المحتوى الرئيسى

"من مأمنه يؤتى الحذر".. محاكمة "باب الليل" لـ"وحيد الطويلة"

08/18 01:44

في القري البعيده التي جئنا منها وفي جزء اساسي من اساطيرها التي ما زالت تحكمها يوجد ما يسمي بـ"حمار الليل" وهو بالتاكيد "عفريت" يلقاك في الليالي المظلمه، وانت ونصيبك، اما يكمن فيه الخير فينقلك من خوفك في الليالي التي خاصمها القمر الي بيتك ويقف بك امام دارك حيث "الونسه" لكنك تصلها مفزوعا قلقا متوترا من الغرائبيه التي رايتها في طريقك، واما ان يكون شريرا يخطفك لبلاد بعيده لا عوده منها، هذا ما تذكرته وانعكس بشكل ما عند قراءتي لروايه "باب الليل" للكاتب المصري "وحيد الطويله".

كل شيء موجع في "باب الليل" ومختلف، فالليل رغم ما يثيره من التوتر والخوف يمنح القدره علي "البوح" و"الاسترسال" والكلام بما لا يقدر الواحد ان يواجه به نفسه في "وهج النهار"، كما ان الرؤية الليلية بالتاكيد ستكون غير متضحه ينقصها بصيص ضوء ضروري، مما يجعلنا نضيف عليها تهويمات "من صنع ايدينا" ونري ما نظنه حقيقه وفي الوقت نفسه قد نقهر "خوفنا" تحت مسمي "السراب" فيحكمنا "الوهم" ويقود خطانا لـ"الونسه" او "للفرار بعيدًا".

تحدث نقاد كبار وكثر عن روايه "باب الليل" وراوا فيها كثيرا من "الثيمات الجميله" وهي بحق كذلك، واعتبروا ان "وحيد الطويله" يرمز بـ"مقهي لمه الاحباب التونسي" للوطن العربي، لكنهم لم يتوقفوا كثيرا عند المناطق الشائكه التي تحتوي عليها الروايه، وهذا ما سنفعله من خلال نقطتين هما، القضيه الفلسطينيه، ومقارنات التاريخ.

في "باب الليل" يتوقف وحيد الطويله كثيرا امام القضيه الفلسطينيه، ويفرد لها صفحات مهمه من الروايه ليعرض لاحدي صفحاتها التي ربما نكون قد نسيناها او غفلنا عنها بسبب كثره صفحات القضيه الفلسطينيه، انها صفحه "تونس" حيث الفلسطينيون ما بعد معاهده "اسلو"، رحل من رحل وظل البعض ممن رفضت اسرائيل استقبالهم او السماح لهم بالعوده للارض المحتله، ونري من خلال السياق كيف اتفقت كل من اسرائيل والسلطه الفلسطينيه عليهم، وربما كانت عوده "توفيق فياض" بعد 41عاما من خروجه من ارضه الفلسطينيه وحياته في مصر ثم تونس هو ما جعلنا نعيد قراءه روايه "باب الليل"، والمعروف ان "وحيد الطويله" قضي شطرا من حياته في تونس، قرابه الـ10 سنوات، وبالتاكيد بحث "الطويله" في تونس داخل المقاهي عن المثقفين واستمع لحكاياتهم، واعاد صياغتها وجعلها حلقه من "القضيه الفلسطينيه".

بدايه يجب علينا ان نحدد ان "باب الليل" روايه عن القضيه الفلسطينيه واكثر، لكن بعد الانتهاء من الروايه، تجد ان هناك بعض الملاحظات علي النص فيما يتعلق بـ"الثوره الفلسطينيه"، بالتاكيد الروايه تدافع عن القضيه الفلسطينيه، لكن السؤال: هل يري وحيد الطويله العيب في رجالها ام في قادتها ام في الشعوب العربيه التي اخذت موقف المتفرج في هذه الاشكاليه الكبري التي هي اشكاليه حياه او موت؟.

الملاحظه الاولي، انه من المعروف والثابت لدي الذين قراوا الروايه ان "وحيد الطويله" يحتفي باللغه ويجعلها الباب الذي يلج منه لقراءه الارواح والناس وما يحيط بهم من قلق وجودي دائم، لكن من مامنه ياتي الحذر، انها اللغه بكل جبروتها وسلطانها تضعنا في حيره ما، ففي الروايه وفي اول ظهور للقضيه الفلسطينيه يكتب "الطويله"، "البعض يسمونه مقهي (الاجانب) يعج ببقايا فلسطينيين بقوا هنا مرغمين بعد ان غادر الجميع تقريبا الي رام الله مع ياسر عرفات بعد اتفاقيه اوسلو. الذين رفضوا تفرقوا في شتات البلاد وراء رزق او عائله او دوله ترحب بهم او اي مكان اوسع من رام الله وغزه، بقايا لم يجدوا اسماءهم في كشوف السلطه الفلسطينيه. في القوائم الاسرائيليه كانوا وما زالوا ممنوعين من العوده، اياديهم ملطخه بدماء الاسرائيليين، وارواحهم ملعونه ايضا، وعليهم ان تنفسوا ان يفعلوا ذلك في مكان اخر يستحسن ان يكون قبرا سحيقا في جوف الارض" جاء ذلك في الصفحه 12 من الروايه.. ولما كان الراوي في الروايه ليس "راويا مشاركا" وليست له اي صفه يمكن من خلالها معرفه توجهه، فهو "راو عليم" يعرف كل شارده ووارده عن الشخصيات لذا فان صوته لا ينفصل عن صوت "وحيد الطويله" الشغوف باللغه والمعبر عن جمالها، لذا جمله "اياديهم ملطخه بدماء الاسرائيليين" في اول كلام عن "الفلسطينيين" في الروايه، تجعلك حائرا ومتربصا لان "الرجل يعرف قيمه "اللغه".

الملاحظه الثانيه، رغم تعاطف الروايه مع كثير من الشخصيات الفلسطينيه المشرده في "تونس" مثل "ابو جعفر" لكنه جاء في الكتابه الاخيره عن الفلسطينيين في الصفحه (242) من الروايه يقول "والفلسطينيون علي حالهم، مصرون علي التجمع يوميا صباح مساء، يضمون طاولتين في طاوله واحده حتي لا ينسوا بعضهم، كانهم خائفين ان ينفرطوا ثانيه، يمنحون المكان دفئا رغم بؤسهم الواضح، وحكاياتهم التي لم تفهم منها شيئا تقريبا"، هذه الجمله الاخيره (حكاياتهم التي لم تفهم منها شيئا تقريبا) تطرح سؤالا مهما: ما الذي يقصد الكاتب قوله من وراء استخدامها، خاصه انه استخدم الماضي "لم تفهم"، هل يعني ان الفلسطينيين لا يجيدون شرح قضيتهم ام انهم يقولون قولا متداخلا لن يفهمه احد، وهل جاءت هذه الجمله من باب التداعي اللغوي ام قصدها ليختم بها رايه في القضيه الفلسطينيه، خاصه انه طوال الروايه لم يحدد لنا "الراوي ولا المروي عليه" لذا فانه يضعنا امام اختيار وحيد هو ان "المروي عليه" هو "نحن" القراء، الذين نفهم كل ما حكاه الفلسطينيون منذ اول الروايه، فكيف يصادر هو علينا هذا الحق لو كان يقصدنا نحن؟!

الملاحظه الثالثه التي تتعلق بالقضيه الفلسطينيه، هي النظره التشاؤميه جدا المسيطره علي مصائر الشخصيات الفلسطينيه، فالجميع خاسرون، هو يكتب عن مقهي "لمه الاحباب" التونسي، لكنه من خلال اللغه المعبره يتجاوز ذلك الي خارجه الي الشوارع الخلفيه الي تنفيذ الصفقات التي تتم داخل المقهي وتنفذ خارجه، كل ذلك وابو شندي وابو جعفر وشادي رموز القضيه الفلسطينيه يشاهدون ما يحدث، رجال بهم سماتهم الحسنه وعيوبهم القاتله لكن الوطن المغلوب علي امره يسيء اليهم ويضعهم في خانه "الياس" حتي يظل "ابو شندي" دائم المقارنه بين فلسطين والدول الاخري، والثوره الفلسطينيه وقادتها من جانب والمومسات من جانب اخر وعاده ما ينتصر للمومسات، هو نموذج البطل المهزوم المحتار بين الواقع والمثال، يقول "اصبحنا بقايا، بقايا نضال وبقايا حياه، هنا لا اعيش ولا اموت" ويذهب كل يوم تقريبا الي الشاطئ الذي ابحرت منه سفن الفلسطينيين العائده الي رام الله ليتاكد ان الشاطئ ما زال في مكانه في انتظار العوده الحقيقيه فهو لا يسمي عودتهم بعد "اوسلو" عوده لكنه يسميها رحيل، لكن "وحيد الطويله" غير متفائل بمستقبل "الثوره الفلسطينيه" ففي كتابه تستدعي التوقف يضيّع "الطويله" من "ابو شندي" اخر امل له في العوده، عندما يذهب للشاطئ فيجد الكتل الخرسانيه قد زرعت في "الحافه" وصور السيد الرئيس تحوطها فينقبض قلبه، فنتساءل لماذا لم يرحم "الطويله" هذه "الارواح المتعبه" ونكا الجرح للنهايه حتي اضاع الامل.

ما زال وحيد الطويله يدين الجميع، ويجعل من نساء المقهي النموذج والمعيار الذي يقاس به العالم من حولهن، بل يتجاوز ذلك لمحاكمه التاريخ، ووضعه علي سفود المقارنات، فيجعل شخصياته الرئيسيه في مواجهه بطلات المقهي، فلدينا اللا دره "صاحبه المقهي وفاتنته الاولي" في مقارنه صعبه مع الملكه المصريه القديمه "حتشبثوت" في موقفين، الاول: ما فعلت كل منهما بالمهندس المعماري الذي بني لـ"دره" مقهاها وبني لحتشبثوت "معبدها"، والثاني في مفهومهما عن "الحكم وطريقته وكيفيه الوصول اليه" فتقول الروايه "في النهايه هي اجمل من حتشبثوت، واكثر انسانيه منها... بل هي افضل منها، ملكه الفراعنه جلست علي عرش شيده ذكور قبلها، وعلي شعب لا تعرفه، وملكه حي النصر شيدت مملكه من الذكور صنعتها علي يدها وافخاذها وهي ملكه علي شعب تعرفه بالواحد".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل