المحتوى الرئيسى

قصة الاستشراق الألماني

08/09 20:45

منذ الحروب الصليبيه في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، والغرب لا يزال يستكشف العالم الاسلامي من كافه جوانبه، هذا العالم الذي غزاهم في عقر دارهم شرقًا من بيزنطه وغربا من الاندلس وجنوبًا من صقليه وايطاليا، وهو العالم الذي احتكر طرق التجاره، ومصدر الصناعات، ومركز الاقتصاد العالمي لقرون عديده، لذا كان استكشاف البني المعرفيه والثقافيه التي قام عليها هذا العملاق الاسلامي في الشرق، ضروره ملحه املاها الواقع علي الغرب في كافه اطواره، ضعيفًا ثم قوياً ومسيطرًا.

وقد اطلق علي الدراسات التي تعرّفت علي الشرق من قبل الغرب فكريًا وثقافيًا ومعرفيًا، اسم استشراق، وان تم تكثيف هذه المعرفه منذ فتح القسطنطينيه في القرن الخامس عشر الميلادى، ثم شهدت طفره كبيره في ظل الاستعمار الغربي منذ القرن الثامن والتاسع عشر.

وقد تنوعت اهداف ومضامين الدراسات الاستشراقيه، وجولات المستشرقين والرحّاله الغربيين في عالمنا الاسلامي، وكان علي راسها تمهيد الطريق للاستعمار والتبشير، ومنها من خدم التراث العربي والاسلامي خدمه جليله باعاده اخراجه للنور، واقامه المناقشات العلميه حوله، وهي الحلقات والدراسات التي انقسمت علي نفسها بين متعسف ومنصف، وبين دعي وحاذق[1].

يري ادوارد سعيد عده تعريفات للاستشراق منها انه "اسلوب في التفكير مبني علي تميّز متعلق بوجود المعرفه بين "الشرق" ( معظم الوقت) وبين الغرب". ويضيف سعيد بان الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي او حقل بحثي ينعكس سلباً باختلاف الثقافات والدراسـات او المؤسسات، وليس تكديساً لمجموعه كبيره من النصوص حول المشرق … انه بالتالي توزيع للوعي الجغرافي الي نصوص جماليه وعلميه واقتصاديه واجتماعيه وفي فقه اللغه. وفي موضع اخر يُعرّف سعيد الاستشراق بانه  المجال المعرفي او العلم الذي يُتوصل به الي الشرق بصوره منظمّه كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق. ويقول في موضع اخر "انّ الاستشراق: نوع من الاسقاط الغربي علي الشرق واراده حكم الغرب للشرق"[2].

اما المدارس الاستشراقيه الغربيه فقد تنوعت بحسب اقطارها واهدافها، وحسبنا ان نبدا بالمدرسه الالمانيه لانها امتازت منذ القرن الثامن عشر في ظل رائدها يوهان جاكوب رايسكه (1716- 1774)، بخصائص منها:

- انها لم تكن نتيجه لاهداف سياسيه واستعماريه. ولم تكن وثيقه الصله بالاهداف الدينيه التبشيريه كدول اخري مثل فرنسا وانكلترا وايطاليا، بل علي العكس كان الالمان علي علاقه طيبه بالدوله العثمانيه، فقد تحالفوا معها في الحرب العالميه الأولى[3].

- غلبه الروح العلميه وتقصي الحقائق علي الدراسات الشرقيه في المانيا، فهي تمتاز بالعمق والشموليه.

- ما يبرزها عن غيرها من المدارس الاستشراقيه الاخري هو الاهتمام بالقديم والتركيز علي دراسه التراث العربي وخدمه التراث. بدا الاهتمام باللغات الشرقيه مرتبطاً بعلم اللاهوت. وكانت اللغه العبريه هي اساس هذه الدراسات ثم ما لبثت اللغه العربيه والاسلام ان لقيا الاهتمام في اعقاب القرون الوسطي والدخول في عصور النهضه. ولعل ابرز ما قام به المستشرقون الالمان في مجال اللغه والتاريخ العربيين والدراسات الإسلامية هو انهم جمعوا ونشروا وفهرسوا المخطوطات العربيه والنصوص القديمه[4].

لقد ساهم المستشرقون الالمان اكثرَ من سواهم بجمع ونشر وفهرسه المخطوطات العربيه، وخصوصًا كتب المراجع والاصول المهمه، ونشر المخطوطات، فان اهمَّ ما قام به المستشرقون الالمان وضعُ المعاجم العربيه؛ فقد وضع فرايتاج (1788 - 1861) المعجمَ العربي اللاتيني في اربعه اجزاء، ثم وضع فيشر (1865 - 1949م) معجمًا للغه العربيه الفصحي، وقاموس هانزفير (1909 - 1981م) العربي - الالماني للغه العربيه المعاصره، وقاموس شراكل (1923م) الالماني - العربي، الذي صدر سنه 1974، والقاموس الضخم للغه العربيه الفصحي الذي عمل عليه اولمان (1931) في جامعه توبنجن، وفي سنه 1980م كان قد وصل الي حرف الكاف (ك)، وفي سنه 2000 انتقل العمل علي هذا القاموس الي جامعه ميونيخ، ووصل الي حرف الميم (م)، وان العمل علي هذا القاموس سيستغرق مائه سنه ونيِّفًا، علي الرغم من الامكانات التكنولوجيه والماديه المتوفره، وعلي رغم ان الذي يعمل علي هذا القاموس هو فريق عمل!

ومن حسن الحظ وسوئه في انٍ واحد ان الافَ المخطوطات العربيه والاسلاميه قد وجدتْ طريقَها نحو المكتبات الالمانيه[5]، فربما لو ظلَّت قابعهً في اماكنها لقُضِي عليها، وقد الت الي المكتبات الالمانيه في الجامعات والبلديات، من خلال الشراء والاستيلاء عليها من الاقطار العربيه، لكنها - وبحق - وجدت مَن يسعي الي حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل علي تحقيقها، وان نظره في اعداد هذه المخطوطات لتوضِّح لنا اهميتَها كذخائرَ تراثيه لا تقدَّر بثمن[6].

وانّ اكبر الافادات من بحوث الالمان في التاريخ العربي القديم، تمت علي يد الدكتور جواد علي صاحب الكتاب القيّم "المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام"، في عشر مجلدات؛ فقد رجع الرجل الي سته وعشرين كتابا المانيا، وحوالي الاربعمائه مقال للباحثين الالمان من بوركهاتر وغلازر والي هومل وماريا هوفنر ورودو كاناكس والتهايم. وما يزال الذين يؤلفون الكتب المدرسيه للجامعات عن تاريخ العرب القديم يرجعون الي دراسات هؤلاء العلماء عبر كتاب جواد علي دونما ذكر له في كثير من الاحيان.

علي ان اكبر تاثير للاستشراق الالماني في مجال التاريخ والكتابه التاريخيه جاء من خلال كتاب يوليوس فلهاوزن المشهور: الدوله العربيه وسقوطها، وقد صدر الكتاب عام 1901م، وتُرجم الي الانجليزيه، وبدا الدارسون العرب يعرفونه من خلال تلك الترجمه. ثم ترجم الي العربيه مرتين بمصر والشام، علي يد عبد الرحمن بدوي ويوسف العش، وقد اثر في الكتابه التاريخيه العربيه تاثيرا كبيرا.

وتبعا لميله الاول اعتبر فلهاوزن العصر الاموي استمرارا للعصر الراشدي من حيث الطابع العام: العربي. وقد سايره في ذلك مستشرقون من مثل هنري لامنس اليسوعي الفرنسي، لكن لاسباب مختلفه[7].

ولا بد لمن يتناول الاستشراق الالماني ان لا يُهمل الحديث عن تيودور نولدكه (1836- 1930م) ، الذي اهتم بالابحاث القرانيه، الي جانب اهتمامه بالشعر العربي القديم وخصوصاً المعلقات. وكذلك كارل بروكلمان (1868- 1956م)، الذي اهتم بتاريخ الادب العربي، ووضع كتابه الشهير "تاريخ الادب العربي"، الذي ظهر الجزء الاول منه اواخر القرن التاسع عشر، والذي عمل عليه طوال نصف قرن من الزمن، ونقله الي العربيه بتكليف من جامعه الدول العربيه: عبد الحليم النجار، ونشرته دار المعارف في مصر في ثلاثه اجزاء. وكتاب اخر مهم تركه لنا بروكلما هو "تاريخ الشعوب والدول الإسلامية"، الذي ظهر سنه 1939م، ونقله الي العربيه نبيه امين فارس ومنير بعلبكي سنه (1949- 1951م). وكتابه الرائد "قواعد اللغات الساميه" في مجلدين ضخمين 1961م[8].

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل