المحتوى الرئيسى

تفسير الشعراوي للآية 7 من سورة آل عمران

08/13 17:44

قال تعالي: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْاَسْحَارِ}.. [ال عمران : 7].

وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، واعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار، والازواج المطهره، ورضوان من الله اكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالاسحار.

وصابرون علي ماذا؟ انهم صابرون علي تنفيذ تكاليف الله، لاننا اول ما نسمع عن التكليف فلنعلم ان فيه كلفه ومشقه والتكاليف الشرعيه فيها مشقه لانها قيدت حريه العبد.

لقد خلقك الحق خلقا صالحا لان تفعل كذا او لا تفعل. فساعه يقول لك: افعل.. فانه قد سد عليك باب (لا تفعل) وساعه يقول لك الحق: لا تفعل فانه يكون قد سد عليك باب (افعل)، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق علي هيئه الاختيار فيه مشقه، فاذا ما جاء امر الله ب (افعل) فقد يكون الفعل في ذاته شاقا، فان صبرت علي مشقه الفعل الذي جاء بوساطه (افعل) فانت صابر، لانك صبرت علي الطاعه.. وقد تصبر عن المعصيه، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض ان ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.

اذن ففي (افعل) صبر علي مشقتها، وفي (لا تفعل) صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لان التكليف اما ان يكون بافعل، واما ان يكون بلا تفعل. فساعه ياتي التكليف بافعل فقد تاتي المشقه.. وعندما تنفذ التكليف بافعل فانت قد صبرت علي المشقه.. وعندما ياتي التكليف ب (لا تفعل) كامر الحق بعدم شرب الخمر، او (لا تسرق) فانت قد صبرت عنها.. اذن ف (افعل) ولا (تفعل) قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك احداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهريه والقسريه.

فساعه ان يطلب منك ان تفعل، اي انه قد خلقك صالحا الا تفعل كما قلنا من قبل. الاّ ان كنت مجبرا علي الفعل فقط. وكذلك اذا قال لك الحق: (لا تفعل). والشيء القدري الذي لا صلاحيه فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ انه يصبر علي الالام والمتاعب لانه امن بالله ربا، والرب هو الذي يتولي تربيه المربي لبلوغه حد الكمإل ألمنشود له فاذا جاء لك الحق بامر لا خيار لك فيه، كالمرض او الكوارث الطارئه، كوقوع حجر من اعلي او اصابه برصاصه طائشه، فكل ذلك هي امور لا دخل ل (افعل) ولا (تفعل) فيها.

وهناك يكون الصبر علي مثل هذه الامور هو الايمان بحكمه من اجراها عليك. لان الذي اجراها رب، وهو الذي خلقني فانا صنعته.

وما راينا احدا يفسد صنعته ابدا. فاذا ما جاء امر علي الانسان بدون اختيار منه، فالذي اجراه له فيه حكمه فان صبر الانسان علي هذه الالام فانه يدخل في باب الصابرين.

اذن فالصابرون انواع هم: صابر علي الطاعه ومشاقها، صابر علي المعاصي ومغرياتها، وصابر علي الاحداث القدريه التي تنزل عليه بدون اختيار منه. واذا رايت انسانا قد صبر علي امر الطاعه وصبر عن شهوه المعصيه وصبر علي الاقدار النازله به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.

وناتي بعد ذلك لوصف اخر يقول الله فيه: {الصابرين} {والصادقين}.

والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: ياتي حين توافق النسبه الكلاميه التي يتكلم بها الانسان، النسبه الاخري الخارجيه الواقعه في الكون.

فان قلت: (حصل كذا وكذا) فتلك نسبه كلاميه صدرت من متكلم، فان وافقها الواقع بانه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وان لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما اخبر به يكون المتكلم كاذبا. لماذا؟ لان كلام المتكلم العاقل لابد له من نسب ثلاث:

الاولي وهي النسبه الذهنيه: فقبل ان اتكلم اعرض الامر علي ذهني، وذهني هو الذي يعطي الاشاره للساني ليتكلم، هذه هي النسبه الاولي واسمها (نسبه الذهن). وقد يعن لي ان تاتي النسبه الذهنيه ثم اعدل عنها فلا اتكلم، فتكون النسبه الذهنيه قد وُجِدت، والنسبه الكلاميه لم توجد.

وقد اصر علي ان ابرز اشاره ذهني علي لساني فاقول النسبه الكلاميه. وناتي بعد النسبه الكلاميه لنري: هل الواقع ان ما حدث وتحدثت به وقع ام لم يقع؟ فان كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقا. وان لن يكن قد وقع، وكانت النسبه الخارجيه علي عكس ما اخبرت به. فاننا نقول: (هذا كلام كذب) اذن: فالصدق: هو ان تطابق النسبه الكلاميه الواقع. والكذب: هو الا تطابق النسبه الكلاميه الواقع وكثيرا ما يخطيء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الاساليب.

مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال: {اِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ اِنَّكَ لَرَسُولُ الله} .. [المنافقون: 1] تلك نسبه كلاميه صدرت منهم، فهل هي مطابقه للواقع ام هي مخالفه له؟ انها مطابقه للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ اِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.. [المنافقون: 1].

بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {والله يَشْهَدُ اِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} ..[المنافقون: 1].

فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: {اِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؟ لا. ان الحق لم يكذبهم في قولهم: {اِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؛ لان الله قد ايد هذه الحقيقه بقوله {والله يَعْلَمُ اِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.

ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: {نَشْهَدُ اِنَّكَ لَرَسُولُ الله}. لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو ان محمدا صلي الله عليه وسلم رسول من الله، ان الله يعلم ان محمدا رسوله المبعوث منه رحمه للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.

ان كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لان الشهاده تعني ان يواطئ اللسان القلب ويوافقه. وقولهم: شهاده لا توافق قلوبهم وتعني كذبهم.

اذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: {اِنَّكَ لَرَسُولُ الله} دون (نشهد) لكان قولهم: قضيه (سليمه). ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: {والله يَعْلَمُ اِنَّكَ لَرَسُولُهُ}. ان الحق يؤكد الامر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق، وبعد ذلك ياتي لنا الحق بشهادته ان المنافقين كاذبون في قولهم: (نشهد). فالصدق ان تطابق النسبه الكلاميه الواقع. والصدق- كما قلنا من قبل- حق، والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بان الانسان الذي نطلب منه ان يروي واقعه شهدها بعينيه، وان يحكيها بصدق لن يتغير كلامه ابدا، مهما تكرر القول؛ او عدد مرات الشهاده. لكن ان كانت الواقعه كذبا، فالراوي تختلط عليه اكاذيبه، فيروي الواقعه بالوان متعدده لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المره الاولي، وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكي، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مره عن سابقتها بل تتطابق.

فعندما نقول: (ان زيدا مجتهد)، فهذا يعني ان اجتهاد زيد قد حدث اولا، ثم ياتي في ذهن من راي اجتهاد زيد ان يخبر بامر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد. ان الامر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث اولا، وبعد ذلك تاتي النسبه الذهنيه، وبعد ذلك تاتي النسبه الكلاميه.

ولكن الانشاء وهو ضد الخبر، هو ان نطلب من واحد ان ينشئ امرا لا واقع له، كان نقول لواحد: اجتهد. اننا قبل ان نقول لانسان ما: (اجتهد) فمعني ذلك ان الاجتهاد كان امرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح (نسبه كلاميه). وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبه الذهنيه، والنسبه كلاميه، وهذا هو الانشاء.

ان الانشاء الطلبي يعني ان تحدث النسبه الخارجيه بعد النسبه الكلاميه. والصادقون هم الذين اراد الله ان يمدحهم، لماذا؟ واين هو مجال صدقهم؟ انهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لانهم حين قالوا: (لا اله الا الله)، وامنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الايمان قدر الطاقه. ومعني (لا اله الا الله) اي لا معبود الا الله. ومعني الا الله اي انه لا طاعه الا لله.

والطاعه- كما نعرف- هي امتثال امر، وامتثال نهي.

اذن فمجال (لا اله الا الله) يشمل انه لا معبود بحق الا الله، ولا مُطاع في تكليفه الا الله، ولا امتثال لامر او لنهي الا للامر القادم من الله؛ فان امتثال انسان الامر من الله بعد قوله: (لا اله الا الله) كان هذا الانسان صادقا في قوله: (لا اله الا الله).

وهذا هو صدق القمه، ان تكون كل تصرفات قائل: (لا اله الا الله) متطابقه مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقه لمنهج الله.

هذا هو الانسان الصادق. اما الذي يقول بلسانه: (لا اله الا الله، لا معبود بحق الا الله) ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا ان نقول له: انت كاذب في قولك (لا اله الا الله) لماذا؟ لانه لم يطابق النسبه التي قالها. ان هذا الانسان اذا امن باي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: انت منافق، لماذا؟ لاننا عندما تكلمنا في اول سوره البقره عن المنافقين قلنا: ان المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لانه قال: (لا اله الا الله) وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الالوهيه يكون صادقا مع نفسه ايضا.

اما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، انه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء. ان المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ الي هؤلاء وَلاَ اِلَي هؤلاء}.. [النساء: 143].

ان الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: (لا اله الا الله) لانه لا يعتقدها. اما المنافق فقد قال: (لا اله الا الله) وهي غير مطابقه لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. اذن، فقول الحق: {والصادقين} مقصود به هؤلاء النإس إلذين ياتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضيه، ويفعلون اخري. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالي: {ياايها الذين امَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله اَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.. [الصف: 2-3].

اي انه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبه. فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة إلتوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمه من هذه السلسه: (لا اله الا الله لا معبود بحق الا الله) اي لا مطاع في امر او نهي الا الله، فان جئت وطاوعت احدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين ان يقولوا لك: انت كاذب في قولك: (لا اله الا الله).

(فعن ابي هريره رضي الله عنه: ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).

هذا هو سمو الايمان عند المؤمن، ان المؤمن لا يمكن ان يكذب او يخالف مقتضيات عقيدته؛ لان المؤمن في كل تصرفاته خاضع لايمانه بانه لا اله الا الله.

ثم يقول الحق: {والقانتين} والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامه. والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لان الحق سبحانه وتعالي حين يكلف عباده تكليفا، فقد يكلفهم بشيء يعز علي افهامهم ان تدرك حكمته.

واقبل القانتون من العباد علي هذا التكليف؛ لان الذي امرهم به اله قادر، فهم يثقون في حكمته فادُّوا الامر الصادر اليهم لانهم خاضعون لحكمه الله.

انهم منفذون للامر القادم من الامر لا لعله الامر. وبعد ان يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانيه هذا الحكم بان يعطيهم فرقانا في انفسهم: {يِا اَيُّهَا الذين امنوا اِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم}.. [الانفال: 29].

فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد ان يري هذا الفرقان: ان الله قد اراد لي بهذا الامر ان ادرك حلاوه طاعه هذا الامر، لذلك قال احد العارفين بالله: ان كنت تريد ان تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون ان تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الامر، فانك تجد الحكمه مستنيره في ذهنك، ولذلك يقول الله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.. [البقره: 282].

فكانك قبل التقوي لم يعلمك الله، اما بعد التقوي فان الله يعلمك، فتقبل علي تنفيذ التكليف لتلمس اشاره في نورانيه نفسك، وهذا هو الفارق بين الامر من المساوي، والامر من الاعلي. وعندما ترتقي كلمه (الاعلي)، فانها لا تنطبق الا علي الاعلي المطلق وهو الله، لانه الاعلي في الحكمه، والاعلي في المنزله، والاعلي في المكانه، والاعلي في الربوبيه.

اذن، فالانسان لا يطلب عله حكم الا من مساو له، فان قال لك احد من البشر: افعل الشيء الفلاني. فانك تساله: لماذا؟ فان اقنعك، فانت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لان المساوي لك قد اقنعك بالحكمه لا بالطاعه له.

ولكن عندما يصدر الامر من الاعلي وهو الحق سبحانه وتعالي، فانك ايها العبد المؤمن تنفذ الامر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي اضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الاعلي، وهو منزه عن كل شبيه، ان الاب يقول للابن في حياتنا اليوميه: ان نجحت في المدرسه فساحضر لك هديه هي الدَّراجه. فهل معني ذلك ان عله الذهاب الي المدرسه هي الحصول علي الدراجه كهديه؟ لا، ليست هذه هي العله، ان العله عند الاب هي ان يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العله، ويقول لنفسه: لقد كان ابي علي حق.

اذا كان هذا يحدث في الحياه بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعه الامر الصادر من الله؟ ان الحق سبحانه وتعالي حين يكلف العبد تكليفاً، فان العبد قد يجد مشقه في فهم العله. والعبد المؤمن يعرف ان الرضوخ لتكليف الحق انما هو خضوع للامر الاعلي.

ان العبد المؤمن يعرف انه امن بمن هو اعلي منه واعلي من كل كائن، ولا يساويه احد، ان العبد المؤمن يعرف انه امن اولا بان الله هو الاله الواحد سبحانه له مطلق الحكمه، وله القوه وله كل شيء في الكون، وسبق ان ضربت المثل- ولله المثل الاعلي.

ان الانسان قد يمرض، وصحه الانسان اثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب الي طبيب، ويقول له: انني اتعب من معدتي، او من قلبي او من امعائي. انه يحدد ما يشكو منه. وعقل الانسان هو الذي هداه الي الطبيب الذي يشخص العله، وبعد ذلك ياخذ المريض من الطبيب ورقه مكتوباً فيها الادويه اللازمه. 

ان الانسان يتناول كل دواء من هذه الادويه دون ان يسال الطبيب عن حكمه كل دواء؛ لانه لو سال عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهه كيماويه، فان سال اي انسان ذلك المريض: لماذا تاخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لان الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعده، او القلب، او الامعاء او اي عضو يشكو منه الانسان.

والطبيب قد يخطيء، انما حكم الله لا يخطئ ابدا، فهو جل شانه منزه عن الخطا تماما. ان الحكمه تكون عند الحق سبحانه وتعالي، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فانه يدرك اثار الحكمه الربانيه في نفسه. وكلمه (قانتين) كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامه. لماذا الخضوع، والخشوع؟

لان الله جل وعلا لم يشرع العباده لينفذها الانسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ اننا نري كثيرا من الناس- اذا ما لا حظنا واقع الحياه- اذا وجدوا رئيسا قوي الشكيمه وقوانينه صارمه في ان الموظفين تحت يده يجب ان يحضروا صباحا في الميعاد المحدد، وان ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقراون الصحف ولا يقابلون الاصدقاء، وغير ذلك من الاعمال. وياتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس (انه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي الا ان احضر في الثامنه الا خمس دقائق، ولن انصرف الا في الثانيه وخمس دقائق، ولن اقرا الصحف ولن افعل اي شيء مما يمنعه). ان هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء علي رئيسه حتي لا يسمح له بنقد او تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء.

انها طاعه بلا حب، ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد ان يقول: ماذا يطلب الله مني؟ الا يطلب مني الصلاه والزكاه واقامه العبادات؟ سوف افعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول: لا، ان الله يطلب العباده بحب منك وخشوع واطمئنان، لان التكليف من الحق صدقه اخري اجراها الله علي العبد. ان الحق سبحانه وتعالي قد كلف العبد بالتكاليف الايمانيه، حتي يكون الانسان سويا وله قيمه في الحياه.

ان معني (قانت) هو العبد الذي يؤدي عباده ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامه. لماذا؟ لان الذي يقبل علي الطاعه ثم ينصرف عنها كانه قد جرب وده لله فلم يجد الله اهلا للود. اما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العباده، لانه ذاق حلاوه استدامه العباده لله، ومادام قد ادرك حلاوه العباده فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامه، ويدخل في دائره القانتين.

وبعد (القانتين) يقول الله سبحانه: {والمنفقين} وكلمه انفق و(نفق)، ماخوذه من كلمه (نفق الحمار) اي مات، و(ونفقت السوق) اي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و(نفقه) ماخوذه من هذا المعني لتشعرنا بان الانسان حين ينفق فهو يُميت ما انفقه من نفسه، فلا يتذكر انه انفق علي فلان كذا، وعلي علان كذا، اي يعلم يقينا ان ما انفقه هو رزق من انفقه عليهم وليس له الا اجر ايصاله اليهم فلا مَنّ، ولا اذلال.

ان الله يريد من كل انسان يُخرج شيئا من ماله ان ينهي من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به علي احد. (والنفقه)، تقتضي وجود منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.

ومن اين تاتي هذه الخيرات؟ انها تاتي نتيجه الحركه في الحياه، وحركه المتحرك في الحياه تقتضي قدره، فاذا كان الانسان عاجزا، ولا يجد القدره علي الحركه، فمن اين يعيش، ان الله لابد ان يضمن له في حركه القادر ما يعوله.

لقد جعل الله القدره عرضا من اعراض الحياه، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا. ومادامت القدره عرضا من اعراض الحياه، فالقادر الان عندما يسمع الامر من الله بان ينفق علي غير القادر، فلابد ان يُقدر في نفسه ان قدرته هي عرض من اعراض الحياه، والقادر الان من الاغيار، لذلك فهو عرضه لان يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: (عندما اصبح عاجزا سوف اجد من يعطيني). اليس ذلك هو التامين الحق؟ انه تامين المؤمن. ان المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتي يجنبه الله مشقه السؤال ان جاءت الاغيار، لان الاغيار ان جاءت سوف يجد من يعطيه.

اننا يجب ان نلحظ في الحكم، لا ساعه ان تطالب انت باداء مطلوب الحكم، ولكن ساعه ان يؤدي الغير اليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه ان ينفق، عليه ان يقدر انه قد يصبح عاجرا، ولنا ان نساله: لو كنت عاجزا الم تكن تحب ان يعطيك الناس دون مَنٍّ او اذي؟

ان هذا هو التامين الحق، لان التامين في يد الله، ومادامت الاغيار عرضه لان يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعه ينفق المنفق يجب عليه ان يميت انه انفق فلا يتذكر وجه من انفق عليه، ولا يخبر احدا بما انفق.

عد الرسول صلي الله عليه وسلم الرجل الذي انفق حتي لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعه الذين يظلهم الله في ظله فقال: (سبعه يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله، امام عادل، وشاب نشا في عباده الله، ورجل قلبه معلق في المسجد اذا خرج منه حتي يعود اليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا علي ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امراه ذات منصب وجمال فقال اني اخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقه فاخفاها حتي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وبعد ذلك علي المؤمن المنفق ان يُقدر ساعه عطائه انه ادّخر لياخذ، اما ان ياخذ ان طرات له الاغيار في الدنيا، واما ان ياخذ من يد الله في الاخره اضعافا مضاعفه. اذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياه ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ او استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمه الله في الوجود، لان الله ما دام قد خلقنا، وفينا القادر، وفينا العاجز، فقد اراد الله لنا ان نعرف ان القدره ليست لازمه في الخلق. فان قدرت الان فقد تُسلب- بضم التاء- منك هذه القدره، وما دامت القدره يتم سلبها، فلابد ان يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدره لك ايها المؤمن دائما، وذلك حتي يعرف الواحد منا انه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المساله. لا. انّ القدره اغيار تذهب وتجيء. ومادامت الاغيار تذهب وتجيء فلابد ان يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الاعلي.

وقلنا سابقا: ان الله جعل المنفقين وصفا من اوصاف الذين اتقوا، والذين اعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار، وذلك حتي يحمي الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمه في الوجود. ان الانفاق ليس اخذا من العبد، انما هو مناوله، هذه المناوله تتضح في انه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، الا بحركتك في الحياه.

وهذه الحركه في الحياه تتطلب عقلا يخطط للحركه وجوارح تنفذ المخطط الفكري، وماده يتم الفعل فيها سواء كانت ارضا تتم زراعتها او اله يتم الصنع بها، ولا شيء للانسان من هذا في الكون. ان المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقه التي تنفذ هي عطاء من الله. ونحن نري في الحياه انسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد انسانا اخر قد نزع الله منه الطاقه التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ الماده التي يتفاعل معها.

اذن فلا شيء من هذه الاشياء ذاتي للانسان، انها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. ان الله لا ياخذ هذا الحق لنفسه انما يريده الله لاخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك اذا عنَّت لك حاجه بسبب الاغيار.

نرشح لك

أهم أخبار رمضان

Comments

عاجل