المحتوى الرئيسى

نور الشريف وجيله

08/15 10:39

تزامنت بداياته الباكره مع هزيمه يونيو.

كجيله بدت الصدمه مروعه، فالاحلام الكبري تكاد ان تكون قد سقطت من حالق.

جسدت بعض اعماله التجربه الوجدانيه لجيله اكثر من ايه روايه تاريخيه.

تماهي الممثل مع الدور والخيال مع الاعتقاد لدرجه انك لا تعرف بالضبط اين يتوقف الفن واين تبدا الحياه.

فهو «عادل» في المسلسل التليفزيوني الطويل «القاهره والناس».

كلاهما شاب حول العشرينيات يعاني صدمه الهزيمه بقسوه، ينتسب الي يوليو ويعلن انه «ناصري».

وكلاهما يمتلك حسا نقديا لاوجه الخلل الفادحه في بنيه المجتمع والسلطه وليس مستعدا ان يغض الطرف عنها تحت اي ظرف.

هو من ابناء اكثر الاحياء المصريه شعبيه وعراقه «السيدة زينب»، من اسره بسيطه تكدح بصعوبه في سبيل رزقها، لم يتنكر لاصوله ولا ادعي غير حقيقته.

شيء من اصاله الحي الشعبي سكن داخله.

ربما اكتسب افكاره الاجتماعيه من عمق معايشته لمعاناه اهله وناسه.

و«عادل» من ابناء «العباسيه»، احد احياء الطبقه الوسطي في النصف الثاني من الستينيات، حيث بدا بث المسلسل اعقاب هزيمه (١٩٦٧) مباشره.

شيء من تقاليد الطبقه الوسطي في ذلك الوقت، وقد كانت علي قدر كبير من التماسك، حكمت الصياغه الفنيه للنقد الاجتماعي الحاد الذي مثله هذا المسلسل.

من الطله الاولي اخترق الممثل اليافع قلوب مشاهديه، ففي كل بيت شخصيه تماثل «عادل» بتمرده وغضبه ونزواته الصغيره.

الجيل الجديد كله كان غاضبا.

هناك فرق جوهري علي المستوي الوجداني بين جيلين متعاقبين.

الذين عاشوا الحلم بعضهم لم يستطع ان يتحمل وطاه انكساره الفادح.

كان «صلاح جاهين» مثالا تراجيديا، فقد اصيب باكتئاب حاد.

والذين اكتسبوا وعيهم السياسي بعد الهزيمه رفضوها ونقدوا اسبابها ودفعوا فواتير الدم علي جبهات القتال قبل ان يعودوا ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير اصحابها.

انه ابن هذا الجيل بالضبط.

جيل الهزيمه والغضب والحرب وسرقه النصر العسكري.

في عام (١٩٦٨) اعلنت اجيال ما بعد الهزيمه عن حضورها فوق مسارح التاريخ.

تؤيد زعامه «عبدالناصر» وتطلب المشاركه السياسيه، تؤكد اراده القتال وتدعو الي جبهه داخليه متماسكه لا تفسح مجالا للصوص المال العام والمتسلقين علي اكتاف السلطه.

هذه التوجهات تبنتها الشخصيه الدراميه التي اداها في «القاهره والناس» وتبناها هو نفسه في الحياه.

في تلك الايام البعيده فوجئ الممثل العشريني باتصال هاتفي في منزل اسرته بحي «السيده زينب» ينقل اليه رساله من الرئيس انه يتابعه باعجاب بالغ، طالبا «ان يحفظ موهبته».

لم يصدق ان الاتصال حقيقي وان «عبدالناصر» يعنيه ممثل بالكاد يمشي امتاره الاولي.

اعلن ذلك لمحدثه علي الناحيه الاخري من الهاتف.

بعد وقت قصير التقي امام نادي الزمالك مع «مندوب الرئاسه» الذي اطلعه علي هويته الشخصيه حتي يصدق الرساله التي وصلته.

هذه القصه رواها كثيرا علي مدي رحله حياته واستمعت الي بعض تفاصيلها منه.

يخيل لي انها اثرت فيه باكثر مما هو ظاهر وطبيعي.

الشاب الذي عاني قسوه اليتم وجد في «عبدالناصر» صوره الاب الذي يعنيه مستقبل ابنه.

في التجارب الانسانيه ما يستقر عميقا يعيش طويلا.

انتقد الممارسات الامنيه علي عهد «عبدالناصر» في فيلم «الكرنك» غير انه لم يعتبره هجوما عليه ولا انتقاصا من قدره.

بكلماته: «انا ومخرج الفيلم علي بدرخان ناصريان».. «لماذا لا تعتبرون هذا الفيلم نوعا من النقد الذاتي لا تعريضا بزعامته التاريخيه؟».

هو ابن جيله بالمعني الاجتماعي والسياسي العريض.

عاني انكسار الاحلام الكبري مرتين، الاولي بعد يونيو والثانيه بعد اكتوبر.

وقد كان الانكسار الثاني اكثر وجعا.

فالجيل الذي لم تكسره الهزيمه خذلته نتائج تضحياته في الحرب.

لم يكن مجرد ممثل يحفظ دوره ويؤديه بحرفيه في اعمال تدين الانفتاح الاقتصادي وكامب ديفيد.

كان يعتقد بعمق ان هذه السياسات اعتداء مباشر علي اي معني للمواطنه او التضحيه بالدم في الحروب الطويله.

لم تكن مصادفه ان يكون «اهل القمه» اول شريط سينمائي ينتقد الانفتاح الاقتصادي.

بقدر الموهبه الاستثنائيه لـ«نجيب محفوظ» في التقاط الشخصيه الدراميه من قلب التحولات الاجتماعيه بدا «زعتر النوري» تمثيلا من لحم ودم لبدايه «عصر اللصوص».

بحكم افكاره الاجتماعيه فهو يكره هذه الشخصيه لكنه جسدها كانه قد ولد نشالا ومحتالا.

لم يسقط في المباشره الفنيه رغم ان افكاره السياسيه مباشره، فهناك فرق بين الفنان والسياسي.

الفن الحقيقي يكتسب قيمته من قوه الدراما واتساع الرؤيه الانسانيه.

بصوره اكثر تاثيرا ادي دور «حسن سلطان» في «سواق الاتوبيس».

الفيلم وثيقه ادانه سينمائيه بلغه رفيعه لا ادعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين القيم وبدت الحاله الاخلاقيه والاجتماعيه في انكشاف كامل مازلنا نعانيه حتي الان.

بالقرب من هذه المنطقه المهجوره عرت اعمال سينمائيه اخري خيانه المثقفين الذين تواطاوا علي ايه قيمه للعدل الاجتماعي مثل فيلم «البحث عن سيد مرزوق».

وقد كان هو هذا الخائن «يوسف كمال».

بالقدر نفسه ادان ما بعد «عبدالناصر» في «زمن حاتم زهران».

ضاعت معاني التضحيه بالدم علي جبهات القتال وانتصر الزاحفون بسطوه المال.

لا يمكن ان تكون مصادفه هذا التزاوج المتواتر في اعماله بين الانفتاح وكامب ديفيد، فالاول حرم الجيل الذي حارب من ايه جوائز اجتماعيه والثانيه شطبت معني ايه تضحيه.

هو ليس مثاليا في كل ما اتخذه من مواقف سياسيه غير انه كان قادرا علي التصويب والتصحيح.

كاي فنان قريب من نبض شعبه ايد ثوره يناير رغم بعض صلات امتدت مع الرئيس الاسبق «حسني مبارك».

في عام (١٩٨٢) هو الفنان الوحيد الذي ذهب الي اجتماع جماهيري حاشد في «حدائق القبه» حيث مقر حزب العمل الذي كان يتراسه «ابراهيم شكري» لاعلان الغضب المصري علي الاجتياح الاسرائيلي للعاصمه اللبنانيه بيروت.

قابلته بعض الاحتجاجات بظن انه يؤيد «كامب ديفيد».

بدا حديثه: «تسقط كامب ديفيد».

في هذا اليوم اجمع الحضور علي التظاهر باليوم التالي الجمعه من الجامع الازهر الشريف، وكانت المره الاولي التي يذهب المصريون الي الازهر بعد خطاب «عبدالناصر» الشهير الذي اعلن فيه مقاومه العدوان الثلاثي عام (1956).

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل