المحتوى الرئيسى

عبد الوهاب المسيري: مفكر القرن الخالد

08/13 04:11

تمثل الذكري السابعه لرحيل المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيرى -رحمه الله، لحظه خاصه للتدبر والتفكر ولحظه للمعرفه والاراده والتامل، يبدا منها جيل تلاميذه في استكمال مساره التجديدي وتحمل المسئوليه الفكريه، لاستئناف جهود المسيري في ابداع نماذج تحليليه وتفسيريه جديده تنفتح علي الافق الانساني، وتتطلع الي تجديد المنهجيه المعرفيه العربيه الاسلاميه.

شكل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، حاله متميزه وفريده في تاريخ الفكر العربي والاسلامي المعاصر، حاله ترتقي الي حد الاستثنائيه، ليس فقط بالنظر الي شموليه اهتماماته المعرفيه في مجالات الادب والنقد وفلسفه التاريخ والعمل الموسوعي والترجمه، ولكن بالنظر اساسًا الي اصالته الابداعيه في مجال التنظير الاكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي.

لقد كان صاحب رؤيه فلسفيه حضاريه تؤمن بتعدد ابعاد مشروع التاسيس الحضاري في مجالات العلم والمعرفه والاخلاق والقيم والسياسه والاجتماع، مما جعله يؤسس مشروعًا فكريًّا تجديديًّا منهجيًّا له امتدادات ايمانيه وانسانيه، بما يمتلكه من ادوات واليات صياغه وصقل جوانب اساسيه في الهويه العربيه الاسلاميه.

كما يعد المسيري احد ابرز المهتمين بالقضايا المعرفيه والمنهجيه، حيث طور دراسه النماذج المعرفيه وتعمق في دراسه الفكر الغربي والحضاره الغربيه، من خلال بناء معالم منهجيه ابستيميه في التعامل مع التراث الانساني عمومًا والتراث الغربي خصوصًا، تعاملًا علميًّا ونقديًّا يستوعب ايجابياته ويتجاوز قصوره وسلبياته، واعمال اليه النقد من الداخل، بما يمنح القدره علي تحسين الاداء النظري والتفسيري في محاوله ادراك الواقع بشكل اكثر تركيبًا، دون الاستنامه للمقولات الاختزاليه العامه والجاهزه.

يمكن اعتبار الحاله التي يمثلها المسيري -رحمه الله- ظاهره بحد ذاتها، لا يمكن فك رموزها الا من خلال تطبيق ما انتجه من مفاهيم ومنهجيات عليها، تلك التي صاغها حول النموذج المعرفي وتطبيقه في دراسه الظواهر الانسانيه، من اجل دراسه الظاهره المسيريه وبحثها.

لقد جسدت مسيره عبد الوهاب المسيري مسار الباحث المهموم بشؤون العلم والمعرفه والمحترق بنار الاسئله القلقه والاشكالات المركبه؛ حيث عرفت رحلته الفكريه منعطفات مفصليه وتحولات عميقه، ابتدات بالمسيري التقليداني والمحافظ الي المسيري القومي الساذج، مرورًا بالانتماء الي الاخوان المسلمين ثم تبني الماركسيه لتتوج بالارتباط بالاسلام المتحرر والمنفتح واعتماده ارضيه للاجتهاد والنهضه الحضاريه؛ والغريب في ذلك ان الرجل وهو يتحول ايديولوجيا لم يتحول سلوكيًّا وقيميًّا، فهو شخص محافظ مستقيم، بل حتي فتره شيوعيته اعتبرها كانت ماركسيه علي سنه الله ورسوله.

يقول المسيري في ذلك:"(...) بدات مسيره الالحاد، ورغم انني في ذلك الوقت لم اكن اؤمن بالله، الا انني كنت اؤمن بالقيم المطلقه للانسان والقيم المطلقه للاخلاق، وكان هذا الايمان بالمطلقات يتنافي مع الالحاد الكامل، وهو ايمان بثوابت ومنطلقات لا يمكن ان تستند الي عالم الماده وعالم الطبيعه، ولكنها تستند الي الله، ويمكن القول ان هذه الفتره يمكن ان نسميها مرحله التساؤل العميقه" (...) لقد التحقت في بدايه حياتي لفتره قصيره بـ"الاخوان المسلمين" في مرحله الصبا، ثم اتجهت الي الماركسيه، وعشت مرحله من الشك ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقه مثل الحق والخير والجمال والايمان بان الانسان كائن غير مادي وضروره اقامه العدل في الارض، وبالتدريج وعلي مدي رحله فكريه استغرقت اكثر من ثلاثين عامًا عدت مره اخري الي الاسلام لا كعقيده دينيه وحسب ولا كشعائر، وانما كرؤيه للكون وللحياه وكايديولوجيه، فرغم التحولات التي مررت بها، فان مكونات رؤيتي وعناصرها الاساسيه لم تتغير، رغم تغير بعض الاسس الفلسفيه، ورغم تغير المنهج. فجوهر رؤيتي للعالم ان الانسان كائن فريد وليس كائنا ماديا.

ويضيف المسيري:"ان الايمان لم يولد داخلي الا من خلال رحله طويله وعميقه، انه ايمان يستند الي رحله عقليه طويله، ولذا فانه ايمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحيه فهو يستند الي عجز المقولات الماديه عن تفسير الانسان والي ضروره اللجوء الي مقولات فلسفيه اكثر تركيبيه"؛ انها "سيره انسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام"

الابعاد المنهجيه في مشروع المسيري:

توفر في المسيري خصائص لا تكاد تجتمع لاحد، وقلما تتوفر للكثيرين واحده منها، تتمثل اهم هذه الخصائص في كونه مفكرًا منهجيًّا بامتياز، طور النماذج التفسيريه والتحليليه سواء في ابحاثه في الصهيونيه او ابحاثه في العلمانيه او دراسته في النقد الأدبي، حيث تميزت المدرسه الفكريه المسيريه علي غيرها من المدارس باعاده التفكير في طرق التفكير السائده بهدف تطوير الاداء التنظيري والتفسيري الذي يمكن من ادراك الواقع بشكل اكثر تركيبًا، حسب ما جاء في موسوعته، التي قدم فيها سلاحًا معرفيًّا فاعلًا في الصراع مع الصهيونيه.

وتتجلي هذه الابعاد المنهجيه عنده، في قدرته علي توظيف النماذج التفسيريه كادوات تحليليهً، وهي اضافه منهجيه ونوعيه انتجت عملًا فكريًّا متكاملًا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي اعمال اخري تتوزع علي حقول معرفيه مختلفه ومترابطه في الان نفسه، فهو يربط بين دوائر فكره المختلفه ربطًا مركبًا عبر نماذج تحليليه، فهو يتميز بالترابط المنهجي بين مجالات بحثه المتباعده نظريًّا، فمدخله الي الصهيونيه كان دارسته الادبيه ومن الصهيونيه وصل الي العلمانيه ثم الي ظاهره التحيز.

اذ لا يري المتتبع لمشروعه تناقضًا في ان يكتب المسيري في اليهوديه والصهيونيه، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثه وفي العلمانيه كنموذج معرفي وفي التحيز الاكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الاسلامي الجديد وقصص الاطفال، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الانسانيه المتجاوزه، وبهذا تحول النموذج التفسيري لدي المسيري الي كائن معرفي حي، يتفاعل مع الظاهره معرفيًّا، وينمو معها فهمًا وتفسيرًا وتنبؤًا.

بل يلاحظ المتتبع لاعماله، الاصرار علي نقد المنهج وبناء المنهج، في حركه دافعه الي الامام عرضًا للافكار ونزولًا الي الجذور وغوصًا في الاعماق وتاسيسًا واعيًا لمفهوم التحيز، الذي لن ننهض بدونه، سوي في اعاده انتاج البؤس المعرفي - المنهجي في الوقت الراهن، فالتحيز عنده مساله حتميه في الخطاب الانساني، مرتبط ببنيه العقل الانساني ذاتها، فالعقل الانساني لا يدرك الواقع مباشره، وانما يدركه من خلال نموذج معرفي محمل بالاشواق والاوهام والذكريات والاساطير والمصالح، ولذلك تاتي اهميه كتابات المسيري محاوله واعيه لفهم الاخر ونقد الذات في فهمها للاخر، ثم الارتقاء الي مرحله الوعي للنماذج الادراكيه وبناء تلك النماذج وتاثيرها في الواقع وبيان موقعها في شبكه الادراك وصله ذلك كله بالسلوك الانساني.

ومن ناحيه اخري، تكمن اهميه ما يقدمه في تاسيس نقده للخطاب الغربي علي ادوات تحليليه مقاومه ومؤسسه لمسار جديد في الخطاب المعرفي الاسلامي المعاصر، يضمن للمناهج العلميه استقلالًا من القفص الحديدي الاكاديمي الغربي وتحررًا منه؛ وهذا لا يعني قطيعه معرفيه مطلقه مع ما انتجته الحضاره الغربيه، بل يُعَدُّ من قبيل الاستيعاب والتجاوز.

لقد قدم لنا مشروع مدرسه حضاريه تؤمن بقدره العقل الانساني علي انتاج وابداع المعرفه، فلم تكن الخريطه المعرفيه المسِيِرِيِه، خريطه فوتوغرَافِيه، تري الواقع في وقائعه الـمتَنَاثره ولا تَتَجاوزه وتتخطاهُ، الي رؤيه هذه الوقائع من خلال لَمِّ شَعَثِ محركاتها عبر"نماذج مجردَه"، وما ذلك الا لانَه يري في العقل قدره خلاقه ومبدعه، وليس صفحه بيضاء تدحرج علَيها الصور الفوتوغرَافِيه بجمود، بلَ شاكس لدحض هذه العَقليه الاختزالِيه التي اصبحت سائده بشكل مرضي في الاكاديميات العربيه وَالاسلاميه عمومًا، من خلال امتلاك القدره علي التفكير المختلف، المتسم بالروح التجديديه ولا يقع في فخ النمطيه او التقليديه.

لم يكن الراحل موسوعيًّا فقط، فالي جانب اسهاماته الفكريه لم ينس دوره الكفاحي والنضالي، فاصبح مهمومًا بقضايا امته ومهووسًا بقضايا وطنه، حيث شارك بصلابه في النضال السياسي، ليمثل بذلك نموذجًا للمثقف الذي يخرج من برجه العاجي ليتقدم المظاهرات الاحتجاجيه وليقود حركه التمرد السلمي في الشارع، ويجسد نموذج المثقف الذي لا يريد البقاء منعزلًا عن هموم مجتمعه، وقد وصل نضاله مداه من مواجهه الصهيونيه مرورًا بمواجهه العولمه وانتهاءً بالانخراط في الحركه المصريه للاصلاح والتغيير (كفايه) وتزعمها، فبالرغم من صعوبه المرض الذي الم به، والالم الذي رافقه فيها/ سرطان الدم وقائمه امراض اخري كفيله بهزيمه اقوي الاجساد، ظلت روحه المتالقه والشفافه الاقوي اراده والاصلب عودًا لسنوات، تحمل معها عناء الالم، والم المضايقات الامنيه وهمجيتها، حيث اعطي المسيري وانتج للامه ولكنه ناضل بين احضان الوطن.

كانت اخر كلمات المسيري قبل رحيله -حسب زوجته- معبره عن امنياته بان يري تداولًا للسلطه في مصر، ودعوته المصريين للالتفاف حول حركه كفايه وغيرها من حركات المعارضه الداعيه للتغيير والاصلاح في مصر، هكذا المعني عند الدكتور عبد الوهاب المسيري ولادًا دائمًا متجددًا دائمًا متدفقًا، محطمًا الحدود بين النضال الاكاديمي والنضال السياسي علي ارض الواقع، ولاحمًا بذلك البعد الاكاديمي بالبعد النضالي، ومكسرًا المسافات بين عالم العواطف وعالم الافكار، بين الذاتي والموضوعي.

لقد ترك لنا المسيري دروسًا بالغه، لعل اهمها درس الابداع والتجديد عوضًا عن التقليد والجمود، ودرس الانحياز للتركيب بدلًا للتبسيط والتجزيء، وحتميه التَّحيُّز لفكره النموذج علي حساب النزعه المعلوماتيه، كما اعاد ربط المعرفه بالقيم من خلال طرح الاسئله الكليه والنهائيه، وكافح بشراسه من اجل الرؤيه الانسانيه المتجاوزه علي حساب الرؤيه الماديه/الطبيعيه، مدافعًا بذلك عن الانسان ومقاومًا كل محاولات مسخه وتفكيكه وتسليعه عبر علمنته الشامله، فيما دافع عن رحابه التراحم في المجتمع رافضًا اختراق الاليات التعاقديه لبنيته، كما علمنا المسيري انه لا قيمه للفكر اذا لم يتحول الي فعل حي ملهم للجماهير ومعبر عن امالها وتطلعاتها، ومنحاز لهمومها وقضاياها، يسهم في تمليكهم وعي اللحظه والاحساس بالتحديات ومواجهتها.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل