بس انا عاذرهم العساكر ينفذوا الاوامر''، فلم تتوقف الضربات التي نالها امين الشرطه الا بعد الصراخ انه زميل لهم ''قالوا لي مش كنت تقول''.

بالدلوف الي منطقه عشش السودان، يتبين الانقسام الي مستويات، فالامور تبدو هادئه للقادم من اتجاه كوبري المشاه المسمي ''الكوبري الخشب''، لا يُري الا القليل من وجوه السكان خارج ابواب بيوتهم ذات الطوب، البادي الاعتناء بها شيئا ما، اصحاب تلك البيوت، هم سكان المرحله الثالثه او المرحله الاخيره كما يُعرفون، يشاهدون ما يحدث بالمقدمه، تُنقل اليهم الاخبار، والكثير منهم لا يملك سوي الانتظار مثل ''ام احمد''.

أهم أخبار منوعات

Comments

عاجل