المحتوى الرئيسى

تفسير الشعراوي للآية 27 من سورة آل عمران

08/25 16:44

قال تعالي: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [ال عمران : 27].

ان الحق يقول لنا: عندكم ظاهره تختلف عليكم، وهي الليل والنهار، وظاهره اخري، هي الحياه والموت. ان ظاهره الليل والنهار كلنا نعرفها لانها ايه من الايات العجيبه، والحق يقول عنها: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} ان الحق لم يصنع النهار بكميه محدوده من الوقت متشابهه في كل مره، لا، انه سبحانه شاء لليل ان ينقص احيانا عن النهار خمس ساعات، واحيانا يزيد النهار علي الليل خمس ساعات.

ولنا ان نتساءل.. هل تنقص الخمس الساعات من الليل او النهار مره واحده وفجاه هل يفاجئنا النهار بعد ان يكون اثنتي عشره ساعه ليصبح سبع عشره ساعه؟ هل يكون الليل مفاجئاً لنا في الطول او القصر؟ لا، ان المساله تاتي تباعا، بالدوره، بحيث لا تحس ذلك، ان هناك نوعا من الحركه اسمها الحركه الترسيه. اننا عندما ننظر الي الساعه في كل الزمن؟ لا، ان كل ترس له زمن يتوقف فيه، وعندما يتوقف فاننا ندفع به ليعيد دورته، ويعمل، واذا دققنا النظر في عقرب الدقائق فاننا نستطيع ان نلحظ ذلك.

اذن هناك فتره توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقه الي اخري، وهذا اللون من الحركه نسميه (حركه ترسيه)، وهناك حركه اخري ثانيه نسميها (حركه انسيابيه)، بحيث يكون كل جزء من الزمن له حركه، كما يحدث الامر في ظاهره النمو بالنسبه للانسان والنبات والحيوان.

ان الطفل الوليد لا يكبر من الصباح الي المساء بشكل جزئي، او محسوس، انه يكبر بالفعل دون ان نلحظ ذلك، وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول، وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من النهار، ان الطفل لا يظل علي وزنه وطوله اربعا وعشرين ساعه من النهار، ثم يكبر فجاه عند انتهاء اليوم، لا، ان نمو الطفل كل يوم يتم بطريقه تشيع فيها قدره النمو في كل ذرات الثواني من النهار، وهذه العمليه تحتاج الي الدقه المتناهيه في توزيع جزيئات الحدث علي جزيئات الزمان، وهذه هي العظمه للقدره الخالقه التي يظل الانسان عاجزا عنها الي الابد.

وقد قلت لكم مره: ان الواحد منكم ان نظر الي ابنه الوليد، وظل ناظراً له طوإل ألعمر فلن يلحظ الانسان منكم كبر ابنه علي الاطلاق، لكن عندما يغيب الانسان عن ابنه شهرا او شهورا، ثم يعود، هنا يري في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد اصبح واضحا. ولو زرع الانسان نباتا ما، وجلس ينظر الي هذا النبات، فهو لن يري ابدا نمو هذا النبات لماذا؟ لان الجزئيات تكبر دون قدره علي ان يلمس الانسان طريقه نموها.

ولنا ان نعرف ان كل ما يكبر انما يصغر ايضا، ولا توجد عند الانسان قدره للملاحظه المباشره لذلك، وفي الحياه امثله اخري، ناخذ منها هذا المثل، فعندما قام العلماء بتصوير الارض من الاقمار الصناعيه، كانت الصور الاولي لمدينه نيويورك هي صوره لنقطه بسيطه، وعندما قام العلماء بتكبير هذه الصوره ظهرت الجزئيات، كالشوارع وغيرها، اين كانت الشوارع في هذه النقطه الصغيره؟ لقد صغرت الشوارع اثناء التصوير بصوره تستحيل معها علي الات الادراك عند الانسان ان تراها، ولذلك فلابد من التكبير لهذه الصوره حتي يمكن للانسان ان يراها، ونحن نري الشيء البعيد صغيرا، ولكما قربناه كبر في نظرنا.

اذن فقول الله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} هو لفت للانتباه البشري الي ان الليل والنهار لا يفصل بينهما حد قاطع بنسبه متساويه لكل منهما، لا، انه الحق بقدرته يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل. ان معني (تُولج) هو (تُدخل)، ومثال ذلك ان يؤذن المؤذن لصلاه المغرب في يوم ما عند الساعه الخامسه، ويؤذن المؤذن لصلاه المغرب في ايام اخري في الساعه السابعه. ان ذلك لا يحدث فجاه، ولا يقفز المغرب من الخامسه الي السابعه، انما يحدث ذلك بانسيابيه، ورتابه. ومن ذلك نتلقي الدرس والمثل.

انك ايها العبد ان رايت ملكا قائما علي حضاره مؤصله، فاعلم ان هناك عوامل دقيقه لا تراها بالعين تنخر في هذا الملك الي ان ياتي يوم ينتهي فيه هذا الملك. وهكذا تنهار الحضارات بعد ان تبلغ اوج الارتقاءات، ويصل الناس فيها الي استعدادات ضخمه وامكانات هائله، وذلك لان عوامل الانهيار تنخر داخل هذه الحضارات.

ان الحق بلفتنا الي جلال قدرته وعظمه دقه صنعه، بمثل الليل والنهار: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل}. ثم ياتي لنا الحق الاعلي بمثل اخر، فيقول: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}، انها القدره المطلقه بدون اسباب.

والوقفه هنا تجعلنا نري كيف اهتدينا بما افاض الله علي بعض خلقه من اكتشاف لبعض اسراره في كونه، لقد وصل العلم لمعرفه ان لكل شيء حياه خاصه، فنري ان ورقه النبات تحدث فيها تفاعلات ولها حياه خاصه، ونري ان الذره فيها تفاعلات ولها حياه خاصه، والتفاعل معناه الحركه، والحياه كما تعرف مظهرها الحركه، وغايه ما هناك انه يوجد فرق في رؤيه الحياه عند العامه، ورؤيه الحياه عند الخاصه. ان الانسان العامي لا يعرف ان النطفه فيها حياه، وان الحبه فيها حياه، ولا يعرف ذلك الا الخاصه من اهل العلم.

ان العامه من الناس لا يعرفون ان الحبه توجد لها حياه مرئيه، ويكمن فيها نمو غير ظاهر، ولا يعرف العامه ان هناك فرقا بين شيء حي، وشيء قابل لان يحيا.

ومثال ذلك نواه البلح التي ناخذها ونزرعها لتخرج منها النخله، انها كنواه تظل مجرد نواه الي ان ياخذها الانسان، ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخله.

اذن فالنواه قابله للحياه، وعندما ننظر الي ذرات التراب فاننا لا نستطيع ان نضعها في بيئه لنصنع منها شيئا، ورغم ذلك فان لذره التراب حركه. ويقول العلماء: ان الحركه الموجوده في ذرات راس عيدان علبه كبريت واحده تكفي لاداره قطار كهربائي بامكانه ان يلف حول الكره الارضيه عددا من السنوات.

ان هذه امور يعرفها الخاصه، ولا يعرفها العامه. فان نظرنا الي العامه عندما يسمعون القول الحق: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} كانوا يقولون: ان المثل علي ذلك نواه البلح، وكانوا يعرفون ان النخله تنمو من النواه. ولكن الخاصه بحثوا واكتشفوا ان في داخل النواه حياه وعرفوا كيفيه النمو.. وعرف العلماء ان لكل شيء في الوجود حياه مناسبه لمهمته.. فليست الحياه هي الحركه الظاهره والنمو الواضح امام العين فقط، لا، بل ان هناك حياه في كل شيء.

ان العامه يمكنهم ان يجدوا المثال الواضح علي ان الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، اما الخاصه فيعرفون قدره الله عن طريق معرفتهم ان كل شيء فيه حياه، فالتراب الذي نضع فيه البذر لو اخذنا بعضا منه في مكان معزول، فلن يخرج منه شيء، هذا التراب هو ما يصفه العلماء بوصف (الميت في الدرجه الاولي) واما النواه التي يمكن ان تاخذها وتضعها في هذا التراب، فيصفها العلماء بانها (الميت من الدرجه الثانيه).

وعندما ننقل الميت في الدرجه الاولي ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجه الثانيه تظهر لنا نتائج تدلل علي حياه كل من التراب والنواه معا، وقد مس القران ذلك مسا دقيقا، لان القران حين يخاطب باشياء قد تقف فيها العقول فانه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول، فعقل الصفوه يتقبلها وعقل العامه يتقبلها ايضا، لان القران عندما يلمس اي امر انما يلمسه بلفظ جامع راق يتقبله الجميع، ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديده في هذا الامر.

ان القران علي سبيل المثال لم يقل لنا: ان الذره فيها حركه وحياه وفيها شحنات من لون معين من الطاقه، ولكن القران تناول الذره وغيرها من الاشياء بالبيان الالهي القادر، وخصوصا ان هذه الاشياء لم يترتب عليها خلاف في الحكم او المنهج. فلو عرف الانسان وقت نزول القران ان الذره بها حياه فماذا الذي يزيد من الاحكام؟ ولو ان احدا اثبت ان الذره ليس بها حياه فما الذي ينقص من احكام المنهج الايماني؟ لم يكن الامر من ناحيه الاحكام ليزيد او لينقص، وعندما ناخذ القران ماخذ الواعين به، ونفهم معطيات الالفاظ فاننا نجد ان كلمه (الحياه) لها ضد هو (الموت)، وقد ترك الحق سبحانه كلمه (الموت) في بعض المواقع من الكتاب الكريم واورد لنا كلمه اخري هي (الهلاك) قال الحق سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَهٍ ويحيي مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَهٍ وَاِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.. [الانفال: 42].

ان (الهلاك) هنا هو مقابل الحياه، لماذا لم يورد الحق كلمه (الموت) هنا؟ لانه الخالق الاعلم بعباده، يعلم ان العباد قد يختلفون في مساله (الموت) فبعض منهم يقول تعريفا للميت: انه الذي لا توجد به حركه او حس او نمو، ولكن هذا الميت له حياه مناسبه له، كحياه الذره او حياه حبه الرمل، او حياه اي شيء ميت، وهكذا عرفنا من الايه السابقه ان الحياه يقابلها الهلاك. ويقول الحق سبحانه عن الاخره ليوضح لنا ما الذي سوف يحدث يوم القيامه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ}.. [القصص: 88].

لقد استثني الحق الوجه او الذات الالهيه، وكل ما عداها هالك. وما دام كل شيء هالك فمعني ذلك ان كل شيء كان حيا وان لم ندرك له حياه. اذن فالحياه الحقيقيه توجد في كل شيء بما يناسبه، مره تدركها انت، ومره لا تدركها.

اذن فقوله الكريم: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} يجوز ان تاخذه مره بالعرف العام، او تاخذه بالعرف الخاص، اي عرف العلماء، وما دام ذلك امرا ظاهرا في الوجود كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل، اي ان الحق يدخل النهار في الليل، ويدخل الليل في النهار. وفي اللغه يسمون بطانه الرجل- اي خاصه اصدقائه- (الوليجه) لماذا؟ لانها تتداخل فيه، لانك ان اردت ان تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له او عددٍ من اصدقائه الذين يتداخلون معه.

لذلك جاء امر ايلاج الليل في النهار وايلاج النهار في الليل بالوضوح الكامل، وجاءت مساله الحياه والموت بالفاظ يمكن ان يفهمها كل من العامه والخاصه. واذا كانت تلك الظواهر هي بعض من قدرات الله فمن اذن يستكثر علي الله قدرته في انه يؤتي الملك من يشاء، ويعز من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من الايات الكونيه، ونراه كل يوم راي العين. {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك.. تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخير اِنَّكَ علي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. انك انت يا الله، الذي اجريت في كونك كل هذه المسائل وهي كلها امور من الخير، وان بدا للبعض ان الخير فيها غير ظاهر.

ان الانسان عندما يري في ابنه شيئا يحتاج الي علاج فانه يسرع به الي الطبيب ويرجوه ان يقوم بكل ما يلزم لشفاء الابن، حتي ولو كان الامر يتطلب التدخل الجراحي. ان الاب هنا يفعل الخير للابن، والابن قد يتالم من العلاج، فاذا كان هذا امر المخلوق في علاقته بالمخلوق، فما بالنا بالخالق الاكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء، ايتاء ملك او نزعه، واعزازا او اذلالا، فكل ذلك لابد ان يكون من الخير، وايات الله تشهد بان الله علي كل شيء قدير لذلك ياتي بعد الايه السابقه قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.. [ال عمران: 27].

فاذا كان هناك انسان لم يفطن ابدا لمساله ايلاج الليل في النهار او اخراج الحي من الميت، فانه لابد ان يلتفت الي رزقه، فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه، ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا الامر الواضح: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وساعه تسمع كلمه (حساب) فانك تعرف ان الحساب هو كما قلنا سابقا: يبين لك مالك وما عليك.

وعندما نتامل قول الحق: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فاننا نعلم ان (الحساب) يقتضي (محاسبا)- بكسر السين ويقتضي (محاسبا)- بفتح السين ويقتضي (محاسبا عليه)، ان الحساب يقتضي تلك العناصر السابقه. فعندما يقول الحق: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فلنا ان نقول: ممن؟ ولمن؟ من اين ياتي الرزق؟ والي اين؟ انه ياتي من الله، ويذهب الي ما يقدره الله لان الله هو الرزّاق، وهو الحق وحده، وهو الذي لا يستطيع ولا يجرؤ احد علي حسابه، فهو سبحانه الذي يحاسبنا جميعا، لا شريك له، وهو الفعال لما يريد.

ان الحساب يجريه الله علي الناس، وهو سبحانه لا يعطي الناس فقط علي قدر حركتهم في الوجود، بل يرزقهم احيانا بما هو فوق حركتهم. وقد يرزقك الله من شيء لم يكن محسوبا عندك؛ لان معني الحساب هو ذلك الامر التقديري الذي يخطط له الانسان، كالفلاح الذي يحسب عندما يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا اردبا او قنطارا، او الصانع الذي يقدر لنفسه دخلا محددا من صنعته. هذا هو الحساب، لكن الانسان قد يلتفت فيجد ان عطاء الله له من غير حساب. وقد يحسب الانسان مره ولا ياتي له الرزق.

مثال ذلك: قالوا: ان دوله اعلنت انها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها، ولكن عندما نضج المحصول هبت عاصفه اهلكت الزرع، واكلت هذه الدوله قمحها من الخارج. فمن قالوا عن انفسهم: انهم سيطعمون الناس اطعمهم الناس.

اليس ذلك مصداقا لقول الحق: (من غير حساب)؟ انه الحق سبحانه لا يحسب حركتك ايها الانسان ليعطيك قدرها، ولكنه قد يعطيك احيانا فوق حركتك.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل