المحتوى الرئيسى

تركيا في النفق

08/22 01:44

حقق رجب طيب اردوغان مراده في عرقله تشكيل حكومه جديده ائتلافيه بين «حزب العدالة والتنمية» واحد احزاب المعارضه.

اتبع اردوغان سياسه تقطيع الوقت وهدره، في شكليات غير دستوريه. فخلافاً لما هو معتاد، انتظر اردوغان شهراً كاملاً لتكليف أحمد داود أوغلو تشكيل حكومه. اخذ اردوغان وقته كاملاً لكي يرسم استراتيجيه مواجهه نتائج الانتخابات النيابيه التي افقدت «العداله والتنميه» الغالبيه المطلقه، ومن ثم استكمل داود اوغلو خطه اردوغان بان امضي اكثر من شهر بكامله لكي يخرج علي الجمهور قائلاً انه اخفق في تشكيل حكومه جديده مع «حزب الشعب الجمهوري» او «حزب الحركة القومية».

وقد كشف رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار اوغلو ان داود اوغلو، خلال المفاوضات معه لتشكيل الحكومه وعلي امتداد 45 ساعه لقاءات بينهما، لم يعرض عليه ابداً حكومه طبيعيه للحكم بل حكومه انتخابات. وهنا يؤخذ علي «الشعب الجمهوري» انه لم يكن عليه ان يسقط في هذا الفخ ليدرك فقط في نهايه المفاوضات ان داود اوغلو يعمل علي تضييع الوقت.

المشكله هنا ان داود اوغلو لم يُعد مهمه تكليفه بتشكيل حكومه الي رئيس الجمهورية الا قبل خمسه ايام فقط من نهايه مهله الـ 45 يوماً التي يعطيها الدستور لتشكيل حكومه جديده، والتي تنتهي عملياً اليوم السبت، بحيث لا يُتاح وقت لاي شخص اخر يمكن ان يكلف بتشكيل حكومه بان يشكلها خلال خمسه ايام، ناهيك عن تعقيدات الوضع السياسي.

مع ذلك فان المشكله تقع في مكان اخر.

لقد تعوّد «حزب العداله والتنميه» ان يحكم علي امتداد 13 عاماً بمفرده، وان يتخذ القرارات المصيريه في الداخل والخارج من دون العوده، لا الي المعارضه لاستشارتها ولا الي الراي العام. وكانت ثقته الزائده بالنفس تتوقع استمرار التفويض الشعبي له في الانتخابات الماضيه، وهو الذي لم يحصل.

والقاعده الصحيحه في اي مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية ان يتنازل الطرفان عن بعض ثوابتهما. مجرد ان يقبل احد احزاب المعارضه الدخول في ائتلاف مع «حزب العداله والتنميه» المثقل بكم هائل من المشكلات، هو تنازل بحد ذاته ومجازفه كبيره. مع ذلك فان «العداله والتنميه» رفض كل ما يمكن تسميته «شروطاً» من جانب المعارضه. وفي راسها التزام اردوغان بما يحدّده الدستور من صلاحيات، واحاله ملف الفساد علي القضاء وتغيير السياسات الخارجيه، ولا سيما تجاه سوريا ومصر، والحفاظ علي الطابع العلماني في التعليم. وقد اضاف «حزب الحركه القوميه» شرط الوقف التام للمفاوضات مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله اوجلان.

غير ان داود اوغلو رفض كل هذه الشروط او المطالب. فاذا كان يرفض ذلك، او لا يحاول ان يفاوض عليها، مثلاً بان يغير سياسته في سوريا مقابل طي ملف الفساد، او ان يقف اردوغان عند حده الدستوري مقابل استمرار سياساته الخارجيه علي سبيل المثال، فعلي ماذا كان داود اوغلو يفاوض؟ ولماذا لم يتفاوض جدياً مثلاً مع حزب اخر في البرلمان، هو «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي وتصرّف علي اساس انه غير موجود في البرلمان؟

ليس صعباً التفتيش عن سبب هذه المماطله وتضييع الوقت، وصولاً الي حشر اي شخص اخر يكلف بتشكيل الحكومه في مازق ضيق الوقت. سبعون يوماً علي انتهاء الانتخابات قبل ان يقول داود اوغلو ان المخرج الوحيد هو في انتخابات مبكره، في حين كان يمكن للامر ان يختصر الي النصف او اقلّ من نصف الوقت.

الذهاب الي انتخابات مبكره لم يكن خياراً لاردوغان بل كان قراراً منذ لحظه ظهور نتائج الانتخابات. ذلك ان «عاده» التفرد في القرار، كما اسلفنا، باتت في جينات «حزب العداله والتنميه». ولذلك فان الالتفاف علي نتائج الانتخابات، وعدم الاستعداد للتنازل السياسي من اجل تشكيل حكومه جديده، كان الشغل الشاغل للحزب ومن ورائه اردوغان. ولعلها مسؤوليه احمد داود اوغلو شخصياً الذي لم يستفد من الظرف المناسب ليثبت شخصيه مستقله عن اردوغان ويشكل حكومه جديده مع المعارضه، واختار ان يكون مجرد رسول بين المعارضه واردوغان.

لم تقف محاولات اردوغان عند السعي لاعاده الانتخابات النيابيه، والعمل للتاثير في نتائجها من خلال مجموعه من الخطوات المغامره والخطيره جداً، بل اندفع قدماً ولم ينتظر اجراء الانتخابات، واعلن ان النظام السياسي في تركيا قد تغيّر فعلاً وعلي الاخرين ان يتعوّدوا علي ذلك شاء من شاء وابي من ابي. وقال اردوغان، مطلع الاسبوع الحالي، ان مجرد انتخابه من الشعب فرض تغييراً في مهمته وصلاحياته ويجب اقلمه المؤسسات مع الواقع الجديد.

نحن هنا امام عمليه اغتصاب علنيه، من دون اي زاجر، للدستور وما ينص عليه من صلاحيات لرئيس الجمهوريه. ولقد وصف كيليتشدار اوغلو ذلك بعمليه انقلاب سياسي مشبهاً اردوغان بكنعان ايفرين، قائد انقلاب 12 ايلول العام 1980، الذي مارس اولاً صلاحيات انقلابيه ما لبث ان ترجمها في دستور العام 1982 الذي لا يزال معمولاً به حتي الان. اما زعيم «حزب الحركه القوميه» دولت باهتشلي فقد شبّه اردوغان بما كان يقوم به هتلر وموسوليني. اما رئيس «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي صلاح الدين ديميرطاش فقد تحدّي اردوغان اجراء استفتاء علي النظام الرئاسي للانتهاء من هذه المشكله، فاما ان يقر نهائياً او يخرج من التداول نهائياً.

خطه اردوغان الانقلابيه تعبير عن ياسه من امكانيه تعديل الدستور في البرلمان بسبب ياسه من امكانيه ان يعود «حزب العداله والتنميه» باصوات كافيه الي البرلمان للتعديل. كل رهان اردوغان اليوم هو في ان يعود «العداله والتنميه» الي السلطه بالنصف زائداً واحداً ليمارس بحكم القوه والامر الواقع مهامه كرئيس لجمهوريه بكامل صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الحزب!؟ ولذا هو يحضّر الراي العام منذ الان لهذا الانقلاب الذي سيصبح واقعاً في حال عوده «حزب العداله والتنميه» منفرداً الي السلطه.

مع ذلك فان المشكله الاعمق بالنسبه لـ «حزب العداله والتنميه»، واردوغان تحديداً، انه لا يدرك انه لم يعد بامكانه ان يحكم تركيا وفقاً للسياسات السابقه، وانه حتي لو عاد الحزب الي السلطه منفرداً فلن يغير هذا من واقع ان البلاد في ظل سياساته اشبه بشاحنه نقل خارجي (واردوغان يحب هذا النوع من الاليات) تسير بسرعه 180 كيلومتراً في الساعه وقدمه تضغط علي دواسه البنزين، فيما تفتقد الي وجود كوابح في الاساس لتخفيف سرعتها.

يقود اردوغان تركيا الي الانفجار الحتميّ الذي لم يعد محتملاً بل قائماً.

بعد ثلاث سنوات من الهدوء يُنهي اردوغان عمليه المفاوضات مع «حزب العمال الكردستاني» ويفتح الحرب عليه فجاه، وبكل ما اوتي من قوه. ادخل اردوغان البلاد في جحيم امني وعسكري يسقط خلاله يومياً القتلي من الجنود الاتراك والمقاتلين والاكراد والمدنيين في كل مكان، من اقصي شرق البلاد الي اسطنبول، ما دفع الاكراد الي اعلان الاداره الذاتيه في بعض مناطق جنوب شرق تركيا. تاتي الحرب علي الاكراد بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابيه، والا فلماذا لم يفتح عليهم الحرب قبل الانتخابات. اردوغان يحرق البلاد من اجل بضعه اصوات قد تعيده، وقد لا تعيده منفرداً الي السلطه في انتخابات مبكره.

ومن اجل الحسابات الشخصيه الضيّقه، والتي اختصر فيها ايضاً مشروع «حزب العداله والتنميه»، لجا اردوغان الي تقديم قاعده انجيرليك وقواعد تركيه اخري الي الولايات المتحده بعدما كان يعارض ذلك منذ سنه واكثر، فقط من اجل ان يكسب صمت الولايات المتحده تجاه حربه ضد الاكراد. ويعلن اردوغان انه بدا الحرب ضد «داعش» فقط من اجل ان يوهم الراي العام الغربي انه تغيّر، وبالتالي علي الغرب ان يخفف حملته عليه. كل ذلك ارتباطاً بتجميع النقاط للاستفاده منها للعوده الي السلطه منفرداً.

لكن خطه اردوغان كانت منذ اللحظه الاولي مكشوفه. الغرب لم يقتنع بما يُسمّي المنطقه العازله او الامنه او النظيفه. والغرب لم يدفع شيئاً مقابل انجيرليك، وانتقد ضرب الاكراد بهذا العنف، وقال ان طائرات انجيرليك ستكتفي بضرب «داعش» الذي هو اولويه وليس ضرب الاكراد في سوريا وهو اولويه اردوغان. ويدرك الغرب ان اردوغان لم يكن جدياً في اعلان الحرب علي «داعش» الذي لم يتعرض ابداً لمصالح الدوله التركيه ولا لـ «العداله والتنميه». اما ظهور شخص في فيديو يهدد الاتراك واردوغان واسطنبول فليس سوي مسرحيه من اجل ايهام العالم انه مهدّد من «داعش» فعلاً، لانه يحارب التنظيم.

وكانت الفضيحه الاكبر هي خطوه انسحاب اميركا والمانيا، وقبلهما هولندا، من منظومه صواريخ «باتريوت» (وليس رادارات الدرع الصاروخي في ملاطيه). اذ نظر الي خطوه الانسحاب في المانيا علي انها احتجاج علي ضرب الاكراد، وعلي كاريكاتوريه محاربه تركيا لـ «داعش»، وفي اميركا علي انها بسبب انتفاء التهديد المحتمَل من سوريا.

هذه الاسباب تلتقي عملياً عند هدف رفع الغطاء السياسي، وحتي الامني، ليس عن تركيا بل عن سلطه «حزب العداله والتنميه» بزعامه رجب طيب اردوغان. وهو عامل اخر يُضاف الي ما جلبته سياسات اردوغان من مخاطر علي تركيا وعزلها.

الي ذلك فان المؤشرات الاقتصاديه تسير بسرعه الي تراجعات كبيره، ويقترب سعر صرف الليره الي تراجع تاريخي امام الدولار الذي يكاد يلامس الثلاث ليرات، بعدما كان متوقعاً ان يحدث ذلك حتي نهايه العام. كما تراجع حجم التجاره واعداد السائحين وبالتالي المدخول السياحي بصوره كبيره من جراء التوترات الامنيه والسياسيه.

لم يُحسن اردوغان، ومعه داود اوغلو، ان يقرا الحقائق ويستشرف المستقبل. لم يقرا ان انتفاضه جيزي ـ تقسيم في العام 2013 كانت بدايه العد العكسي له، وان فضيحه الفساد وصراعه مع فتح الله غولين كان خطوه اخري مهمه علي هذا الطريق، وان تصفيه منافسيه داخل الحزب، وفي مقدّمهم عبد الله غول، كان خطا فادحاً، وان اصراره علي تغيير النظام السياسي بالقوه لن يمر مرور الكرام، وان ادخال تركيا كلها في اتون حرب مع الاكراد ورقصه العلني مع «داعش»، كل هذا ليس سوي محطات في الطريق الي الهاويه.

ليس من موضوع في خطابات واجتماعات اردوغان سوي كيفيه ان يتحوّل الي رئيس في نظام رئاسي، وكيفيه كسب الانتخابات المبكره المقبله. كل هذا الدم والتوتر والانهيار الاقتصادي يوظّف من اجل هدف واحد، هو ان يستمرّ في السلطه ويستاثر بها ويحتكرها بمفرده. اما الاستقرار وتحقيق التوازن والعدالة الإجتماعية وتعزيز الحريات وتفهم مطالب الاكراد، فهذا لا وجود له في قاموس اردوغان وحزبه. في ظل هذه الذهنيه من الطبيعي ان تنفجر تركيا، وتعلو السنه اللهب وترتفع صيحات الموت، وتدخل تركيا في نفق مظلم وطويل لا يبدو في الافق من السهوله الخروج منه من دون خسائر كبيره جداً.

حسم «حزب العداله والتنميه» قراره بالدعوه الي عقد مؤتمر عام له في 12 ايلول المقبل.

وجاء قرار الانعقاد مبكراً نظراً لاحتمال ذهاب البلاد الي انتخابات مبكره. واستعدادا لهذا الاستحقاق، يتوقع ان يغير الحزب نظامه الداخلي، بحيث يسمح لمن مر عليهم ثلاث دورات نيابيه الترشح مجددا للانتخابات، وهذا يعني عوده معظم اكثر من 70 اسماً الي الواجهه، مثل بولنت ارينتش وبشير اتالاي وعلي باباجان وجميل تشيتشيك ومحمد علي شاهين، الذين يعتقد ان عدم ترشحهم في الانتخابات النيابيه الاخيره كان من اسباب تراجع شعبيه الحزب.

ومن الواضح ان الحزب يرمي بكل اوراقه علي الطاوله من اجل كسب الانتخابات النيابيه، والعوده منفردا الي السلطه. واحمد داود اوغلو يريد ان يقول انه لا يزال الرجل في الحزب، وانه رغم فشله في تشكيل الحكومه فانه يريد الذهاب الي الانتخابات بصوره «الزعيم الذي كسب زعامه الحزب من جديد».

ما ان اعلن رئيس الحكومه احمد داود اوغلو ان الخيار الوحيد المتبقي هو انتخابات مبكره، حتي كان رجب طيب اردوغان يبدا الحمله الانتخابيه بنفسه، ومن مسقط راسه ريزي، بالقول ان النظام يجب ان يتغير تبعا لانتخاب الرئيس من الشعب، سواء قبل الاخرون او عارضوا.

المعارضه تساءلت عما اذا كان هناك انقلاب، وهي لا تدري. هناك الكثير من الامثله في التاريخ الحديث حول انتخاب رئيس الجمهوريه من الشعب، ومن ثم انقلابه علي الدستور والنظام.

لويس بونابرت جاء في العام 1848 الي رئاسة الجمهورية بالانتخابات، لكنه ما لبث ان الغي الجمهوريه وقام بانقلاب واعاد الامبراطوريه، ونصب نفسه امبراطورا.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل