المحتوى الرئيسى

تفسير الشعراوي للآية 19 من سورة آل عمران

08/17 17:19

قال تعالي : {اِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الاسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ اِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِايَاتِ اللَّهِ فَاِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.. [ال عمران : 19].

بعد ان قال لنا: انه اله واحد، وقائم بالقسط هو نتيجه منطقيه لكونه سبحانه الها واحدا فكان قوله {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} هو نتيجه لقوله: {شَهِدَ الله اَنَّهُ لاَ اله اِلاَّ هُوَ والملائكه وَاُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط}. لماذا؟ لانه لا تسليم لاحد الا الله، وما دام الله الها واحدا، فلا اله غيره يشاركه، يقول الحق: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ اله اِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ اله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ علي بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}.. [المؤمنون: 91].

وما دام قد ثبت انه هو الاله الواحد، فما الذي يمنعك ايها الانسان ان تخضع لمراده منك؟ اذن فقول الحق بعد ذلك: {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} هو امر منطقي جدا يجب ان ينتهي اليه العاقل، ومع ذلك رحمنا الله سبحانه وتعالي فارسل لنا رسلا لينبهونا الي القضيه السببيه، والمسببيه، والمقدمه والنتيجه {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} واذا سالنا: ما هو الدين؟ تكون الاجابه: ان الدين كلمه لها اطلاقات متعدده فهي من (دان) تقول: دنت لفلان: رجعت له واسلمت نفسي له، وائتمرت بامره. ويُطلق الدين ايضا علي الجزاء، فالحق يقول عن يوم الجزاء: (يوم الدين) وهو يوم الجزاء علي الطاعه وعلي المعصيه، وعلي ان الانسان المؤمن قد دان لامر الله، فكلها تلتقي في قول الحق: {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} يُشعرنا بانه قد توجد اديان يخضع لها الناس، ولكنها ليست اديانا عند الله؛ الم يقل الحق: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .. [الكافرون: 6].

ان معني ذلك ان هناك دينا لغير الله فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لاوامر، ولكن ليس دينا لله، ولا دينا عند الله. ان الدين المعترف به عند الله هو الاسلام. والدين يطلق مره علي المله ومره اخري علي الشريعه، فان اراد المؤمن الاحكام المطلوبه فلك ان تسميها شريعه، وان اراد المؤمن الطاعه، والخضوع، وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين، وان اراد الانسان كل ما ينتظم ذلك فليسمها المله.

اذن فقوله سبحانه: {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} تعني انه لا دين عند الله الا الاسلام، وكلمه (الاسلام) ماخوذه من ماده (سين) و(لام) و(ميم). و(السين) و(اللام) و(الميم) لها معني يدور في كل اشتقاقاتها، وينتهي عند السلامه من الفساد. وينتهي المعني ايضا الي الصلح بين الانسان ونفسه، وبين الانسان وربه، وبين الانسان والكون، وبين الانسان واخوانه، انه صلاح وعدم فساد، كل ماده السين واللام والميم تدل علي ذلك، وما دامت الماده المكونه منها كلمه (اسلام) تدل علي ذلك فلماذا لا نتبعها؟.

لقد قلنا سابقا: ان الانسان لا يخضع لمثيله الا اذا اقتنع بما يقول، ان الانسان يقول لمساويه الذي يامره: لماذا تريدني ان انفذ اوامرك؟ انك لابد ان تقنعني بالحكمه من ذلك الامر، لكن عندما يؤمن الانسان باله واحد قائم بالقسط، ويصدر من هذا الاله امر، فعلي الانسان الطاعه.

اذن.. فالاسلام معناه الخضوع، والاستسلام بعزه وفهم، وعزه وتعقل؛ لان هناك عبوديه تَعَقّل عندما يقف الانسان عند المعني السطحي، وهناك عزه تعقل عندما يقف الانسان عند المعني الذي لا ياتيه الباطل من بين يده او من خلفه، ان هذا هو عزه العقل فلا يستهويه اي شيء سوي الخضوع للامر الثابت الذي لا يتناقض ابدا.

فما دام الله الها واحدا قائما بالقسط فاني كعبدٍ من عبيده حين اؤمن به واخذ عنه، فهذه عزه في الفهم وعزه في التعقل، وعزه في العبوديه ايضا، لانني اعبد الله الذي هو فوق كل المخلوقات والكائنات، ولا اعبد مساويا لي، وان الذي يعبد مساويا له لا يملك الا انفه وحميّه الذليل، وما دام الاسلام هو الخضوع والاستسلام لله فهو خضوع لغير مساو، و(اسلم) اي دخل في السلم، اي دخل في الصلح، وعدم التناقض، وفي الامان والراحه، اي خلص نفسه من كل شيء الا وجه الله؛ ولذلك يقول الحق: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ اَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.. [الزمر: 29].

كان الله يريد ان يوضح لنا الفرق بين الخاضع لامر سيد واحد، وبين الخاضع لِسَادَهٍ كثيرين. وضرب الله لنا المثل بالامر المشهور عندنا، فقال ما معناه: هب ان عبداً له من الساده عشره، وكل سيّد له منه طلب، فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد اخر له سيد واحد، هذا العبد يكون مستريحا لانّ له سيدا واحدا، بينما الاخر المملوك لعشره تتضارب حياته بتضارب اوامر سادته العشره.

اذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لان الشركاء غير متفقين، انهم شركاء متشاكسون، فاذا راه سيده يفعل امرا لسيد اخر، امره بالعكس، وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه، ولكن الرجل السلم لرجل، هو مستريح، وكذلك التوحيد، لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلاوه التوحيد. ان العبد المؤمن باله واحد يحمد الله لانه خاضع لاله واحد. اذن فما دام الاسلام هو الخضوع والاستسلام ومعناه الدخول في السلم بكسر السين- او الدخول في السلم- بفتح السين- يقول الحق: {وَاِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَي الله اِنَّهُ هُوَ السميع العليم}.. [الانفال: 61].

هذا الخضوع ليس لمساو، بل لاعلي. والاعلي الذي نخضع له هو الذي خلق، وهو الاعلي الذي امدنا بقيوميته بكل شيء.

اذن فاذا اسلم الانسان، فان هذا الاسلام له ثمن هو المثوبه من الله. ان من مصلحه الانسان ان يسلم. {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} وما دام الدين المعترف به عند الله هو الاسلام فهو الدين الذي يترتب عليه الثواب والاسلام هو دين الرسل جميعا، وكلهم قد امن به؛ فابراهيم خليل الرحمن قد قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّهً مُّسْلِمَهً لَّكَ وَاَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا اِنَّكَ اَنتَ التواب الرحيم} .. [البقره: 128].

ويعقوب عليه السلام يخبر الحق عنه في قوله لبنيه واجابتهم له: {اَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ اِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت اِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ الهك واله ابَائِكَ اِبْرَاهِيمَ وَاِسْمَاعِيلَ وَاِسْحَاقَ الها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.. [البقره: 133].

ويقول- جل شانه-: {قُلْ اِنَّنِي هَدَانِي ربي الي صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّهَ اِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين قُلْ اِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك اُمِرْتُ وَاَنَاْ اَوَّلُ المسلمين}.. [الانعام: 161-163].

اذن فالاسلام دين شائع، والمسلمون كلمه شائعه في الاديان، وبذلك لا يقف الاسلام عند رساله سيدنا محمد عليه الصلاه والسلام فقط، انما الاسلام خضوع من مخلوق لاله في منهج جاء به رسل مؤيدون بالمعجزات، الاّ ان الاسلام بالنسبه لهذه الرسالات كان وصفا، لكن امه محمد صلي الله عليه وسلم تميزت بديمومه الوصف لدينها كما كان لامم الرسل السابقه، وصار الاسلام- ايضا- علما لامه محمد صلي الله عليه وسلم، لان رساله رسول الله صلي الله عليه وسلم تضمنت منتهي ما يوجد من اسلام في الارض، فلم يعد هناك مزيد عليها، وانفردت امه رسول الله صلي الله عليه وسلم بان صار الاسلام علما عليها.

اذن فالاسلام في الامم السابقه كان وصفا، واما بالنسبه لرساله رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد صار علما لانه لم يات بعدها دين، فاسلامها اسلام عالمي، ولذلك فنحن بهذا الدين نقول: (نحن مسلمون) اما اصحاب الديانات الاخري فهم ايضا مسلمون لكن بالوصف فقط. نحن الذين نتبع الدين الخاتم سمانا الله في كتابه المسلمين فهذا من اعجازات التسميه التي وافق فيها خليل الله ابراهيم عليه السلام مراد ربه: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّهَ اَبِيكُمْ اِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَي الناس فَاَقِيمُواْ الصلاه وَاتُواْ الزكاه واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولي وَنِعْمَ النصير} .. [الحج: 78].

لقد صار الاسلام اسما لامه رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ ولا يُطلق هذا الوصف اسما الا علي من بالغ في التسليم.

كيف؟ نحن نعلم ان لفظ الجلاله (الله) علم لواجب الوجود، ونعلم ان (حي) صفه من صفات الله سبحانه وتعالي. ولكن صارت كلمه (حي) اسما من اسماء الله؛ لان الله حي حياه كامله ازليه. اذن لا تكون الصفه اسما الا اذا اخذ الوصف فيها الديمومه والاطلاق. وعلي هذا القياس يكون الرسل السابقون علي محمد صلي الله عليه وسلم، والامم السابقه علي أمه الإسلام، كانوا مسلمين، وكانوا امما مسلمه بالوصف، ولكن امه محمد صلي الله عليه وسلم تميزت بالاسلام وصفا وعَلَما، فصار الامر بالنسبه اليها اسما، ونظرا لانه لن ياتي شيء بعدها، لذلك صار اسلام امه رسول الله (علما). 

ولقد بشر سيدنا ابراهيم عليه السلام بهذا الامر: {مِّلَّهَ اَبِيكُمْ اِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} .. [الحج: 78] ان الحق قد اورد علي لسان سيدنا ابراهيم بالوضوح الكامل {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين} ولم يقل الحق: (هو وصفكم بالمسلمين). لا، انما قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين}، لان الامم السابقه موصوفه بالاسلام واما امه رسول الله صلي الله عليه وسلم فهي مسماه بالاسلام. وتجد من اعجازات التسميه، اننا نجد لاتباع الاديان الاخري اسماء اخري غير الاسلام، فاليهود يسمون انفسهم باليهود نسبه لـ(يوها). ويقولون عن انفسهم: (موسويون) نسبه الي موسي عليه السلام. والمسيحيون يسمون انفسهم بذلك نسبه الي المسيح عيسي ابن مريم. ولم نقل نحن امه رسول الله عن انفسنا: (اننا محمديون) لقد قلنا عن انفسنا: (نحن مسلمون). ولم يات علي لسان احد قط الا هذه التسميه لامه محمد صلي الله عليه وسلم، وصار اسم الاسلام لنا شرفا. اذن، فقول الله الحق: {اِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الاسلام} يعني انه، ان جاز ان يكون لرسول او لاتباع رسول وصف الاسلام فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند الامم السابقه فنزيده نحن بالتسليم، وبزيادتنا- نحن المسلمين- بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن امه رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولذا صار الاسلام لا يُطلق الا علينا.

ان الحق سبحانه وتعالي يوضح لنا ان الذين اوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم. ولماذا اختلفوا؟ جاءت الاجابه من الحق. الاعلي: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وكلمه إلاختلاف هذه توحي ان هناك شيئا متفقا عليه، وما دام الاسلام هو خضوعا لمنهج الله. لانه اله واحد وقائم بالقسط، فمن اين يوجد الاختلاف؟ وما الذي زاد حتي يوجد اختلاف؟ ابرز الهٌ اخر يناقض الله في ملكه؟ لا لم يحدث. وما دام الاله واحدا، وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا، فمن اين جاء هذا الاختلاف؟

ان الحق يوضح لنا ان الاختلاف قد جاء للذين اوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي النكايه، وذلك هو الشر، فلو كانوا قد اختلفوا من قبل ان ياتي اليهم العلم لقلنا: (انهم معذورون في الاختلاف).

ولكن ان يحدث الاختلاف من بعد ان جاء العلم من الاله الواحد القائم بالقسط فلنا ان نقول لهم: ما الذي جَدَّ لتختلفوا؟ ان الذي جَدَّ هو من عالم الاغيار، وما دام الجديد قد جاء اليهم من عالم الاغيار، فمعني ذلك ان هوي النفس قد دخل، ونريد ان نعرف اولا معني الاختلاف، الاختلاف في حقيقته هو ذهاب نفس الي غير ما ذهبت اليه نفس اخري.

ولماذا حدث الاختلاف هنا رغم ان الاله واحد، وهو قائم بالقسط؟ لابد لنا ان نستنتج ان شيئا جديدا قد نبت، ما هو هذا الشيء؟ انه الهوي المختلف، وحينما يقال: (اختلفوا) فنحن نعلم ان جماعه قد ذهبت الي شيء وجماعه اخري ذهبت الي شيء اخر. وقد نستنتج ان طرفا قد ذهب الي حق، وان الطرف الاخر قد ذهب الي باطل، او انهم جميعا قد ذهبوا الي باطل. والذهاب الي الباطل قد يختلف؛ لان كل باطل له لون مختلف. هل اراد الحق سبحانه وتعالي ان يقول: انا انزلت الاديان، ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وان طرا عليهم اناس يختلفون معهم.

وتجد المثال لذلك في اليهود، عندما جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم. لقد اختلفوا، واسلم منهم اناس وامنوا برساله النبي الخاتم، بينما الاخرون لم يسلموا، ومن اسلم هم الذين كانوا علي الحق، ومن رحمه الله تعالي انه جعل الذين علموا برساله رسول الله ان يعلنوا البشاره في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل اعلنوا الايمان، بينما اصر البعض الاخر علي كتمان ما جاءهم من العلم واصروا علي الانكار. ان الذين اسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:

ان الذي جعل الحقيقه علقما *** لم يخل من اهل الحقيقه جيلا

واذا كان الله قد عصم الاجيإل ألمتتاليه من امه الاسلام بان حفظ لنا القران. ففي الاديان الاخري كان هناك اناس من اهل الحقيقه، وانصفهم الله: {لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ اَهْلِ الكتاب اُمَّهٌ قَائِمَهٌ يَتْلُونَ ايَاتِ الله انَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر وَيَاْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات واولئك مِنَ الصالحين}.. [ال عمران: 113-114].

لقد انصفهم الله حق الانصاف، والذين امنوا برسول الله من اتباع تلك الديانات قد اهتدوا الي الحق، واختلفوا مع غيرهم وقول الحق: {اُوتُواْ الكتاب} هذا القول يقتضي ان نقف عند (اُوتُواْ) اي ان شيئا قد جاء اليهم من جهه اخري. اذن فالكتاب ليس من افكار البشر؛ لان المنهج لو كان من افكار البشر لكان من الممكن ان يختلفوا فيه او حوله، وبناء (اُوتُواْ) للمفعول يجعلنا نسال: من الذي اتاهم الكتاب؟ انه الله سبحانه وتعالي، والحق سبحانه وتعالي لا ياتي بمختلف فيه.

وما دام الكتاب من عند الله فلا يمكن ان يوجد فيه خلاف. يقول الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً}.. [النساء: 82].

وكان الله بنبهنا بذلك القول الي ان كل شيء بنبت من البشر للبشر، فلابد ان تحدث فيه خلافات. انما الشيء عندما ياتي من الواحد الاحد لا يمكن ان يحدث فيه خلاف ابدا. لا يمكن ان يحدث خلاف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع الا ان وجدت- بضم الواو وكسر الجيم- اشياء زائده عن ذلك، وهذه الاشياء الزائده هي اهواء الذين يقولون: انهم منسوبون الي الله.

اذن فالحق سبحانه وتعالي يوضح لنا ان الكتاب لم يات اليهم من بشر مثلهم، انما من اله واحد قادر، وفي هذا تنبيه لاتباع الديانات السابقه. اي انكم ايها الاتباع لا تتبعون الا منهج الله، وحين تتبعون منهج الله الذي جاء به الرسل فانتم لا تتبعون احدا من الخلق، لان اي رسول ارسل اليكم انما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم، ولم يقل لكم احد من الرسل ان المنهج قادم من عنده والرسول يحمل نفسه علي الطاعه والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم، وهذه عزه لكم، ولينتبه جميع الخلق ان المنهج الحق دائما قد اخذه الرسل من الله.

وحين يقول الحق: (الكتاب) فلنا ان نعرف ان كلمه (الكتاب) قد وردت في القران الكريم في اكثر من موضع، ان الحق سبحانه وتعالي يسمي القران مره (قرانا) لانه يقرا، ويسميه الحق ايضا (الكتاب) وذلك دليل علي انه يُكتب، وحين نقول: ان القران من (القراءه) فهذا يعني ان نبرز ما في الصدور بالقراءه ولكن ما في الصدور قد تلويه الاهواء؛ لذلك يحرس الحق قرانه بما في السطور ولذلك فالقران مقروء ومكتوب.

وعندما يقول الحق (من اهل الكتاب)، فان ذلك تنبيه لنا ان الكتاب هو منهج مكتوب، اي لم يتم وضعه في الصدور ونسيته النفوس، لا، انه منهج مكتوب، هكذا حدد الحق امر المنهج السابق علي القران، انه مكتوب، فان لعبت اهواء النفوس كما لعبت، فان ذلك يعني تحريف الكلم عن مواضعه. ولنا ان ننتقل الان الي المعرفه (العلم): ما هو العلم؟ ان العلم هو ان تدرك قضيه وهذه القضيه واقعه في الوجود تستطيع ان تقيم الدليل عليها، وغير ذلك من القضايا لا يصل الي مرتبه العلم لانه لا يستطيع احد ان يدلل عليه.

مثال ذلك: نحن نقول: (الارض كرويه) ان كرويه الارض هي نسبه حدثت، ونقولها ونحن جازمون بها. والسابقون لنا في عصور سابقه قال بعضهم: (ان الارض مسطحه)، وحاول ان يجد من الاسباب ما يقيم الدليل علي ذلك ولكن الذين اقاموا الدليل علي ان الارض كرويه كانوا صادقين بالفعل. وفي العصر الحديث صارت كرويه الارض امرا مرئيا من سفن الفضاء، وغيرها من الوسائل، ونحن نعرف انه (ليس مع العين اين) ان الكرويه بالنسبه للارض، هي نسبه، نقولها ونجزم بها، والواقع انها كذلك، ونستطيع ان نقيم علي ذلك الدليل.

هذا هو العلم المستوفي، ان فساد الناس انهم ياتون الي قضيه لن تصل الي هذه المرتبه ويسمونها (علما) كقولهم: ان الانسان اصله قرد، لا، ان احدا لا يستطيع الجزم بذلك، وتلك قضيه ليست من العلم، ان كلمه (علم) تُطلق علي القضيه المجزوم بها؛ وهي واقعه في الوجود، ونستطيع ان ندلل عليها، واذا كانت القضيه مجزوماً بها؛ وواقعه في الوجود، ولكنك لا تستطيع ان تدلل عليها، فماذا تسمي هذه القضيه؟ هذا ما يطلق عليه (تقليد) تماما كما يقلد الولد اباه قبل ان ينضج عقله فيقول: (لا اله الا الله، الله واحد). ومثلما ياخذ التلميذ عن استاذه القضيه العلميه، ولا يعرف كيفيه اقامه الدليل عليها، فهذا نطلق عليه (تقليدا)، والي ان ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه نقول له: ابحث بحثا اخر لتقيم الدليل.

اذن فالتقليد هو قضيه مجزوم بها، وواقعه، ولا يوجد عليها دليل. وهكذا نعرف ان (العلم) يمتاز عن التقليد بوجود القدره علي التدليل، لكن اذا ما كانت هناك قضيه ومجزوم بها ولكنها ليست واقعه، فماذا نسمي ذلك؟ ان هذا هو الجهل. ان الجهل لا يعني عدم علم الانسان، ولكن الجهل يعني ان يعلم الانسان قضيه مخالفه للواقع ومناقضه له. اما الذي لا يعلم فهو اميّ يحتاج الي معرفه الحكم الصحيح، فالجاهل امره يختلف، انه يحتاج منا ان نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛ ونضع في يقينه الحكم الصحيح، وهكذا تكون عمليه اقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عمليه مركبه من امرين، اخراج الباطل من ذهنه، ووضع الحكم الصحيح في يقينه.

ولذلك فنحن نجد ان تعب الناس يتاتي من الجهلاء، لا من الاميين؛ لان الجاهل هو الذي يجزم بقضيه مخالفه للواقع ومناقضه له، اما الاميّ فهو لا يعرف، ويحتاج الي ان يعرف. وماذا يكون الامر حين تكون القضيه غير مجزوم بها، وتكون نسبه عدم الجزم، مساويه للجزم؟ هنا نقول: ان هذا الامر هو الشك، وان رجح امر الجزم علي عدم الجزم فهذا هو الظن، وان رجح عدم الجزم يكون ذلك هو الوهم.

اذن فوسائل ادراك القضايا هي كالاتي: اولا: علم. ثانيا: تقليد. ثالثا: جهل. رابعا: شك. خامسا: ظن. سادسا: وهم. والعلم هو اعلي المستويات في ادراك القضايا. ولذلك نجد ان الحق يحدد لنا علي ماذا اختلف الذين اوتوا الكتاب، لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم. ولم يقل الحق: انهم اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد او الظن، او الجهل او الشك، انما قال الحق: انهم قد اختلفوا من بعد ما جاءهم الاستيفاء الكامل، وهو العلم. وما دام هناك امر قد جاء من القائم بالقسط والاله الواحد، فالمساله القادمه منه وهي الحق قد وصلت الي مرتبه العلم اذن، ففيم الاختلاف؟ لابد ان امراً ما قد جدّ. والذي يجد انما هو قادم من الاغيار، وهي الاهواء، ولذلك يحدد لنا الحق هذا الامر بقوله (بَغْياً بَيْنَهُمْ). ما البغي؟ البغي هو طلب الاستعلاء بغير حق.

اذن فطلب الاستعلاء ليس ممقوتا في ذاته؛ لان طلب الاستعلاء هو قضيه الطموح في الكون. وان يطلب انسان الرفعه فيجد ويجتهد، ويبذل العرق ليصل الي مكانه علميه او غيرها، فهذا حق طبيعي، ونحن نعرف ان العالم قد ارتقي بالطموحات الانسانيه، ان العالم لو اكتفي وثبت عند الذي وصل اليه في جيل ما، فان العالم يحكم علي نفسه بالجمود، ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم في قضايا نافعه، ثم حاولوا ان يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير، وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي بذلوه، وبدراسه لما بذله السابقون عليهم.

اذن فطلب الاستعلاء في حد ذاته غير ممقوت، بل محمود ما دام قائما علي الجهد. ولكن ان يطلب الانسان الاستعلاء بغير حق، فهذا هو البغي. لقد اثبت الله لنا في هذه الايه، ان كل خلاف بين رجال الدين، او بين دين ودين، انما مرجعه الي نشوء البغي، ونشوء البغي هو طلب رجال الدين الاستعلاء بغير الحق. ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق هو اعطاء الفتاوي التي توافق امزجه القوم، وتخالف ما انزله الحق.

ان الواحد من هؤلاء يدعي لنفسه التحضر، ويعطي من الفتاوي ما يناقض الذي انزله الله، ويدعي انه ياخذ الدين بروح العصر، ويدعي لنفسه عدم الجمود، ويذهب الي حد اتهام المتمسكين بدينهم بانهم متخلفون، والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا الانسان هو الاستعلاء في قومه بغير الحق، ويجب ان نفهم ان كل خلاف بين اهل دين واحد، او بين دين ودين، منبعه قول الحق: {بَغْياً بَيْنَهُمْ}. وهذا يعني اتباع البعض للهوي النابع من بينهم ولم ينزله الله.

لماذا؟ لان الله سبحانه وتعالي امّا ان ينزل الله حكما محكما لا راي فيه لاحد، ولا يستطيع احد ان ينقضه، واما ان ينزل الله حكما قابلا للفهم والاجتهاد.

ولم يجعل الله الاحكام كلها من لون واحد، انما جعل الاحكام علي لونين، وذلك حتي يحترم الانسان ما وهبه الخالق له من عقل، ويجعل له مهمه، فياتي بقضيه ويبحثها ويرجع سببا علي سبب. وفي ذلك استخدام من الانسان لعقله، انها رحمه من الله حتي لايجمد العقل الانساني.

اذن فاذا رايت اي خلاف بين رجال الدين او بين دين ودين فاعلم ان القول الفصل في هذا الامر هو ما عبر عنه في القران: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فمن البغي يهب الهوي الذي تنشا منه الاعاصير، ان من يحب الاستعلاء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه انه ارقي في الفكر، او يستعلي عند من يملكون له امرا، او يستعلي عندما يوافق حاكما في راي من الاراء، ويبرر للحاكم حكما من الاحكام.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل