المحتوى الرئيسى

ثورةُ الأبكم في جنْح الليل

08/12 04:26

للثورات معان كبيره لم افهمها ابداً. كنت اعتقد فقط بان الثوره هي رده فعل تنشا طلباً للحريه، وهي الدفاع عن اي انسان وفي اي مكان لكي يتمكن من ممارسه حقه في الايمان او عدم الايمان بما يشاء. واعتقدت ايضاً بان الثوره هي كلمه كبيره تعطي لكبار الشخصيات كتشي جيفارا، نيلسون مانديلا، روزا باركس، غسان كنفاني، ناجي العلي او اخرين كثر لن تكفي السطور القليله هذه لتعدادهم.

اعتقدت بان للثوره ثمناً باهظاً وهو السجن، التعذيب، الموت والاغتيال. لم اكن اعلم بان هناك من الثوريين مَن يموتون في صمت وفي جنح الظلام. كامراه قتلها زوجها حين القي عليها بطنجره طبخ. او كطفل حُرش به جنسياً وسلبت طفولته فصار يثور في صمت. كبرت وازدادت خبرتي ووعيي في الحياه، صرت استمع لقصص البسطاء بعيداً عن قصص الثوار الكبار. لم اتحمل يوماً الاضواء ولا من يلهثون وراء النجوميه والمحطات والشهره والكراسي المخمليه الكبيره.

استغربت كثيراً حين ازداد وعيي بان البسطاء قد يكونون ايضا اكثر شجاعه من تشي جيفارا ومن مارتن لوثر كينج ولكنهم يثورون بصمت، ويثورون في جنح الليل ومن دون عدسات كاميرا مكبره ومن دون اصوات.

فكرت بامي وبمصيرها وببؤسها وتخيلتها من الثوار الصامتين ايضاً. ثائره تتكبد الويلات بصمت وتثور من خلال اصرارها علي تعليمنا. هي الفقيره والاميه والتي قضت كامل حياتها في خدمه اطفالها وتربيتهم. امي الارمله ذات الايدي الخشنه من غسل الصحون وتحضير الطعام لابنائها الاثني عشر. هي تلك القديسه التي تتحمل الفقر والجوع بصمت. كنا كاي عائله فقيره وبسيطه لا تمتلك في الحياه سوي الكرامه كقوت يومي تثور بصمت للحفاظ علي بقائها.

صرت افكر في جارتنا السودانيه وفي اولادها السبعه، وكنت اراها ترحل الي العمل من الساعه السادسه صباحاً وحتي الساعه التاسعه لتطعم اطفالها طعم الشقاء. هي ايضاً كانت تثور في صمت وفي جنح الليل.

انتقلت من بلد لاخر، سافرت بحثاً عن بلاد ثار فقراؤها واصبحوا اسياداً. وصلت الي فرنسا بعد عناء طويل ورايت بان الثوره مرت من هنا منذ سنين عده. كنت في البدايه فرحه للغايه وكمستشرقه صرت اكتشف كل ما هو جديد و«اكزوتيك» في الثقافه الفرنسيه. ابتلعت ثقافتهم وتمرست لغتهم ونظرات عيونهم وايماءاتهم.

صرت اقرا الصحف يومياً، اتابع الاخبار، واستمع الي جانيت وماري كلير جارتي العجوزتين اللتين تزودانني باخر الاخبار. في فرنسا كي تعلم ما ستؤول اليه البلاد عليك بالعجزه. فالمسنات سيخبرنك من سيقوم بالانتخاب فتعرف مسبقاً برئيس الدوله القادم.

فكرت فعلاً بان الثورة الفرنسية لا تزال في شبابها وبان الفرنسيين هم روادها، يلقنون «العالم الثالث» دروسا في الحريات.

وصلت الي هنا بعد معاناه طويله في الحصول علي اللجوء. كنت احلم بان النوم علي الرصيف في فرنسا هو الهناء والجنه التي ستبعدني عن نار البلاد العربيه. كنت احلم بفولتير وفكتور هوغو وفوكو والبير كامو. حلمت بهم احياء يرزقون وحلمت بجان جوريس وقيمه ومبادئه وبانسانيته. حلمت بهم جميعهم هناك يستعدون لاستقبالي علي الحدود. كل هذه الاحلام تلاشت فلم يكن احد منهم هناك ولم اشعر بوجودهم حتي في عالمي وواقعي في شوارع فرنسا المظلمه، وارصفتها البارده.

اصطدمت بالواقع وبخاصه حين اضطررت الي الوقوف لساعات طويله امام مبني «البريفكتور» لانتظار دوري لختم ورقه تثبت وجودي «الشرعي» علي ارض فرنسا.

صرت اشتم روائح العنصريه الاولي ولم يعد «بؤساء» هوغو امامي. واصبحت اري وجوهاً لثوريين جدد، لا يعلم بهم احد¡ ثوريين لاجئين يثورون في صمت، نلقي بهم في البحر ونغرق سفنهم الصغيره ونعيدهم الي حيث كانوا للقاء الموت.

ابتدات اولي اكتشافاتي في «البريفكتور» وهو مكان الاوراق الثبوتيه لابد من التوجه اليه في بدايه المشوار لطلب اللجوء.

صرت انظر الي الطابور من امامي واتفحص وجوه اللاجئين. كلنا ذوو اصحاب بشره بنيه وسوداء ويوجد فيما بيننا غجر باسنان ذهبيه.

صرت اتفحص وجه المراه الموظفه هناك، ذات الاربعين عاماً تستقبل الطلبات بعد ارتدائها لقفازات بيضاء بلاستيكيه. استغربت من الامر واعتقدت باننا نحن المهاجرين وطالبي اللجوء مريضون سننقل العدوي لها.

خطر في بالي وزراء خارجيه، وسفراء فرنسيون كانوا يذهبون الي بلادنا والي مستعمراتهم القديمه، ليبحثوا فيها عن اجساد شابه ونضره ليزجوا بها في الصفوف الاولي عند الحرب، للدفاع عن فرنسا. كانوا يبحثون ايضا عن عمال يقومون بتشييد وبناء فرنسا من جديد بعد دمار الحرب وخسارتها البشريه وقله الايدي العامله.

فكرت بالالاف من جثث الجزائريين تطفو علي نهر السين في باريس. هم الذين لم تعترف بقتلهم الدوله لما يزيد عن الخمسين عاماً.

وفكرت في اخرين سلبوا ثقافتهم وحقهم في الوجود ولا نزال لا نعلم عن حقيقه موتهم شيئاً.

فكرت في الاف المهاجرين الايطاليين والبرتغاليين والاسبان وبخيمهم التي نصبوها علي شواطئ فرنسا الجنوبيه بعد رحله طويله وشاقه هرباً من فرانكو وموسوليني وبحثاً عن الامان والحريه والعمل. فكرت في ثقل حقائبهم وفي املهم في بناء مستقبل جيد لابنائهم.

اعادني صراخ موظفه اخري الي الطابور في «البريفكتور». كانت تصرخ في وجه رجل عربي مسن، وتخبره بلكنتها الحاده بانها ملته لكونها لا تفهم فرنسيته الضعيفه.

سارعت فتاه من الواقفين في الطابور للترجمه ولمساعدته.

لم تحترم الموظفه خصوصيه الرجل ولا سنه ولا حتي حقيقه كونه من الذين حاربوا من اجل الدفاع عن بلادها، وكانوا في الصفوف الاولي لتلقي الرصاص. لم تعلم الانسه بانها مدينه لهذا الرجل برفاهيتها التي تستمتع بها الان.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل