المحتوى الرئيسى

محمود عبد الله التهامي يكتب: غواية الحكي في الليالي العربية | ساسة بوست

08/08 01:08

منذ 20 دقيقه، 8 اغسطس,2015

بمجرد ان تتصدر الكلامَ الجملهُ الاثيريهُ: بلغني ايها الملك السعيد، يجد الانسان نفسه وسط سيل من الحكايات والاحداث التي لا تنتهي، تستطيع الحكايه -بدورها التاريخي في تقديم العبره والموعظه والتسليه- ان تخلق عالما جديدا، وتظل وسيله الانسان لبيان افكاره ومعانيه، ونشر القيم بين افراد المجتمع فضلا عن وظيفتها التربويه في تعليم النشء، وفي دراسته “ألف ليلة وليلة الروايه الاولي “يقول مصطفي الضبع: تظل الحكايه الفن الاكثر قدره علي التغلغل في النفس الانسانيه، والاقدر علي التاثير في متلقيها بشتي وسائل التلقي”.

ولاقت حكايات “الف ليله وليله” انتشار واسعًا في العالم بعدما اكتشفها المستشرق الفرنسي انطوان جالان وترجمها للفرنسيه عام 1704م، ولحكايات الليالي شكلا ربما فرضتْ هذا الشكل شهرزاد تلك الشخصيه المسيطره علي عمليه الحكي بصوره كبيره، فالحكايه التي لا تتضمن اعاجيب تثير بها قلق الملك وتحفزه لانتظار البقيه سوف تثير فيه الملل يدفعه للتخلص منها، اوجبت علي نفسها شكلا اصبح سمه من سمات الحكي الشهرزادي، وتعدي ذلك الي شخوصها فاصبحوا بدورهم يحكون بنفس طريقتها، فالحكايه عجيبه واسطوريه تثير الدهشه، وهي تتظاهر كلما انتهت من واحده ان لديها ما هو اعجب! لتظل مستحوذه علي الملك حتي اللحظات الاخيره حين تُمنح العفو. تطلب منه الاذن في البدايه لتكون حيله خفيه لتتمكن بعد ذلك من اثاره السؤال السرمدي الذي يُجنبها الموت: وماذا بعد؟

ولقد دفعت شهرزاد اختها كمثير للحكي في البدايه، ولم تستمر دنيازاد طويلا ليحتل مكانها الفضول الانساني الذي تحكم في اثاره الحكي خلال الليالي ابتدءا من الملك ليمتد الي باقي الشخصيات، لعلها واضحه الدلاله من ناحيه الراوي الاول ليوضح ان الحكايه التي تلقي بنفسها دون مبرر او اثاره لدي المتلقي ربما لا تعود بالنفع او تموت من البدايه، شهرزاد استدعت اختها ورتبت معها الخطه قائله انها سوف تحدثها حديثا فيه الخلاص. ويعتبر ذلك تحديا، ربما لا يكون في الحديث الخلاص ويعود عليها عكسيا، ان الحديث الذي تعنيه لم يكن سوي حكايه.

وصيغت الحكاية الشعبية في قالب يستحوذ علي المتلقي ليتعلق بالحكي، فالحكايه كما اسلفنا اسطوريه لا تتفق مع الاسباب الطبيعيه لقوانين الكون، فالسندباد البحري يستريح فوق جزيره هي في الاصل ظهر سمكه كبيره تتحرك عندما يوقد فوقها النار، واعتمدت ايضا علي تقنيه (تداخل الانواع) فاصبحت الليالي التي يتم سردها بالطريقه النثريه يتداخل في كثير من الاوقات معها الشعر والاغاني لتصبح نصا “عابرا للنوعيه” لتكون الحكايه جامعه للفنون، ولا عجب ان تجد جمع البعض لاشعار الليالي العربيه ليكون ديوان الف ليله وليله. وتحوي الحكايه الكثير من الامثال الشعبيه “ليس في كل مره تسلم الجره” والحكم “من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب” بالاضافه للحديث النبوي وايات القران الكريم.

وكان للسارد الشعبي في الليالي شكلا في الهيكل الفني للحكايه يُفصِّلها داود سلمان الشويلي في دراسته “الف ليله وليله وسحر السرديه العربيه”: وهي بهذا التنظيم الفني الرائع تمثل في بنائها عنقودًا واحدًا اساسه “حكايه المفتتح” حيث تتفرع منها، حكايات اخري اطلقنا عليها اسم “حكايات الاطار” اي الجامعه لنوع اخر من الحكايات، لا تختلف عنها بشيء، ولكنها تدخل في بنائها ومحتواها، وقد اسمينا هذا النوع من الحكايات، بحكايات “التضمين” اي الحكايات التي جاءت ضمن حكايات “الاطار” وقد توالدت حكايات اخري داخل حكايات “التضمين” اسميناها حكايات “خارج السياق” لان حكايات “التضمين” لها ما يعلل سبب ورودها داخل حكايات “الاطار” حيث ترتبط بالمحتوي العام بوشيجه او اخري، كان تكون بسبب حكمتها، لانها تحمل دلالاتها الرمزيه لحديث ما، او ان تكون للتسليه، او… الخ، ولكن حكايات “خارج السياق” لا تفيد المحتوي العام لحكايات “الاطار” بشيء اللهم الا افاده حكايات “التضمين”.

وعلي الرغم من ان الليالي صنعت عالما لا يتقيد بالعلل الطبيعيه للاحداث فانها اصرت علي انتماء هذا العالم الخيالي الاسطوري للواقع وعدم الانفصال عنه، ووضح ذلك من استدعاء الراوي للشخصيات الحقيقيه المعروفه والاماكن المشهوره، فمن الخلفاء هارون الرشيد، والوزراء جعفر البرمكي، والشخصيات المشهوره باعمال الكرم حاتم الطائي، ومن الشعراء جميل بن معمر وغيرهم الكثير، ومن المدن بغداد والبصره ودمشق والاسكندريه.

واستُخدمت اللغه الشفويه في الحكايات للدلاله علي تلك اللحظه التي تجمع بين شهرزاد الراوي وشهريار المستمع، وراعي ذلك ظهور المخاطب في حديث المتكلم “بلغني ايها الملك السعيد” ولم يكن منبع الدهشه بالليالي تلك الاحداث الغريبه المسروده بل ساهمت اللغه في اثاره الدهشه، ويمكنك ان تلاحظ ذلك مع وصف عفريت الصياد “ثم انتفض فصار عفريتا راسه في السحاب ورجلاه في التراب؛ براس كالقبه، وايد كالمداري، ورجلين كالصواري، وفم كالمغاره، واسنان كالحجاره، ومناخير كالابريق، وعينين كسراجين، اشعث اغبر”

ان شخصيات الليالي تتمتع بفائض من الحكايات، فكل انسان لديه حكايه ما، يستطيع ان يحكي للاخرين ما شاهده وما وقع معه في الحياه، فالرَّحاله لديهم مغامرات الطواف بالدنيا، والخلفاء عندهم عجائب الحكم والسياسه، والمشعوذين والسحره، والبحر للصياد مخبا للحكايات، والعلماء عندهم ما طالعوه مثلما كانت شهرزاد واسعه القراءه، يقول الراوي الاول: “وكان الوزير له بنتان، الكبيره اسمها شهرزاد والصغيره اسمها دنيازاد، وكانت الكبيره قد قرات الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين واخبار الامم الماضين. قيل انها جمعت الف كتاب من كتب التواريخ المتعلقه بالامم السالفه والملوك الخاليه والشعراء”.

وظفت الليالي الحكايه لادوار جديده، واثبتت قدرتها علي اداء الادوار، كانت وسيله شهرزاد للافلات من عقاب الملك، استطاعت ان تجذبه لفتره طويله جدا لم يشعر معها الملك بالملل، هذبت فيها روحه وعقله، واستخدمت الحكايات لاهداف مثل:

ان ملك الصين عزم علي قتل النصراني والمباشر واليهودي والخياط لاشتراكهم في قتل الاحدب المهرج، لكنهم ينجون من العقاب بعدما يحكون حكايه اعجب من قصه الاحدب “فعند ذلك تقدم المباشر الي ملك الصين وقال: ان اذنت لي حكيت لك حكايه اتفقت لي في تلك المده قبل ان اجد هذا الاحدب وان كانت اعجب من حديثه تهب لنا ارواحنا. فقال الملك: هات من عندك”.

ففي حكايه التاجر والعفريت اشترك ثلاثه من الشيوخ في سرد ما وقع لهم من العجائب مقابل ان يعفي العفريت عن التاجر ويهب روحه لهم فيطلقون سراحه، ويستطيع الوزير جعفر ان يخلص رقبه عبده ريحان من العقاب في مقابل ان يحكي للخليفه قصه شمس الدين واخيه نور الدين.

ووسط التدفق السردي يتوقف انسان ليعلن عن موقفه وما يقع عليه من الهم، فيعبر عن ذلك بامتناعه عن الحكي، ففي قصه الصياد والعفريت يمتنع الحكيم رويان عن حكايه التمساح ليبدي ضيقه وكربه لكن الملك يصر علي قتله، ويمتنع ايضا العفريت عن حكايه امامه وعاتكه لتنضم الي مجهولات الليالي العربيه التي سكت عنها الراوي.

دفع الحجه بالحجه والانتصار للنفس:

ان شخصيات الليالي تتخذ من الحكايات سلاحها الاول للانتصار وتوضيح الراي، ان الحكايه تظل علي مدار الف ليله وليله ذات وزن وقيمه تتساوي بهما مع حياه انسان لتدفع عنه مكروه وتزيل عنه كربه.

ولانها تحمل هذه القيمه الرفيعه كان لا بد من الاحتفاظ بها، ان سجلات الامراء والملوك حوت الكثير من الحكايات، فنحن نجد انه في نهايه السرد يامر المستمع -ان كانت له سلطه- بتدوين هذا الحكي العجيب. كما ان كتب العلماء والشعراء والفلاسفه كانت مكانا ملائما لهذه الحكايات فالمتلقي منذ البدايه لا يعرف لشهرزاد مصدرا الا مطالعتها الواسعه لهذه الكتب، واصبحت ذاكرتها خزانه صالحه وامينه للاحتفاظ بما طالعته لتسرده في اوقات مختلفه ولا يظهر عليها اثر النسيان والاختلاف. ان النص العجيب الذي استمع له شهريار طالعته شهرزاد في الكتب واستقر في الذهن، لكنه في الحقيقه له مكان افتراضي يتضح من اصرارها علي ذكر ذلك المكان الذي يمكننا ان ندون عليه هذا النص، فشهرزاد لا تجدا مكانا يليق بالتدوين خيرا من اماق البصر ولا تجد وسيله غير الابر ولا تجد مدادا خيرا من ماء الذهب، تقول شهرزاد علي لسان احد الشخصيات: حكايتك حكايه عجيبه لو كتبت بالابر علي اماق البصر لكانت عبره لمن اعتبر، ويقول عبد الفتاح كيليطو في دراسته الممتعه “العين والابره دراسه في الف ليله وليله”: هل خطر ببالكم، ذات يوم، ان تكتبوا علي اماق بصركم، بواسطه ابره جد حاده، حكايه برمتها تحمل عبره اخلاقيه؟ كلا بالطبع، سيكون الامر مؤلما للغايه ومستحيلا علي ايه حال، انها مع ذلك الاستعاره التي يستخدمها في غير ما مكان راوي الف ليله وليله كي يبرز في النهايه الطابع الوعظي للحكايه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل