المحتوى الرئيسى

أذربيجان .. تلك البلاد العجيبة

08/21 21:24

استيقظت منحرفا عن عادتي في العاشره صباحا ، تناولت افطاري في فندقي العتيق غير المسموح للاجانب بسكني غيره ، بنايه شاهقه ، ذات رائحه شيوعيه نفاذه ، نعم لبلاد الشيوعيه رائحتها المميزه ، يتحكم في كل طابق بالفندق سيده مع مجموعه موظفين يمثلون اداره الفندق لاحكام القبضه علي النزلاء الاوغاد ، رغبت في احتساء الشاي ، جاءت السيده المشرفه علي الطابق لتقدمه بنفسها ضمن أعمال تجارية تقوم بها لحسابها الخاص ، صينيه عليها ابريق صغير من الشاي المركز جدا ، ثم ابريق ضخم يسع ربما خمس او ست اكواب من الماء الساخن ، ثم يخلط قدر من هذا مع قدر من هذا ليكون كوب الشاي كما ترغب في كثافته ، ثم حوالي ربع كيلو سكر مكعبات ، يطلق عليه صخر ، وهذا كله مقابل صفقه تقدر قيمتها بحوالي (ون دولار) مره اخري ، اما طريقه الاستعمال وبعد ان تخلط ماء الابريقين وتحصل علي الكوب المطلوب ان تضع قطعه سكر بين اسنانك ، ثم ترتشف رشفه ، ثم تضع قطعه اخري وترتشف رشفه اخري ، وهكذا دواليك الي ان تنهتي من كوب الشاي ، وتنتهي اسنانك لاحقا وتستبدلها باسنان مذهبه كما يتفاخر بذلك عليه القوم هنا

بقيت في بهو الفندق منتظرا لشخص عربي سيتولي مرافقتي ، من لحظته الاولي كان ودودا للغايه ، سار حديثنا ممتعا وانا استنطقه عن الاوضاع هنا ، قررنا ان نقوم بجوله في المدينه ، سالني ان احمل جواز سفري معي دائما والا تعرضت لمشاكل اذا ما استوقفتني الشرطه لاي سبب ، طلبت منه ان يسال موظف الاستقبال ان يرده لي وقد سلمته الي زميلته عندما وصلتٌ فجرا ، ردْ الموظف بعد قليل كان صادما ، جواز سفرك يا سيد غير موجود لدينا ، بحثنا في كل مكان ، ولم نجده

اصابني الهلع ، انا في دوله تخرج من رحم دوله ، فليس بها سفارات ومازالت في مرحله جمع الاعترافات الدوليه بها ، وفي بلادنا فان المواطن في نظر سفارته متهم حتي تثبت براءته ، بعد عده ساعات مرت بطيئه ، عاد موظف الاستقبال مهللا انه نجح في الاتصال بزميلته وانها اخبرته انها خشيت ان تترك جواز سفري في مكتب الاداره فجرا فيسرق او يفقد لاي سبب فاصطحبته معها الي بيتها

كيف كان شكل باكو عام واحد وتسعين من القرن الماضي وهي عاصمه اذربيجان التي قررت الخروج ضمن الخارجين من الاتحاد السوفياتي ، احاول استدعاء ذاكراتي المشتته ، ضباب العمر يحول دون كثير من التفاصيل ، لكن كاني كنت في ريف بلد عربي ، فرغم البنايات العتيقه ، فان الحياه بدائيه ، والناس بسطاء ، والفتيات يلطخن وجهوهن بالاصباغ ، يرتدين ملابس تعود تصاميمها الي عهود مضت ، بالكاد تجد مطعما صالحا للاستخدام الادمي ، والكل متجهم ، والكل منصرف الي اي مشروع يمكن ان يحقق له دخلا ربما يؤمن له في ظل الدوله الحره الجديده حياه بمثل رفاهيه حياه اهل الغرب

انعقدت بيني وبين اهل مطار باكو صداقه بعد ترددي اليومي عليهم اسال عن مصير حقيبتي ، بعد ان زف الي الخبر فتح المفتش الحقيبه بعنايه فائقه ، ثم نظر لي وسالني بلغه حازمه كما لو انني في حضره النيابه ، اهذه لك ، فاجبته ، فعاد ليسالني وهو يدقق النظر في عيني انظر الي محتواياتها هل ينقصها شئ ، مددت يدي لافتش فاوقفني ، ثم بادر هو بالتفتيش بنفسه واخراج محتوياتها واحده واحده ، الي ان اصطدمت يده بنسخه من المصحف الشريف فانفرجت اساريره ، وتوقف عن المتابعه ، سلمني حقيبتي بود ورحب بي بين اخواني ، وذلك قبل حوالي ربع قرن من ان يصبح الاخواني تهمه رسميه

عن هذه البلد العجيب وقبل زيارتي الاولي له صدر لي كتيب متواضع بعنوان " اذربيجان ورياح جورباتشوف التي عصفت بالمسلمين " عن دار المختار الاسلامي ، يتحدث عما وقع فجر العشرين من يناير عام الف وتسعمائه وتسعين عندما اقتحمت القوات الروسيه العاصمه باكو ومارست كل انواع العنف علي اهلها واطلقت الرصاص في كل الاتجاهات علي المئات من الاهالي وذلك بحجه حمايه الارمن من المذابح التي يتعرضون لها في اذربيجان ، لكن احدا لم يحمي اذربيجان من احتلال اراضيها في ناغورنو كاراباخ من قبل الارمن

علي كل حال ليست هي المره الاولي التي تقتحم القوات الروسيه اذربيجان ، فعلتها من قبل وانتزعتها من الفرس عام الف وثمانمئه وثماني عشره ، لكنها استقلت بعد حوالي قرن من الزمان ، ثم عاد الروس الي اجتياحها عام الف وتسعمئه وعشرين لتصبح جمهوريه سوفيتيه ، وبعد يومين من تلك المذبحه الرهيبه الاخيره خرج اهل باكو يشيعون ضحايهم ويمزقون بطاقات انتماءاتهم للحزب الشيوعي ، ولتعلن اذربيجان استقلالها في شهر اغسطس لعام الف وتسعمئه وواحد وتسعين

اصطحبني مرافقي الي مقبره الشهداء ، لم تكن بعد علي شكلها الحالي كما هي الان يغطيها الرخام وشيء من الزينه وشيء من البرود ، كانت كما لو ان دم الشهداء مازال يجري علي ارضها ، زرت مقابر جماعيه عديده لاحقا في حياتي ، هذه واحده من مقابر الشهداء التي تركت في نفسي اثرا لا يزول ، وليس لدي اجابه واضحه عن السبب

كان بعض المكلومين يزورون ضحاياهم ، يهدونهم الازهار ، رغم علمهم انهم في جنان افضل ، صور الضحايا تفيد انهم صغار السن ، سقطوا اما ليله الغزو الروسي ، او ليله الغزو الارمني لكارباخ ، وتضم المقبره كذلك رفات بعض العرب والاتراك الذين حاربوا في اذربيجان خلال الحرب العالميه الاولي ، فوجئت بقدوم عريس وعروسه بلباس الزفاف الي المقبره ، سالت مرافقي ، قال انها اصبحت عاده لديهم ، ياتون ليله العرس الي مقبره الشهداء يلقون التحيه ويمضون ، وكانهم يشكرون الذين ماتوا من اجل ان يعيشوا

بدت لي اذربيجان وكانها مضطربه الهويه ، لا تعرف الي اين تتجه ، هل صوب العالم الاسلامي المحسوبه عليه ، ام الي اوربا المتحضره ، الي العالم الشيعي الذي تنتمي مذهبيا اليه ، ام الي السني وهي تنطق تركياً ، في زياره تاليه ، تحديدا عام اثنين وتسعين التقيت بزعيم المعارضه حينها ابو الفاز التشيباي ، رحمه الله ، استقبلني مرحبا في غرفته الضخمه المظلمه ، حاورته وحاورني ودار حديثنا سلسلا الي ان سالته عن الهويه ، فرد بتهكم صارخ ، ماذا بوسعنا ان ناخذ مما عندكم ، المتنبي ام الجاحظ ، بالطبع سوف نتوجه الي الغرب ، الغرب هو الحضاره وهو المستقبل

صديقنا اصبح بالفعل رئيسا لاذربيجان عندما وقعت استثناء انتخابات ديمقراطيه وحصل فيها علي اغلبيه بنسبه ثلاثه وستين بالمائه ، لكنه بعد ما يزيد قليلا عن عام وقع انقلاب عليه ، نعم انقلاب وليس ثوره ، لتعود نسب التصويت للرئيس من بعده الي تسعه وتسعين بالمائه ، النسب المتعارف عليها عندهم وعندنا

احب في باكو حيها القديم ، احب في المدن دائما احياءها القديمه ، ربما لانها مثلي قديمه ، انها باكو التاريخيه التي يعود تاسيسها الي القرن التاسع عشر الميلادي ، ويضم الحي قصر شروان الذي سكنه الحكام علي مر العصور

الاسلام ايضا قديم في اذربيجان ، فقد فتحت في خلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام الثامن عشر للهجره ، ولم تكن حينها مقسمه كما هي اليوم بين شطر جنوبي يسكنه ما يزيد علي عشره ملايين ويقع ضمن ايران ، وشطر شمالي يمثل جمهوريه اذربيجان القائمه الان بسكانها الذين يقتربون من ثمانيه ملايين نسمه

رائحه اليود تنعشك اذا ما وقفت في باكو عند اعتاب بحر قزوين ، الذي هو اكبر بحر مغلق في العالم ، وباكو نفسها عرفت كعاصمه للذهب الاسود ، فقد تم بها حفر اول بئر سطحي في العالم لاستخراج النفط في القرن الخامس عشر ، وبعد ذلك بثلاثه قرون كانت باكو تنتج نصف كميه النفط الذي كان العالم كله حينها ينتجه يوميا

هل مللتم الحديث في السياسه وانا كذلك ..

زرت اذربيجان لاحقا مرات عديده ، وفي احداها كنا في رمضان ، وقد ازعجنا السائق بدخان سيجارته ، دار حديث بينه وبين مرافقي ، قال له السائق انا مثلك صائم ايضا ، غير اني لا استطيع التوقف عن التدخين ، صمت صاحبي ولم يشا الدخول في جدال معه ، لكن فجاه وجدته ينفعل بشده ويتحدث بلهجه حاده مع السائق وانا احاول جاهدا ان استوقفه او استفسر منه عما يجري ، وبعد ان هدا قال لي ، ان الناس هنا لهم عادات في كرم الضيافه ، ومن مظاهر هذا الكرم عند بعضهم انه اذا اتي رجل من خارج المدينه فان مستضيفه عليه ان يجلب له ما امكن من اسباب السعاده ، ومنها صديقه تبقي معه فتره بقائه ، وسائقنا بعد ان تحدث مع مرافقي عن رمضان والاسلام ساله - وكانه يريد المساعده - هل اتيت لصاحبك بفتاه ؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل